الأحد، 23 فبراير 2014

فرسان الثورة ......... الألتراس

فرسان الثورة ......... الألتراس

هل نسيتم مسيرات «الألتراس» عندما أشعلت القاهرةوقاموا بحماية التحرير والثواربجمعة الغضب بثورة 25 يناير

هل نسيتم عندما رفعوا شعار «القصاص أو الفوضى».. وقوى سياسية دعت لمناصرتهم إبان محاكمة المتهمين بمجزرة بورسعيد 

إن تنظيم الألتراس بكل فئاتة وتوجهاتة 

قوة تنظيمية تنافس جماعة الإخوان فى «السمع والطاعة». روح فدائية تتشبه بالمقاتلين على خط النار. خلايا عنقودية تبدأ من العاصمة وتنتهى فى العزب والكفور. «الألتراس» هم الملك المتوج على عرش التشجيع الكروى، وكرة الحماس النارية التى لا يخبو لهيبها فى المدرجات.
اشتبك معهم الأمن فشقوا عصا الطاعة على الداخلية. اندلعت ثورة 25 يناير فكانوا أبطال موقعة الجمل. ذبح «اللهو الخفى» 75 من زملائهم فى الأهلى، فرفضوا تقبل العزاء قبل القصاص.فى هذا الملف، نخترق الأسوار حول جمهورية الألتراس، نفك شفراتهم السرية، نستمع إلى هتافاتهم الهادرة، نقلب فى أوراقهم الخاصة، نرنو معهم إلى المستقبل وعيوننا على الواقع السياسى الساخن.
 أن مفهوم الألترا Ultra يشير إلى «الشىء الفائق والزائد عن الحد»، وكان تقليديا يستخدم لوصف مناصرى قضية معينة بشكل يفوق ولاء أصحاب القضية الأصليين لها، ثم انتقل المفهوم إلى مجال الرياضة، حيث استخدم لوصف مشجعى ناد معين، ونميز فى هذا الإطار بين الألترا والألتراس Ultra and Ultras حيث إن الألتراس كمفهوم يستخدم فى الأدبيات لوصف الجماعات من المشجعين المتشددين الذين تقترب أطرهم الفكرية والحركية من الحركات الفاشية التى ظهرت وسادت فى أوروبا فى القرن العشرين.
 يختلف الدارسون فى تحديد تاريخ ظهور حركات الألترا أو الألتراس فى أوروبا، باعتبارها المعهد الأول لها. فبينما يرد البعض تاريخ الظاهرة إلى العقود الأولى من القرن العشرين فى المجر، يرى آخرون أنها ترتبط بالستينيات مع تبلور الحركة فى إيطاليا، التى يؤكد البعض محورية دورها فى تبلور حركة الألتراس وتصاعد الاهتمام بها.



ويمكن تحديد عدد من السمات الرئيسية التى تميز جماعات الألتراس عن غيرهم من المشجعين العاديين، منها ولاؤها غير المشروط للنادى، بغض النظر عن نتائج الفريق أو أدائه. وتتمثل السمة الثانية فى استقلاليتها الكاملة، التنظيمية والمالية، عن مجالس إدارات النوادى وروابط التشجيع التقليدية، التى كانت تخضع لعدد من التوازنات الاقتصادية والسياسية داخل النوادى لمصلحة لاعب أو عضو مجلس إدارة، كما تعتمد جماعات الألتراس على تبرعات الأعضاء لتغطية المصروفات المطلوبة.
وتتعلق السمة الثالثة بالتشكيل العمرى لهذه الجماعات، فمعظم أعمار أفراد الألتراس تقع فيما بين 16 و25 عاما، فى حين أن جمهور المشجعين التقليدى يتسع ليضم فئات عمرية تصل إلى الستين، كما أن مجموعات التشجيع النشيطة قد يصل متوسط أعمار أفرادها إلى الأربعين. وتنصرف السمة الرابعة إلى أن حركة الألتراس ارتبطت بشكل عام بموقع جغرافى محدد من الاستادات الرياضية، كأن تكون خلف المرمى، نتيجة انخفاض أسعار التذاكر فى هذا الموقع بالمقارنة بغيرها من المواقع فى الاستاد، كما ارتبطت بسلوكيات معينة ترتبط بالتشجيع الدائم والمستمر للفريق طوال مدة المباراة، دون الاهتمام بالمشاهدة الفعلية لأحداث المباراة.
السياق السياسى
وأشير إلى نقطة بالغة الأهمية وهى أنه لا يمكن فهم تطور حركة الألتراس دون فهم السياق السياسى المصاحب، فعلى سبيل المثال، لا يمكن فهم تطور هذه الحركة فى أوروبا دون فهم التطورات السياسية التى سادت فيها، بدءا من الستينيات، وارتبطت بما أطلق عليه البعض «موت السياسة»، أو التطورات السياسية التى ارتبطت بانهيار الاتحاد السوفيتى فى التسعينيات، وهو ما عرف بموت الأيديولوجيا. هذه التطورات خلفت قطاعات عريضة من الشباب خارج الأطر التقليدية للمشاركة، كالأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدنى، وذلك فى الوقت الذى شهد تصاعد السياسات الرأسمالية وأزمات المجتمعات الحداثية.
وبالرغم من أن جماعات الألتراس لا تتبنى أيديولوجية حزبية معينة، فإنها تعتبره العدو الأول لها، فخبرة التفاعل مع أفراد الأمن حملت دائما ذكريات عنيفة ومحاولات من جانب الأمن للسيطرة على تحركات الألتراس وتجمعاتهم، كما أن جماعات الألتراس تنظر إلى وسائل الإعلام على أنها الحليف التقليدى والطبيعى لرموز صناعة لعبة كرة القدم، وتغليب الأفكار الرأسمالية فى إدارتها، وهو ما يراه الألتراس من أهم المثالب التى ظهرت وأثرت فى اللعبة الشعبية الأولى فى العالم، كذلك تتعامل وسائل الإعلام مع أعضاء الألتراس على اعتبار أنهم فوضويون، وأنهم السبب فى كثير من حالات العنف فى الملاعب بين المشجعين، وفى الوقت نفسه ترى فى تغطية أخبارهم وتحركاتهم مادة صحفية وإعلامية دسمة.
ونلاحظ  أن تشكل الألتراس فى مصر ارتبط بالسياق السياسى، فخلال  العام 2011حاول الرئيس المخلوع تمرير حزمة من التعديلات الدستورية، كان ظاهرها إضفاء بعض السمات الديمقراطية على النظام دون جوهر حقيقى، وذلك فى الوقت الذى خلت فيه الساحة السياسية من أى قوى حقيقية تستطيع اجتذاب الأعداد المتزايدة من الشباب المتعلم الذى يبحث عن فرصة حقيقية للمشاركة، حيث لم يكن مقتنعا بأن من التيارات الموجودة على الساحة، كما لم تشكل الحركات الاجتماعية، مثل حركة كفاية التى نشأت منذ 2004، ملاذا لهم، وتلخصت مطالب كفاية فى رفض مشروع توريث الحكم إلى جمال مبارك، دون أن تستطيع بلورة بدائل سياسية وقيادية للجماهير، مما أثر فى نهاية الأمر فى قدرة الحركة على التجذر فى الشارع.
المواجهة مع الأمن
وأؤكد على تزايد دور الألتراس فى المواجهات مع قوات الأمن بعد ثورة 25 يناير، وهو الدور الذى قوبل بردود فعل متباينة. فمن ناحية الإعلام الرسمى، سواء الرياضى أو السياسى، نُظر لأعضاء الألتراس على أنهم دعاة فوضى، وأن التسامح مع سلوكياتهم فى مواجهة قوات الأمن يهدد هيبة الدولة، بل ويهدد استمرار الدولة نفسها.
أما من ناحية الشارع الثورى، فقد نُظر لأعضاء الألتراس على أنهم خط الدفاع الفاعل فى صراع الشارع مع قوات الأمن. وقد ظهر هذا الدور بداية من 28 يناير وما جرى فيه من مواجهات عنيفة فى شارع قصر النيل وداخل ميدان التحرير، وبعدها فيما عرف بموقعة الجمل، ثم ما تبع ذلك من اعتداء على أهالى الشهداء والمصابين أمام جلسات محاكمة مبارك فى أكاديمية الشرطة، ثم أحداث السفارة الإسرائيلية، ثم الجولة الأخيرة من المواجهات فى ميدان التحرير ومحيط وزارة الداخلية.
 أن حركة الألتراس عندما وصلت مصر وأصبحت لها مجموعات شبابية منظمة لم تعمل الأجهزة الرسمية على استيعابها واستغلالها للأفضل.
وكان يجب على الأندية ومراكز الشباب وجميع المهتمين بالشباب الانتباه لهذه الظاهرة ومحاولة الاستفادة منها قدر الإمكان، وهذه المجموعات تضم جميع الشرائح الاجتماعية والتعليمية بصفة عامة، وبالتالى توجد بينها حالة من التوحد والاندماج حول هدف واحد يمكن توجيهه وتحديده ليكون فى مصلحة المجتمع، وقد نادى الكثيرون بضرورة وجود هدف قومى يلتف حوله الشباب لاستيعاب طاقاتهم المهدرة لأن هذه الطاقة إذا لم تستغل جيدا فإنها من الممكن أن توجه ضد المجتمع.
مستقبل الألتراس
وعن مستقبل الألتراس أشيرإلى أن الصراع دائما ينتج عن التفاوت بين الشرائح، وهو ما استطاعوا القضاء عليه من خلال توحيد الهدف وتوحيد خطوات تحقيقه، وجمع كل المفردات فى إطار يعمل على تحقيق الهدف بمعنى اللبس الموحد والكلام وحركات الأيادى والتشجيع والتصفيق والقيام والجلوس فى الوقت نفسه، وعمل الموجات فى الملعب، ولذلك فإن هذا التوحد وهذه الطاقات إذا لم يتم استغلالها الاستغلال الأمثل فى مشروع قومى ربما تحولت إلى بؤر وحركات انتقامية من المجتمع لشعورهم بالتهميش، كما أنهم سيوجدون لأنفسهم عالما آخر بعيدا عن المجتمع نظرا لاستبعادهم من الحركة المجتمعية، والدليل أنهم عندما وجدوا الثورة انخرطوا فيها، لأنهم اعتبروها هدفا قوميا أسهموا فيه بشكل إيجابى كبير بعد أن كانوا قبل الثورة مهملين من المجتمع ومطاردين من الأمن.
ومن وجهة نظر المسئول ؛ فإن هؤلاء الشباب لديهم طاقات وقدرات إبداعية كبرى، ولابد أن نبدأ فى عمل دراسات جميع روابط الألتراس فى الأندية لنعرف اهتماماتهم وأولوياتهم وأهدافهم، وبناء على هذه المعطيات تتم صياغة المشروعات والأهداف القومية التى يتم إدماجهم فيها، رافضا الفكر القديم الذى كان تفرض فيه موضوعات ومشروعات معينة على الشباب دون أن يشاركوا فى صياغتها والاقتناع بأهميتها.
وأشير إلى أن أى شاب لديه توزيع مختلف للمجهود، فهناك جزء للدراسة أو العمل بالنسبة للخريجين وجزء للانتماء السياسى وجزء آخر مخصص لنشاط الإبداع ونوع من النشاط البدنى وكذلك جزء للنشاط الترفيهى مثل دخول السينما أو المسرح وغيرهما، والآن لا يوجد لدينا مكان لممارسة الرياضة أو لقضاء وقت الفراغ وحتى الدراسة والعمل والبطالة زادت، ولذلك فإن كل الاحتياجات تجمعت فى كرة القدم لأنها جذبت انتماءاتهم وتساعد على تفريغ طاقاتهم، فمثلا الرحلات نشاط إبداعى، والجانب الإبداعى موجود بطبيعة المباريات، كما أن كرة القدم وفرت لهم الفسحة والسياحة عند السفر وراء الفريق فى المحافظات المختلفة أو خارج مصر فى البطولات الإفريقية، كذلك فإنهم استخدموا التكنولوجيا للتواصل بينهم ولتحديد مواعيد لقاءاتهم كمجموعات، بالإضافة إلى أنهم عملوا فيما بينهم وثيقة غير مكتوبة تحدد كيف يحترمون أنفسهم، وكيف يكون انتماؤهم لناديهم فقط، ويكفى أنهم رفضوا الحصول على أموال من شركات الاتصالات مقابل عمل دخلات تحمل شعاراتهم، ولكن المشكلة أننا سلطنا الضوء الإعلامى على بعض الأمور مثل تكسير الأتوبيسات والخلافات بين الجماهير دون معالجة أو عتاب، فى الوقت الذى يمكن للأندية فيه أن تستغل هذه الطاقات الإيجابية عن طريق عمل تصميمات ولمحات فنية للملاعب والملابس وغيرها من الأمور كنوع من استغلال حب هؤلاء لأنديتهم، كذلك كان لابد من عمل ندوات ولقاءات معهم لتثقيفهم وتوجيههم، مشيرا إلى أن هذه الظاهرة ظهرت فى مصر بعد نجاح كأس الأمم 2006 لأن الناس شعروا بتأثير الجمهور وشكله وجماله، فهى ظاهرة نمت برغم أن البعض كان يؤكد أنها ستنتهى.
وأعتقد أن الدولة أخطأت فى السابق فى عدم الاستفادة من طاقاتهم، وأتمني أن نسعى إليه حاليا، وهو الاهتمام بكل شباب مصر، بمن فيهم الألتراس، والحل الوحيد للتعامل معهم أن يشاركوا هم فى صنع طريقة التعامل منهم وخريطة الطريق للاستفادة منمهم، فلابد من الجلوس معهم وقراءة أفكارهم، فمثلا الهولجانز فى انجلترا كانوا متعصبين جدا والآن وصلوا إلى مرحلة عدم وجود حواجز حديدية بينهم وبين الملعب، كذلك لابد أن يشعروا بأننا صادقون معهم وأن عهد الفساد وتمييع الأمور قد انتهى تماما، ووقتها سوف نراهم أكثر الناس إنتاجا وفائدة للوطن.
مجزرة بورسعيد
و إننا وقفنا مع ألتراس أهلاوى بعد مجزرة بورسعيد لأن ما حدث جريمة نكراء من الممكن أن تحدث مع أى مجموعة منا ونحن نقف ضد البلطجية والمأجورين وليس ضد أهل بورسعيد الشرفاء أصحاب المواقف الوطنية المعروفة عنهم ـ أحبابنا وإخواننا ـ وهم ليس لهم ذنب فيما حدث، ونحن كتحالف زملكاوى نحافظ على العلاقات التاريخية معهم، لكن المشكلة كلها مع البلطجية وبعض أعضاء الألتراس.

و أعتقد أن البعض يريد تقديم الألتراس ككبش فداء لتلك الأحداث، فنجد أن عليهم هجوما شديدا جدا وأى متعصب لديه طاقة عنف ونشاط وهم أكثر من يتعصب لشىء ويضحى بحياته فى سبيل ذلك، ولذلك لابد من استقطابهم وتوجيه طاقاتهم فيما يفيد المجتمع، بحيث يقوم كل ناد باستقطاب مشجعيه من هؤلاء ليبعدهم عن أفكارهم العنيفة، ويوضح لهم أنهم أصبحوا مثالا وقدوة يحتذى لها الشباب، ولذلك لابد أن يكونوا على درجة عالية فى الرقى والأخلاق الحميدة مع ملاحظة أن هؤلاء يشبهون ـ من وجهة نظرى ـ مجموعات الهيبز وغيرهم الذين ظهروا فجأة وانتهوا، لكن الاختلاف أن الألتراس بعد مشاركتهم فى الثورة وتبنيهم فكرة تحقيق أهدافها أصبحوا قوة منفتحة على المجتمع تدافع عنه وتعمل على رفعته وتقدمه، وقد شاهدت أخيرا مجموعة منهم فوجدتهم شباب ليس لديهم فى الأساس عنف أو حدة، لكن لأن التنافس الكروى، فى أحيان كثيرة، يكون غير شريف، فإنهم يتحولون إلى مجموعات ضد بعضها، وهو ما يجعلهم متعصبين.
و أخشى أن تؤدى كثرة الاتهامات للألتراس البورسعيدى بأنه هو السبب فى هذه المأساة، كما يردد البعض، إلى أن يتحول هذا الألتراس إلى وحوش يرغبون فى الانتقام، وقد يتحول باقى أفراد المجتمع البورسعيدى إلى خصم لهم يرغبون فى الانتقام منهم، وفى هذه الحالة سيتحول شباب الألتراس للدفاع عن أنفسهم بالعنف والانتقام من الذين يحاربونهم ويتهمونهم اتهامات باطلة أو يجدوا أنفسهم فى عزلة عن المجتمع، وهذا الوضع سيؤدى إلى مزيد من العنف من ألتراس بورسعيد، وتكون تلك البداية لتحويلهم إلى مجرمين.
و أن موضوع بورسعيد واضح أنه نتيجة لبلطجة مؤجرة يجب ألا يكون لها كبس فداء من ألتراس بورسعيد ثم يمتد الأمر إلى ألتراس باقى الأندية.
و أن هؤلاء الشباب استغلوا طاقاتهم وقدراتهم الكبيرة فى التصدى لبلطجية موقعة الجمل، مما يعنى أنهم قابلون للتحول، ولذا أتمنى أن نفكك فكرتهم المتعصبة من خلال أنديتهم، وكذلك وسائل الإعلام المختلفة، وألا يستقطبوهم بطاقة عدائية، فكثرة النقد لا تصلح الإنسان، ولذلك يجب أن تتعامل معهم وسائل برفق ليتحولوا إلى طاقة منتجة.
لذا أؤكد أن ظاهرة الألتراس خلقت نفسها، بصرف النظر عن وجود نظائر لها فى مجتمعات أخرى، فهى نبت طبيعى فرضته الظروف، فالفترة التى نشأت فيها لم يكن فيها أى انتماء فى المجتمع المصرى، ولذلك فإن طاقاتهم وإبداعاتهم وجهودهم للأندية التى يحبونها، وكان ذلك هو الانتماد الوحيد المسموح به، ودورهم الفاعل خلال أحداث الثورة نتج عن أنهم وجدوا موضوعا آخر يمكن أن يلتفوا حوله، وهو مرتبط بالقومية والهُوية، ولذلك برزت بسالتهم وفدائيتهم وشهامتهم فى إنقاذ المصابين والدفاع عن كل من فى الميدان.
و أن أجمل ما فى هذه الظاهرة هى عفويتها حتى لو كانت تعمل بشىء من التنظيم وميثاق شرف وتحديد التصرفات، والمطلوب الآن دراسة هذه الظاهرة بشكل عميق لكى نعرف كيف تحولت كيانات أخرى لتصل لهذا التنظيم وتقويه، موضحة أن ما يميز هذا التنظيم هو شبابيته وقدرته على الفعل والتنظيم وطموحه وأمله فى مستقبل أفضل، ولذلك فإننى أناشد مجلس الشباب والرياضة الاستفادة من هذه الطاقات فى إعلاء شأن مصر، ليس فى الرياضة فحسب، بل فى التنمية أيضا، لأن إهمالهم كارثة عواقبها وخيمة، كما حدث فى بعض الرياضات.
فمثلا فى محافظة الشرقية كان يوجد فريق عالمى للهوكى احتكر كل البطولات الإفريقية دون أى إمكانات، لكن التجربة أجهضت بفعل فاعل لأنه لم يكن مطلوب أن نتميز فى أى شىء إلا وينسب لملف التوريث، ولذلك لابد أن نستفيد من الشباب فى أنشطة غير رسمية أو بما يسمى القوى الناعمة، ولذلك أتمنى ألا يتم التدخل فى ظاهرة الألتراس بشكل رسمى، بل مطلوب قنوات للتواصل على مستوى الأندية وعلى مستوى المجلس القومى للشباب والمجلس القومى للرياضة، ليس أكثر، لأننا لو دخلنا فى عملهم بالرسميات فسيفشلوا.
وأرفض فكرة تحويلهم إلى جمعية أهلية أو كيان قانونى منظم، لأن ذلك سوف يكون بداية النهاية لهم، لأنهم سيتحولون إلى حب الرغبة فى الظهور، وهذا ما يخالف ميثاقهم الأصلى، وستلعب البيروقراطية دورا فى العراك على القيادة والرئاسة وغيرها من المناصب.
شهادة من ميدان التحرير
شباب الألتراس فى أثناء الثورة: إنهم كان لهم دور كبير منذ يوم 25 يناير، وكان وجودهم بفتهم أفراد وليس بالضرورة كمجموعات، لكنهم كانوا واضحين ببسالتهم وفدائيتهم، وقد علمونا كيف نكون منظمين وقت الهجمات، حيث كانوا يعطون إشارات معينة وقت الخطر مثل التخبيط على الأعمدة واستخدام أسلوب الكر والفر وتنظيم الوقت خلال الهجمات المتتالية، وجميعهم شباب صغير وأولاد ناس محترمين وغالبيتهم مثقفون وعلى درجة عالية من العلم والمعرفة وكثير منهم قبل الثورة كانوا يعملون فى العمل الخيرى العام مثل توزيع شنط رمضان على الفقراء فى مناطقهم من أموالهم الخاصة.
و أن ظهورهم الأكبر كان يوم «جمعة الغضب»، فقد شعرت بشكل حقيقى وغريب بأنهم عندهم استعداد رهيب للتضحية والفداء، وأن لديهم أمل فى بكره طول الوقت، وفى الوقت نفسه بسالتهم غير طبيعية، فهم يتنافسون فى تلقى الضربات قبل أن تصل إليك، ويضحون بأنفسهم علشانك، فهم رجال بمعنى الكلمة، ليسوا شبيحة أو بلطجية أو صيع عايشين على القهاوى، ولو بنتى كبيرة واتقدم لها واحد من شباب الألتراس لن أتردد فى إعطائها له، فأنا أرى أن هؤلاء الشباب مستقبلهم مشرف، فهم كانوا يدافعون عن الكرامة والحرمة وتجد أن حلمهم واحد وهدفهم واحد هو الوطن، ولذلك تجدهم ناشطين فى مكافحة الفساد الرياضى، فقد قاموا بوقفات كثيرة ضد ذلك، وهم ليست لديهم نفعية إطلاقا، فقد كانوا يعيشون وسط ضرب النار والقتل والموت والوجود فى ميدان التحرير، وهؤلاء التعامل معهم متعة لأنه يعطى أمل فى مستقبل زاهر ومبشر لمصر، وبالنسبة لهم أعتقد أنه سيكون لهم شأن كبير، وسيتقلدون أفضل المواقع والمناصب، وأتوقع أن يخرج منهم وزراء أحدهم سيتولى وزارة الشباب والرياضة، وثان يتولى البحث العلمى، وهكذا. لأنهم متميزون فى مثل هذه التخصصات وسيكون منهم قادة عظام، فبهم وبأمثالهم أصبح لدينا أمل وهدف واضح، فالناس لم يعودوا يعيشون تحت رحمة لقمة العيش، وأصبح هدفهم الرئيسى الحرية والكرامة وبعدين تفكر فى الماضى ولما العسكر يمشوا ويكون عندنا سلطة مدنية منتخبة سوف تتفجر إبداعات هؤلاء الشباب وطاقاتهم. 

الأربعاء، 19 فبراير 2014

مجرد رأي و وجهة نظر في إنقلاب عسكري مطلوب ومدعوم من قطاعات واسعة من الشعب والقوى الوطنية المصرية


تعد حركات التغيير التي اندلعت في بعض البلدان العربية أواخر العام 2010 ومطلع العام 2011، إنتفاضات شعبية إنطلقت ضد أنظمة إستفحل فيها الظلم والفساد الحكومي والإستئثار بالسلطة والفشل الذريع في دفع عجلة التنمية البشرية نحو الأمام، وأدت هذه الموجة العارمة من الاحتجاجات الشعبية إلى قيام المؤسسات العسكرية والأجهزة الأمنية في الدول التي شهدت هذه الثورات بإعادة النظر في علاقتها بالأنظمة الحاكمة المستبدة، فتحولت في لحظة وعي وطني تاريخية وقراءة سليمة لواقع ومستقبل هذه الانتفاضات وحساب دقيق لمصالح هذه المؤسسات من دعم الحاكم المستبد إلى دعم الجماهير المنتفضة، فأنجزت المرحلة الأولى من التغيير وهي سقوط الأنظمة الديكتاتورية الحاكمة.
ولكن يجب التذكير بأن هذه الاحتجاجات الشعبية العفوية لم تخلو من تدخلات خارجية لأطراف دولية وإقليمية قامت بدعم تلك الانتفاضات (إعلامياً وتنظيمياً وسياسياً ومالياً)، فضلاً عن الدعم الذي قدمته التيارات السياسية والأحزاب المعارضة للأنظمة التي كانت تحكم في بلدان التغيير والتي إستثمرت تلك الاحتجاجات الشعبية العفوية وانخرطت فيها بعد اتساعها وظهور ملامح تراخي قبضة الأنظمة، وإن هذه التدخلات الخارجية والداخلية كانت إما بدافع الخصومات السياسية مع الأنظمة السابقة أو تنفيذا لمخططات إقليمية أو دولية، سياسية أو فكرية، يراد إخضاع المنطقة لها، وفي الوقت نفسه كان جزء منها نصرة صادقة لثورة شعوب مظلومة. وبالتالي أصبح لدينا ثلاث قوى فاعلة إضافية أسهمت في صنع هذه التغييرات، فضلاً عن قوة التغيير الرئيسة المتمثلة بالجماهير التي انتفضت عفوياً وقدمت التضحيات في سبيل إنجاز هذا التحول، وهذه القوى الإضافية هي (المؤسسات العسكرية والأمنية، الأطراف الدولية والإقليمية، التيارات والأحزاب السياسية المعارضة للأنظمة السابقة)، وكل واحدة من هذه القوى المختلفة ترى بأنها شريك مهم بهذا التغيير، ومن حقها أن تكون شريك مهم في صوغ مسارات هذا التغيير ومستقبله، في ظل إختلاف الرؤى والأهداف بين تلك القوى.
بعد انجاز المرحلة الأولى من التغيير والشروع بالتحول نحو بناء أنظمة ديمقراطية تنسجم مع تطلعات وآمال الشعوب التي انتفضت، اصطدمت هذه التحولات بصعوبات وعقبات جمة وانحرفت مساراتها عن أهدافها الحقيقية بسبب الكثير من التحديات، أهمها:
أولاً. تباين الأهداف والرؤى المستقبلية بين القوى المختلفة التي أسهمت في صنع التغيير، وبخاصة فيما يتعلق بـ(الخطاب السياسي للحكومات الجديدة، ترتيب الأولويات في جهود وتوجهات الحكومات الجديدة الداخلية والخارجية، الحقوق والحريات المتاحة، الأمن الوطني، الأمن القومي، دور المؤسسات العسكرية والأمنية، دور المرجعيات الدينية والفكرية، ...إلخ).
ثانياً. تدهور الأوضاع الإقتصادية للبلدان العربية التي حدث فيها التغيير.
ثالثاً. الإنقسامات الفكرية والطائفية المتأصلة في مجتمعات البلدان التي حدث فيها التغيير، والتي أسهم سقوط الأنظمة الديكتاتورية، والفوضى التي أعقبت ذلك السقوط، في انفلاتها من عقالها وتصاعدها.
رابعاً. التأثير البالغ للصراعات المسلحة والأضطرابات التي تشهدها المنطقة العربية برمتها، في الأوضاع الداخلية للبلدان التي حدث فيها التغيير، عن طريق لجوء بعض الأطراف الداخلية المرتبطة بتنظيمات منخرطة في تلك الصراعات الإقليمية، إلى إستخدام العنف والوسائل المسلحة في الصراع السياسي.
إختلف الكثير من المراقبين للشأن المصري في توصيف ما حدث في الثلاثين من يونيو 2013، فإذا ما قمنا بنظرة مجردة لا تأخذ في الحسبان الأوضاع والظروف والمواقف والحقائق ومسارات الأحداث التي سبقت هذا التغيير، وفقط نركز على حقيقة واحدة إن الدكتور محمد مرسي كان رئيساً منتخباً، يمكننا حينها، وبكل إرتياح، أن نطلق على ما حصل في ذلك اليوم بـ(الإنقلاب العسكري). وإذا ما سلطنا الأضواء على الرفض الشعبي الواسع لسياسات الرئيس مرسي، والتي عدت بنظر معارضي مرسي والأخوان (الداخليين والخارجيين) مريبة وتهدف لتكريس هيمنة جماعة الأخوان المسلمين على مؤسسات ومفاصل الدولة المصرية، فضلاً عن السخط الجماهيري من التدهور المضطرد للأوضاع الأمنية والإقتصادية خلال مدة حكم الرئيس مرسي، والذي جسدته الإعتصامات والمظاهرات المليونية المناهضة له ولحزبه (الحرية والعدالة) ولجماعته (الأخوان المسلمين)، والتي بلغت أوجها عشية الثلاثين من يونيو 2013.
وإذا ما استحضرنا هذه المشاهد، وتغافلنا عن حقيقة إن الرئيس كان منتخباً، يمكننا وصف ما حصل في الثلاثين من  يونيو بالثورة الشعبية المدعومة من الجيش. أما إذا ما نظرنا إلى حالة الإنقسام والإحتقان الخطير الذي وصل إليه الشعب المصري بين مؤيدين للرئيس مرسي ومعارضين له، والدلائل الواضحة على ان كل طرف في هذه المواجهة متهيئ ومتحفز للمضي إلى أقصى حدود التدافع السياسي، مهما بلغت درجة الصدام ونتائجه، فضلاً عن حوادث العنف والعنف المضاد بين التي سجلت في المظاهرات المناوئة والمؤيدة للرئيس مرسي، الأمر الذي أشر بأن الخصوم السياسيين يجرون البلاد إلى منعطف خطير قد يصل للحرب الأهلية، وضمن هذا السياق يكون تدخل الجيش لإزاحة الرئيس مرسي عن السلطة إستشعاراً وإستجابةً لتهديد يداهم الأمن الوطني والقومي لمصر وإنقاذاً لها من الدخول في متاهات صراع داخلي لا يمكن التكهن بأدواته ولا بوسائله ولا يعرف عقباه.
ولكن تبني أي من الأوصاف الثلاثة لحركة الثلاثين من  يونيو 2013 (إنقلاب عسكري، ثورة شعبية وقف الجيش إلى صفها، تدخل الجيش لإنقاذ البلاد من حرب أهلية) بشكل منفصل عن الحقائق الأخرى سيكون طرحاً أحاديا غير موضوعياً يضعف الحجة، وبخاصة بعد القسوة الواضحة في الإجراءات الأمنية والسياسية والإعلامية التي اتخذت ضد جماعة الأخوان المسلمين بعد عزل الرئيس مرسي. وبالتالي وإذا ما طلب توصيف منصف لما جرى في الثلاثين من  يونيو 2013 ، فليس أمامنا سوى القول بأنه إنقلاب عسكري مطلوب ومدعوم من قطاعات واسعة من الشعب والقوى الوطنية المصرية، جاء في وقت كانت البلاد تمر فيه بمرحلة من الإنقسام والإنسداد السياسي الخطير.
أما عن مستقبل الإحتجاجات المناهضة للسلطة التي تشكلت في مصر بعد عزل الرئيس مرسي في الثلاثين من يونيو 2013، فإن إستمرار الهجمة الأمنية والسياسية والإعلامية الموجهة ضد الأخوان المسلمين وحلفائهم ستمنح هذا التيار (شجاعة اليأس)، وستكسبهم المزيد من التعاطف والتحالف، داخلياً وخارجياً، الأمر الذي يعزز صمودهم وثباتهم في هذه الإحتجاجات، بغض النظر عن تزايد أو تناقص أعداد المتظاهرين، وبخاصة إن هذا التيار متمرس على مواجهة تعسف السلطات من جهة، وإنه تيار سياسي وفكري يحظى بتأييد قطاعات غير قليلة من الشعب المصري من جهة أخرى، ومن أجل تحقيق الإستقرار السياسي والإجتماعي وحتى الإقتصادي في مصر، فمن الضروري فتح قنوات حوار وتفاوض، جادة ومسؤولة، مع جماعة الأخوان المسلمين وحلفائهم على قاعدة المصلحة الوطنية العليا، و الإبتعاد عن نهج الإقصاء والتهميش الذي أثبتت التجارب السابقة في مصر وغيرها من البلدان العربية فشله، فهم بالنهاية شركاء في الوطن، وجزء اصيل من تاريخ وحاضر مصر، وبالتأكيد سيكونون جزء من مستقبلها، بشرط أن يقوم الأخوان المسلمين وغيرهم من تيارات الإسلام السياسي، بإجراء مراجعة وتقييم وتقويم، لسياساتهم وتوجهاتهم وتجاربهم، قبل وبعد حركات التغيير.
لقد شكل قيام الجيش المصري بحركة الثلاثين من يونيو 2013 حالة من الضبابية لمراقبي حركات التغيير العربية، وأثارت تساؤلات عدة، أهمها: هل انتكست حركات التغيير العربية؟، هل عدنا لحكم العسكر، والأنظمة الديكتاتورية القديمة؟ ..وهي تساؤلات مشروعة، في ظل النفوذ والهيمنة الواضحة للمؤسسة العسكرية المصرية على الحياة السياسية في مصر بعد الثلاثين من  يونيو، وفي ظل انتشار التسريبات الإعلامية عن ترشح الفريق عبد الفتاح السيسي قائد حركة الثلاثين م يونيو لإنتخابات الرئاسة المقبلة. وعلى الرغم من كل هذه المؤشرات والتسريبات، تبقى هنالك حقائق مطمئنة تضعف من إحتمالية عودة الأنظمة الشمولية والديكتاتورية في البلدان التي حدث فيها التغيير، إذ إن وعي شعوب تلك البلدان وإستعدادها للتضحية في سبيل حريتها وكرامتها، وقدرتها على تنظيم نفسها وعلى التأثير والفعل ورد الفعل، وصل إلى درجة تجهض أي مشروع لتأسيس نظام ديكتاتوري، وبخاصة بعد ان استعادت تلك الشعوب ثقتها بنفسها أثر نجاحها خلال حركات التغيير في إسقاط أنظمتها الديكتاتورية التي كانت تجثم على صدرها لعقود من الزمن. وبالتالي يمكن تضمين ما حدث في الثلاثين من يونيو 2013 والأسابيع التي أعقبته في إطار الصيرورة التاريخية للتغيير، والتي من الطبيعي أن تواجه معرقلات وتوقفات مؤقتة، وبعض تلك التوقفات يكون مفيداً لتصحيح مسار الشعوب نحو أهدافها الرئيسة التي انتفضت من أجلها. المهم، وعلى وفق النهضة التاريخية للشعوب العربية أواخر العام 2010 ومطلع العام 2011، لا توجد فرصة لإعادة تأسيس أنظمة ديكتاتورية

الاثنين، 17 فبراير 2014

طرح برؤية مواطن في الأيدلوجيات الإستراتيجية لمواجهة الفساد المالي والأداري

 طرح برؤية مواطن في 
الأيدلوجيات الإستراتيجية لمواجهة الفساد المالي والأداري 
إن الفساد لا يخص مجتمعا بعينه أو دولة بذاتها , وإنما هو ظاهرة عالمية تشكو منها كل الدول , لما له من خطر على الأمن الاجتماعي والنمو الاقتصادي والأداء المالي والإداري, ومن هنا حازت هذه الظاهرة على اهتمام كافة المجتمعات والدول وتعالت النداءات إلى إدانتها والحد من انتشارها ووضع الصيغ الملائمة لذلك.
وتعني كلمة الفساد "سوء استخدام أو استعمال المنصب أو السلطة للحصول على أو إعطاء ميزة من أجل تحقيق مكسب مادي أو قوة أو نفوذ على حساب الآخرين.
وإن للفساد المالي والإداري مفهوم واسع لا يمكن أن يحويه تعريف مانع وجامع له، ولذلك ينظر إلى الفساد من خلل المفهوم الواسع، وهو "الخلل بشرف الوظيفة ومهنتها وبالقيم والمعتقدات التي يؤمن بها الشخص" .
وقد يتضمن مصطلح الفساد الإداري محاور عديدة :
1 . الفساد السياسي ويتمثل بالانحراف عن النهج المحدد لأدبيات التكتل أو الحزب أو المنظمة السياسية نتيجة الشعور بالأزلية أو كونه الأوحد أو الأعظم أو المنظر ، أو بيع المبادئ الموضوعة في أدبيات المنظمة للكتل الدولية أو الإقليمية القومية لسبب أو أكثر كالخيانة والتواطؤ والتغافل والإذعان والجهل والضغط وغيرها .
2 . الفساد الإداري ويتعلق بمظاهر الفساد والانحراف الإداري أو الوظيفي من خلال المنظمة والتي تصدر من الموظف العام أثناء تأدية العمل بمخالفة التشريع القانوني وضوابط القيم الفردية ، أي استغلال موظفي الدولة لمواقعهم وصلاحياتهم للحصول على مكاسب ومنافع بطرق غير مشروعة .
3 . الفساد المالي ومظاهره، الانحرافات المالية ومخالفة الأحكام والقواعد المعتمدة حالياً في تنظيمات الدولة (إدارياً) ومؤسساتها مع مخالفة ضوابط وتعليمات الرقابة المالية 
4 . الفساد الأخلاقي ويتمثل بالانحرافات الأخلاقية وسلوك الفرد وتصرفاته غير المنضبطة بدين أو تقاليد أو عرف اجتماعي مقبول .
أما فيما يخص موضوع (الفساد المالي والإداري) فقـد وردت تعريفات عـدة منها:-
فمنظمة الشفافية العالمية عرفته بأنه (إساءة استخدام السلطة العامة لتحقيق كسب خاص) ، وعند صندوق النقد الدولي (IMF) فهو(علاقة الأيدي الطويلة المعتمدة التي تهدف إلى إستحصال الفوائد من هذا السلوك لشخص واحد أو مجموعة ذات علاقة بين الأفراد)  .
ويقصد بالفساد المالي والإداري أيضاً وجود الخلل في الأداء نتيجة الخطأ والنسيان وإتباع الشهوات والزلل والانحراف عن الطريق المستقيم، ويذكر بحر في مقال ( الفساد الإداري والمالي1 ) أن الفساد هو : " سوء استغلال السلطة العامة لتحقيق مكاسب خاصة "
كما ويذكر أن الفساد المالي والإداري يحتوي على قدر من الانحراف المتعمد في تنفيذ العمل المالي و الإداري المناط بالشخص, غير أن ثمة انحرافا مالياً وإداريا يتجاوز فيه الموظف القانون وسلطاته الممنوحة دون قصد سيء بسبب الإهمال واللامبالاة, وهذا الانحراف لا يرقى إلى مستوى الفساد المالي والإداري لكنه انحراف يعاقب عليه القانون وقد يؤدي في النهاية إذا لم يعالج إلى فساد مالي و إداري  .
وحسب التقرير الأول للجنة الشفافية والنزاهة  لسنة  2000تم تعريف الفساد المالي والإداري بأنه إساءة استغلال السلطة المرتبطة بمنصب معين بهدف تحقيق مصالح شخصية على حساب المصالح العامة ومنه "إصدار قرارات لتحقيق مصالح شخصية ،التربح " ، كما أنه " السلوك البيروقراطي المنحرف الذي يستهدف تحقيق منافع ذاتية بطريقة غير شرعية وبدون وجه حق" .

أنواع الفساد المالي و الإداري

1- إساءة استغلال السلطة.
-على المستوى العام: كأن تصدر القرارات لصالح فئة معينة من المجتمع وليست للصالح العام .
-على المستوى الشخصي: لتحقيق منفعة شخصية دون وجه حق.
2-  عدم الشفافية في الإعلان عن ترسية العقود الحكومية.
3-  الربح غير المشروع سواء كان:
- إعطاء الحق لغير صاحبه أو مخالفة القوانين واللوائح  وإعطاء شخص ما ليس  حقه.
- استغلال دورات العمل وتعطيل مصالح الأشخاص للضغط عليهم لسداد مبالغ زائدة عن المقرر لإنهاء أعمالهم .
4-الإهمال وعدم المبالاة وعدم المحافظة على الملكية العامة وسوء إدارة موارد الدولة 

ويقسم  الشميمري الفساد الإداري إلى أربع مجموعات , وهي:
1. الانحرافات التنظيمية , ويقصد بها تلك المخالفات التي تصدر عن الموظف في أثناء تأديته لمهمات وظيفته والتي تتعلق بصفة أساسية بالعمل , ومن أهمها :
• عدم احترام العمل , ومن صور ذلك :التأخر في الحضور صباحا – الخروج في وقت مبكر عن وقت الدوام الرسمي – النظر إلى الزمن المتبقي من العمل بدون النظر إلى مقدار إنتاجيته – قراءة الجرائد واستقبال الزوار – التنقل من مكتب إلى آخر .
• امتناع الموظف عن أداء العمل المطلوب منه , ومن صور ذلك : رفض الموظف أداء العمل المكلف به–عدم القيام بالعمل على الوجه الصحيح – التأخير في أداء العمل.
• التراخي , ومن صور ذلك : الكسل – الرغبة في الحصول على أكبر اجر مقابل أقل جهد – تنفيذ الحد الأدنى من العمل .
• عدم الالتزام بأوامر وتعليمات الرؤساء , ومن صور ذلك: العدوانية نحو الرئيس – عدم إطاعة أوامر الرئيس – البحث عن المنافذ والأعذار لعدم تنفيذ أوامر الرئيس .
• السليبة , ومن صور ذلك :اللامبالاة – عدم إبداء الرأي – عدم الميل إلى التجديد والتطوير والابتكار – العزوف عن المشاركة في اتخاذ القرارات – الانعزالية – عدم الرغبة في التعاون – عدم تشجيع العمل الجماعي – تجنب الاتصال بالأفراد .
• عدم تحمل المسؤولية , ومن صور ذلك :تحويل الأوراق من مستوى إداري إلى آخر – التهرب من الإمضاءات والتوقيعات لعدم تحمل المسؤولية.
• إفشاء أسرار العمل .
2. الانحرافات السلوكية , ويقصد بها تلك المخالفات الإدارية التي يرتكبها الموظف وتتعلق بمسلكه الشخصي وتصرفه , ومن أهمها :
• عدم المحافظة على كرامة الوظيفة , ومن صور ذلك : ارتكاب الموظف لفعل مخل بالحياء في العمل كاستعمال المخدرات أو التورط في جرائم أخلاقية  .
• سوء استعمال السلطة ,  ومن صور ذلك :كتقديم الخدمات الشخصية وتسهيل الأمور وتجاوز اعتبارات العدالة الموضوعية في منح أقارب أو معارف المسئولين ما يطلب منهم.
• المحسوبية , ويترتب على انتشار ظاهرة المحسوبية شغل الوظائف العامة بأشخاص غير مؤهلين مما يؤثر على انخفاض كفاءة الإدارة في تقديم الخدمات وزيادة الإنتاج.
• الوساطة , فيستعمل بعض الموظفين الوساطة شكلا من أشكال تبادل المصالح .
3. الانحرافات المالية , ويقصد بها المخالفات المالية والإدارية التي تتصل بسير العمل المنوط بالموظف , وتتمثل هذه المخالفات فيما يلي :
• مخالفة القواعد والأحكام المالية المنصوص عليها داخل المنظمة .
• فرض المغارم , وتعني قيام الموظف بتسخير سلطة وظيفته للانتفاع من الأعمال الموكلة إليه في فرض الإتاوة على بعض الأشخاص أو استخدام القوة البشرية الحكومية من العمال والموظفين في الأمور الشخصية في غير الأعمال الرسمية المخصصة لهم .
• الإسراف في استخدام المال العام , ومن صوره : تبديد الأموال العامة في الإنفاق على الأبنية والأثاث – المبالغة في استخدام المقتنيات العامة في الأمور الشخصية – إقامة الحفلات والدعايات ببذخ على الدعاية والإعلان والنشر في الصحف والمجلات في مناسبات التهاني والتعازي والتأييد والتوديع.
4. الانحرافات الجنائية , ومن أكثرها ما يلي :
• الرشوة .
• اختلاس المال العