لأول مرة وثائق إسرائيل الممنوعة عن انتصار أكتوبر
نشر أرشيف دولة إسرائيل وأرشيف الجيش الإسرائيلى ما يقرب من عشرة آلاف صفحة من وثائق حرب أكتوبر السرية، التى تم حذف العديد من الأجزاء المهمة منها فى محاولة لإنكار النصر لكن تمكن فريق بحثي من اكتشافها عندما حاولوا كفريق بحث مصرى الاطلاع اكتشفوا أن الجيش الإسرائيلى وضع عقبات تكنولوجية عديدة تحول بين الباحثين المصريين بالتحديد وبين الاطلاع على نصوص الوثائق. واكتشفوا أيضا أن الباحثين الذين يدخلون إلى موقع أرشيف الجيش من دول أخرى غير مصر يسمح لهم بذلك، واكتشفوا أيضا أن الوثائق منشورة على الموقع بطريقة تحول بين طبعها فى نسخة ورقية. وأقول لكم بصراحة إن مشاركة هؤلاء الباحثين المباشرة فى المعارك ضد إسرائيل بدءا من حرب 1967 ومرورا بحرب الاستنزاف ووصولا إلى انتصار أكتوبر 1973 علمتهم ألا يستسلموا أمام الموانع التى تضعها إسرائيل وجيشها على غرار خط حصون بارليف على حافة القناة الذى كان يهدف إلى منعنا من العبور. توكلوا على الله وقبلوا التحدى فأنا أرى أنه من حقنا الوطنى، كمصريين، أن نطالع هذه الوثائق لنتعرف بدقة وبالتفاصيل على الآثار التى أوقعناها فى صفوف القيادات السياسية والعسكرية والمخابراتية، كذلك فإنه من حقنا أن نتيح لباحثينا الشبان فى المجالات المختلفة فرصة الدراسة العميقة للتجربة واستخلاص الدروس المستفادة تحسبا ليوم تقرر أطماع التوسع الإسرائيلية أن تتمدد مرة أخرى فى سيناء. استطاع فريق مصرى من شباب تكنولوجيا المعلومات أن يعاوننى فى تجاوز العقبات ووضعت يدى على ما هو حق لنا، أى جميع الوثائق فى أصولها العبرية. إن هذه القصة يجب أن تثير سؤالا عند القارئ وهو .. لماذا يريد الإسرائيليون حرماننا فى مصر من دراسة هذه الوثائق والاطلاع عليها؟ أعتقد أن محتوى النصوص يجيب عن هذا السؤال. لقد تعمدوا حجب أهم الوثائق الخاصة بالقيادات العليا مدة تتراوح بين أربعين وخمسين سنة وعندما نشروا بعضها مؤخرا حاولوا منعنا من الاطلاع عليها حفاظا على معنويات أجيالهم القديمة والجديدة من الحقائق المريرة التى تكشف عنها التفاصيل والتى دعت الصحف الإسرائيلية رغم مرور أربعة عقود وأكثر إلى وصف أداء الحكومة وقيادة الجيش وقيادة المخابرات بالأداء القزم أمام أداء المصريين العملاق. لقد قررت أن أتيح هذه الوثائق بكاملها للقارئ المصرى باللغة العربية وذلك بترجمتها كاملة بمعاونة فريق من أبناء كتيبة العبرى المصرية الممتازين ونشرها على أجزاء بالمركز القومى للترجمة اعتبارا من أكتوبر عام 2014.
اسمحوا لى بعرض للمعلومات التى لم يسبق نشرها للصحافة الإسرائيلية أو العربية أو الدولية خصوصا أننا عكفنا على دراسة الوثائق والكشف عن الممنوع والمحذوف منها.
المصريون استغلوا محطة تنصت إسرائيلية متطورة لتمرير معلومات مضللة في 1973
صور نادرة من حرب أكتوبر
أولا: المخابرات المصرية تخترق محطة التنصت الإسرائيلية المتطورة فى أم خشيب وتستخدمها لإمداد إسرائيل بمعلومات مضللة. إن هذه إحدى حكايات الأداء المخابراتى المصرى العملاق التى لم تنشر من قبل. كيف توصلنا إلى هذه الحكاية؟ سأحكى لكم.
لقد لاحظت أن الرقابة العسكرية الإسرائيلية قامت بحذف مواضع فى نصوص الوثائق المنشورة تتراوح بين كلمات أحيانا وأسطر أحيانا أخرى وفقرات أحيانا ثالثة. أعطيت تعليماتى لفريق الترجمة بضرورة إثبات هذه المواضع بعبارة «حذف بواسطة الرقابة العسكرية الإسرائيلية بمقدار كذا». كان هدفى أن أعطى الباحثين والقراء فرصة للتقصى والتحرى عن المعلومات المحذوفة فلدينا جيل كامل شارك فى الحرب ويستطيع المعاونة فى هذه المهمة.
لفت نظرى أن هناك حذفا متكررا فى شهادات كبار المسؤولين مثل رئيسة الوزراء جولدا مائير ووزير الدفاع موشيه ديان ورئيس الأركان دافيد اليعازر ورئيس المخابرات العسكرية الياهو زاعيرا. كان الحذف يظهر عندما يسأل أعضاء لجنة أجرانات التى شكلت للتحقيق فى الهزيمة بعد الحرب أحد هؤلاء المسؤولين عما إذا كان الشىء المحذوف قد فتح فى الفترة الحرجة السابقة على الحرب مباشرة. وأحيانا كان السؤال يقول عندما ارتحتم إلى تقدير للموقف يقول إن الحشود المصرية على القناة ليست سوى مناورة هل كان هذا التقدير مستندا إلى معلومات دقيقة وهل تأكدتم من أن الشىء المحذوف قد تم حذفه.
إن الإجابات المباشرة هى الأخرى من جانب المسؤولين كانت تتعرض للحذف حتى لا نفهم ما هو هذا الشىء.
إننى أرجح من قراءتى للوثائق العديدة أن هذا الشىء كان محطة عملاقة متطورة بمعايير ذلك الوقت للتنصت على مقار القيادة المصرية وأحاديث القادة وكان مقرها أم خشيب. كذلك أرجح أن المخابرات المصرية قد اكتشفت هذه المحطة واستطاعت اختراق نظامها وبالتالى استخدمتها فى تمرير معلومات مضللة إلى المخابرات الإسرائيلية لإخفاء النوايا الحقيقية وراء الحشود المصرية. الدليل على ذلك ما ذكره وزير الدفاع موشيه ديان من أن جهازى المخابرات العسكرية والموساد «المخابرات العامة» ظلا مصممين حتى دخول ليل يوم الخامس من أكتوبر ومجىء يوم السادس من أكتوبر على أن احتمال الهجوم المصرى احتمال ضعيف. سأترك تفاصيل هذا الاكتشاف للمخابرات المصرية إذا أرادت أن تعلن عنه بعد مرور كل هذا الزمن. بقى أن أقول إننى فهمت من نصوص الوثائق أن هذا الشىء كان مدخرا للأوقات الحرجة ولم يكن يفتح إلا لفترات قصيرة حتى لا يكتشفه المصريون
مفاجآت جديدة تكتشفها كلما تجولت فى العشرة آلاف صفحة من الوثائق السرية الإسرائيلية الخاصة بحرب أكتوبر والتى أفرجت السلطات عن أهمها اعتبارا من الذكرى الأربعين للحرب.
من المفاجآت التى تستحق التوقف للتأمل والدراسة واستخلاص الدروس المستفادة من جانبنا كما يفعل الإسرائيليون مفاجأة اكتشفتها لجنة أجرانات التى شكلت للتحقيق فى أسباب الهزيمة الإسرائيلية .. لقد كان أحد الأسئلة الرئيسية التى وجهتها اللجنة لرئيسة الوزراء ووزراء الحكومة وقادة الجيش والمخابرات سؤالا ناتجا عن هزيمة المخابرات الإسرائيلية مع معركة الذكاء والخداع والدهاء أمام المخابرات المصرية. كان السؤال الموجه إلى جميع المسؤولين الذين اعتبرتهم اللجنة شهودا يقول: «نريد أن نستمع إلى شهادتك حول المعلومات التى توافرت لديك فى يوم 13/9/1973 عندما أسقط سلاحنا الجوى ثلاث عشرة طائرة سورية وفى الأيام التالية وكذلك حول مساعى وتحركات العدو ونواياه لشن الحرب وأيضا التقديرات والقرارات التى صدرت واتخذت فى هذا الشأن ».
ظلت اللجنة تستمع إلى شهادات كبار المسؤولين وتقارن بين إجاباتهم لتكتشف أين كان التقصير ومن المسؤول عنه حتى وصلت من خلال ما استمعت إليه من رئيسة الوزراء ووزير الدفاع ووزير الخارجية ورئيس الأركان وقائد المخابرات العسكرية ورؤساء الفروع العاملين تحت قيادته إلى ضرورة استدعاء باحث مدنى صغير اسمه سودائى.
.الوثائق السرية الإسرائيلية الخاصة بحرب أكتوبر
من هو ألبرت سودائى:
طلبت اللجنة أن يمثل أمامها ألبرت سودائى الباحث اليهودى العراقى وكان باحثا مدنيا برتبة تعادل رتبة الرائد فى فرع البحوث بالمخابرات العسكرية الإسرائيلية التى كانت مسؤولة عن وضع التقديرات للموقف.
كان سودائى يشغل وظيفة رئيس القسم السياسى بالشعبة المختصة بالشؤون المصرية وهى الشعبة رقم 6 وكان من مواليد العراق عام 1932 وهاجر إلى إسرائيل عام 1950 السؤال هو ما أهمية هذا الباحث المدنى فى الشؤون السياسية المصرية التى لا تقارن أهميتها بالشؤون العسكرية بالنسبة لفرع البحوث بالمخابرات العسكرية ولماذا طلبت لجنة إجرانات الاستماع إليه. لقد كان الدافع المباشر لدى اللجنة أنها علمت من رئيس فرع البحوث بالمخابرات العسكرية العميد شاليف أثناء الاستماع إلى شهادته أن سودائى هذا حاول مقابلة رئيس شعبة البحوث المصرية يوم الخميس الرابع من أكتوبر 1973 ليبلغه برأيه الخاص عن الحشود المصرية غير أنه لم يتمكن لانشغال رئيس القسم.
المذهل فى الأمر أنك عندما تقرأ شهادة سودائى تكتشف أنه قرر أن يتجه إلى منزله عندما حان وقت الانصراف من العمل دون أن ينتظر رئيسه ليبلغه بأنه يعتقد أن المصريين سيهاجمون بالفعل وأن الأمر لم يعد مناورة.
هل يشير هذا الترهل إلى حالة إهمال داخل جهاز المخابرات الإسرائيلى بحيث يفضل باحث الذهاب إلى البيت فى موعده على الانتظار لأداء مهمة حيوية خطيرة، أم يدل على أن سودائى نفسه لم يكن مقتنعا بدرجة كبيرة بأن لديه براهين تثبت صحة رأيه فى أن المصريين سيقومون بالفعل بالهجوم نتيجة لإحكام خطة الخداع المصرية.
أعتقد كباحث مصرى أن دراسة شهادة سودائى ستعطينا صورة عن الطريقة التى كان يفكر بها والأسانيد التى اعتمد عليها للسباحة ضد تيار القيادات الكبرى التى كانت تستبعد وقوع الهجوم المصرى أو تعتبره احتمالا ضعيفا.
الوثائق السرية الإسرائيلية الخاصة بحرب أكتوبر
شهادة سودائى أمام لجنة أجرانات:
عندما سأل القاضى أجرانات رئيس لجنة التحقيق الباحث ألبرت سودائى فى بداية التحقيق هل يتذكر واقعة محاولته لقاء رئيسه يوم 4 أكتوبر والموضوع الذى كان يريد عرضه عليه أجاب بنعم وراح يقدم الموضوع على النحو التالى:
1- أنه كان لديه فى ذلك اليوم الرابع من أكتوبر رأى مختلف عن رأى رئيس الشعبة ورأى بقية الباحثين الذين كانوا يجمعون على أن المصريين والسوريين لن يقدموا على الهجوم أو شن الحرب.
2- بنى رأيه هذا على قراءة مختلفة للمعلومات الواردة وتقييم لم يساير بقية الباحثين اعتبارا من مارس 1973 مع تغيير الحكومة فى مصر.
3- إنه منذ تلك اللحظة بدأ يدرك خطورة الوضع بسبب قيام السادات بتولى رئاسة الحكومة بنفسه من ناحية وأيضا بسبب خطاب ألقاه السادات بتاريخ 26 مارس قال فيه إننا نسير نحو مواجهة شاملة.
4- يقول سودائى إنه كان دائما يدرك أن السادات يعتبر منصب رئيس الحكومة أداة لامتصاص غضب الناس والصدمات حيث كان يمكنه دائما إلقاء المسؤولية على رئيس الحكومة وقت الأزمات.
5- وبالتالى فإنه نظر إلى قيام السادات بتولى المنصب بنفسه على أنه قد عزم على القيام بأمر بالغ الخطورة.
6- يؤكد سودائى أنه كان الوحيد فى فرع المعلومات بكل شعبه وأقسامه الذى كان يدرك خطورة هذا التطور وأنه كان يسبح وحده ضد التيار المستخف بمصر والسادات وهو الاستخفاف الذى زرعته خطة الخداع الاستراتيجى المصرية.
7- يوضح سودائى أنه عندما حشدت الحشود المصرية فى شهر مايو 1973 كان لديه إحساس بأن أمرا خطيرا سيحدث. من المعروف أن هذه الحشود كانت جزءا من خطتنا المصرية للخداع الاستراتيجى باعتبارها مجرد مناورة تنفض بعدها الحشود. ولقد لعبت هذه المناورة دورا مؤثرا فى استبعاد الهجوم عندما بدأت الحشود للهجوم الفعلى فى أكتوبر، حيث كانت أسهم المخابرات العسكرية مرتفعة وموضع مصداقية، ذلك أنها اعترضت على إعلان حالة الطوارئ واستدعاء الاحتياط فى مايو وفسرت الحشود على أنها مناورة غير أن الحكومة قررت استدعاء الاحتياط مما شكل عبئا غير ضرورى على الاقتصاد بعد أن تبين أن الحشود مجرد مناورة مصرية كما قدرت المخابرات العسكرية.
8- من الواضح أن سودائى فى مايو كان منحازا لفكرة أن المصريين سيهاجمون وهو ما جعل أفكاره عديمة القيمة أمام زملائه ورؤسائه وجعله موضع سخرية وأضعف ثقته فى نفسه.
9- أما عن حشود سبتمبر وأكتوبر فيقول سودائى للجنة: عندما تطورت الأحداث منذ شهر سبتمبر أدركت أننا لم نكن نمتلك رد فعل شاملا. وبالنسبة لتجمعات القوات السورية لم يكن لدينا فى الحقيقة جواب واف يفسر قيام السوريين بحشد قواتهم منذ بداية سبتمبر. وأما المزاعم التى كانت تتردد فى فرع البحوث من أن الدافع للحشود هو خوف السوريين بسبب إسقاط 13 طائرة لهم فى اشتباك جوى يومى 12 و 13 من سبتمبر فقد اعتبرتها لا تمثل جوابا شافيا عن سبب الحشود. لماذا؟ لأن الحشود كانت قد بدأت قبل الاشتباك الجوى المذكور.
10- على الباحثين المصريين أن يلاحظوا أن هذه أول مرة يرد فيها على لسان أى مصدر إسرائيلى أن الحشود السورية بدأت قبل المعركة الجوية فى 13 سبتمبر وبالتالى يرفض تفسير أن تكون هذه الحشود تعبيرا عن الخوف السورى من التعرض لهجوم إسرائيلى. ذلك أن جميع المصادر تجمع على أن الحشود ذات الأهمية بدأت يوم 13 سبتمبر لدرجة أن لجنة إجرانات قد صاغت سؤالها الرئيسى لجميع المسؤولين حول المعلومات والتقديرات المخابراتية على النحو التالى: «نريد أن نستمع إلى شهادتك حول المعلومات التى توافرت لديك فى يوم 13/9/1973 عندما أسقط سلاحنا الجوى ثلاث عشرة طائرة سورية وفى الأيام التالية وكذلك حول مساعى وتحركات العدو ونواياه لشن الحرب وأيضا التقديرات التى صدرت والقرارات التى اتخذت فى هذا الشأن »كما سبق وذكرنا.
11- ترى هل نخرج من هنا بدرس مستفاد إذا صحت معلومات سودائى عن موعد الحشود السورية أنه يمكن لفروع وشعب وأقسام متعددة فى أجهزة المخابرات أن تغفل عن تفصيلة مثل موعد الحشود التى بدأت قبل 13 سبتمبر وبالتالى تبنى تقديرها فى اتجاه خاطئ أم أن سودائى كان يكذب على اللجنة.
12- يربط سودائى فى شهادته أمام اللجنة بين الرأى الذى كان موضع اتفاق داخل المخابرات العسكرية (المسؤولة كما قلنا عن التقديرات) حول استحالة قيام السوريين وحدهم بالحرب وبين المعلومات حول الحشود والمناورة المصرية ليخلص إلى تقدير مختلف وهو أن مصر وسوريا ستقومان بالهجوم. وأشار هنا إلى تحذيرات جاءت من جهة حذفت الرقابة العسكرية اسمها من نص الوثيقة تؤكد أن المصريين سيهاجمون.
أيا إيبان
التقديرات السائدة لدى القيادات:
من المهم أن يعلم الباحثون المصريون أن التقديرات التى كانت سائدة من جانب قيادة المخابرات العسكرية كانت مخالفة لرأى سودائى. فلقد ورد فى شهادة رئيسة الوزراء جولدا مائير أمام لجنة إجرانات أنه بعد ثلاثة أيام من المعركة الجوية فى 13 سبتمبر اجتمع مجلس الوزراء وقام وزير الدفاع باستدعاء رئيس الأركان، وقرأت من محضر الجلسة أمام اللجنة ذلك التقدير الذى قدمه الفريق دافيد أليعازر، رئيس الأركان، عن توقعاته لرد الفعل السورى على المعركة الجوية.
لقد انبنى تقديره على استبعاد قيام السوريين بهجوم شامل وأنهم قد يكتفون بإطلاق صاروخ على الطائرات الإسرائيلية فوق الجولان وأكد استعداد الجيش لهذا الرد السورى.
كذلك أكدت جولدا مائير أنها اعتبارا من يوم 16 سبتمبر وحتى 25 سبتمبر تلقت معلومات وتقديرات من المخابرات العسكرية تفيد أن السوريين يحشدون قواتهم فى تشكيل طوارئ، غير أن تقدير المخابرات كان مطمئنا.
إلى أن الدوافع لهذه الحشود هى مخاوف السوريين من أن يكون إسقاط طائراتهم مقدمة لهجوم إسرائيلى كبير على القوات السورية. كذلك أوضحت أنها عندما كان فى المطار يوم الأحد 30 سبتمبر للسفر إلى النمسا وصل أول تقرير عن بداية حشود مصرية كبيرة على جبهة قناة السويس، وكان تقدير المخابرات يفيد بأنها مناورة مصرية كبيرة للقيادات والقوات، كما أنها تعبر فى نفس الوقت عن تأثر المصريين بمخاوف السوريين من أن تكون إسرائيل فى طريقها للعدوان على الجبهتين.
إذن سنلاحظ أن الربط الرسمى لدى قيادة المخابرات العسكرية بين الحشود السورية والمصرية كان يتجه إلى تفسيرها تفسيرا بعيدا عن كونها مقدمة لهجوم مصرى سورى تماما على العكس من الربط الإيجابى الذى قدمه الباحث المدنى سودائى والذى انتهى فيه إلى أن الحشود على الجبهتين تعنى استنادا إلى إنذارات العملاء والمعلومات أن قرار الهجوم قد اتخذ من جانب مصر وسوريا.
وزير الخارجية يشرح مصادر المعلومات والتقديرات
من المفيد هنا أيضا أن نستجلى معلومات وزير الخارجية أبا إيبان عن الحشود المصرية والسورية والتقديرات المستقرة عند وزارته بناء على ما تتلقاه من تقارير والتى تسير فى اتجاه عكس ما ذهب إليه الباحث سودائى. يقول أبا إيبان للجنة فى شهادته «أستأذن فى أن أتطرق إلى توقعاتى وتوقعات وزارتى وتقديرى وتقدير وزارتى بشأن احتمال نشوب الحرب فى الأيام السابقة عليها. ملخص القول هو أن الحرب كانت بمثابة مفاجأة لى ولوزارتى، حيث إن نشوبها فى حد ذاته كان يتنافى مع كل التقديرات التى كانت لدينا حول الوضع العسكرى أو بتعبير أدق التقديرات التى كانت لدينا من الجانب الفنى لذلك الوضع. إن التقدير الفنى العسكرى يمثل أول مصدر لنا لتقدير الاحتمالات بالنسبة لنا. أما المصدر الثانى فهو تقديرات الحكومات الصديقة التى اعتادت أن تشاركنا المشورة والتقديرات فيما يتعلق بالوضع فى الشرق الأوسط، وهو يقصد هنا الولايات المتحدة فى الدرجة الأولى ودول أوروبا فى الدرجة الثانية ».
ويواصل أبا إيبان قائلا: «أما المصدر الثالث الذى نعتمد عليه فهو تقييم مغزى بيانات وأعمال الحكومات العربية المرشحة لدخول الحرب وفى هذا الصدد أقصد بالطبع مصر وسوريا».
ومع ذلك يعطى أبا إيبان أهمية خاصة لتقديرات المخابرات العسكرية، حيث يستأنف القول «ولكن مما لا شك فيه أنه عند وضع تقديراتنا يكون هناك وضع خاص لجميع المعلومات والتقديرات التى تصل إلينا من المخابرات العسكرية، حيث إن الحرب تنشب عامة على خلفية استعدادات معينة ظاهرة للعين، ولذلك فإن رصد الواقع الميدانى وتقييم وتفسير هذا الواقع لهما دور مهم فى التقديرات التى تضعها وزارتى هذا فضلا عن أنه لم تتوافر تقديرات أخرى تناقض النتائج التى توصلت إليها المخابرات العسكرية الإسرائيلية. وسوف أذكر التقديرات التى نمت إلى علمى إلى أن وصلت أنباء من القدس فى السادس من أكتوبر عن وجود احتمالات قريبة لنشوب الحرب. من المهم أن نعلم أن أبا إيبان كان موجودا فى الولايات المتحدة منذ ما قبل يوم السادس من أكتوبر لحضور الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقد بلغته أنباء المعركة وهو هناك، ولعب دورا مهما فى إيصال الطلبات الإسرائيلية إلى الأمريكيين، كما سيتبين لاحقا عند الحديث عما كشفته الوثائق عن تفاصيل الدور الأمريكى الداعم لإسرائيل مخابراتيا وسياسيا وعسكريا.
اجتماع لجنة رؤساء أجهزة المخابرات فى الرابع من أكتوبر
يبدأ أبا إيبان بالحديث عن اجتماع لجنة رؤساء أجهزة المخابرات فى الرابع من أكتوبر وما انتهت إليه من رأى فى الحشود المصرية والسورية. إن هذه اللجنة تمثل هيئة تم إنشاؤها عام 1949 وتضم رؤساء الأجهزة الرئيسية داخل منظومة المخابرات الإسرائيلية وهم رئيس الموساد أى المخابرات العامة، ورئيس المخابرات العسكرية ورئيس جهاز الشاباك، أى الأمن العام الداخلى، كما يشارك فيها السكرتير العسكرى لرئيس الوزراء، وممثل لوزارة الخارجية ومهمتها بحث المسائل المتصلة بالمخاطر والتهديدات والمعلومات المخابراتية المتوافرة حول هذه المخاطر والتقديرات لهذه المعلومات.
يقول أبا إيبان إن تقدير الموقف يوم الرابع من أكتوبر انتهى بناء على رأى المخابرات العسكرية إلى أن الحشود السورية على الجبهة ترجع إلى تخوف السوريين من قيام إسرائيل بمهاجمتهم، ويبدو أن هذه الفكرة جاءتهم من الروس، أما الجبهة المصرية فإن ما يجرى فيها هو مناورة مصرية تهدف إلى التدريب على احتلال سيناء، وهو ما أدى إلى إلغاء الإجازات واستدعاء الاحتياط فى مصر، ولكن ليس لدى المصريين نية للهجوم الفعلى، بل هناك تخوف مصرى من أن تقوم إسرائيل بعملية ضد مصر وهو تخوف متأثر بتخوف السوريين.
إن شهادة أبا إيبان تبين أن رؤساء أجهزة المخابرات كانوا منحازين إلى الربط بين الحشود المصرية والحشود السورية برابطة خوف مصر وسوريا من التعرض لهجوم إسرائيلى، على عكس ما كان يفكر فيه الباحث ألبرت سودائى، وكان تفكيره هو الصحيح والذى ثبتت صحته بعد يومين بنشوب الحرب.
سودائى موضع لسخرية الضباط
من الواضح من جميع الوثائق أن الباحث المدنى ألبرت سودائى كان يسبح بمفرده ضد التيار الجارف الذى خلقته خطة الخداع الاستراتيجى المصرية. لقد أدخلت جميع ضباط فرع الأبحاث المسؤول الأول عن وضع التقديرات الأولية ورفعها إلى رئاسة المخابرات الحربية فى حالة غيبوبة كاملة حالت بينهم وبين الربط الصحيح للمعلومات المتوافرة. لقد قدم سودائى أمام لجنة التحقيق مجموعة معلومات ذات طابع عسكرى أطلع عليها ضباط القسم المصرى العسكرى فى شعبة التقديرات ولم يستنتجوا منها شيئا.
ويقول سودائى إنه ربط بينها ووجد أنها تشير إلى أن المصريين يتجهون هذه المرة إلى القيام بهجوم فعلى. يذكر سودائى أنه اعتبارا من يوم الثلاثاء الموافق الثانى من أكتوبر ازداد قلقه من احتمال حدوث الهجوم المصرى بسبب ورود إنذار من مصدر تم حذف اسمه من الوثيقة بواسطة الرقابة العسكرية الإسرائيلية وهو إنذار يقول إن المناورة المصرية ستتحول إلى هجوم حقيقى لم يهتم به الضباط وتزايد القلق عنده عندما وردت معلومة بأن غواصة مصرية تتجه نحو ميناء بورسودان، وأن هناك مدمرات مصرية تنتقل من عدن إلى بربرة فى الصومال ثم معلومات أخرى بأن المصريين أحضروا وحدات بحرية إلى بورسعيد مع منصات إطلاق صواريخ وهو أمر لم يحدث من قبل، وهى منصات صواريخ مثبتة على متن سفن، كذلك وردت معلومات بأن الطيران المصرى اتخذ له مطارات أمامية بالقرب من الجبهة. الأمر الخطير الدال على درجة نجاح خطة الخداع الاستراتيجى المصرية ما يقوله سودائى من أنه خشى أن يعبر عن قلقه وتقديره صراحة حول جدية احتمال الهجوم المصرى فى اجتماع عام لضباط وباحثى الشعبة المصرية يوم الأربعاء 3 أكتوبر لماذا؟ لأنه تعود أن يتلقى عبارات السخرية والاستهجان من سائر الضباط والباحثين كلما كان يحاول قبل ذلك التعبير عن رأيه المخالف. فقد كان الضباط يمطرونه بعبارات أشبه بما نقوله فى العربية (اتلهى على عينك) أو إنت غاوى تثير الفزع. إن الوثائق تكشف عن مواضع عديدة تؤكد أن الذكاء والدهاء من جانب العقل المخابراتى المصرى قد أحكما قبضتهما على العقل الجماعى لضباط وقادة وباحثى المخابرات المعادية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق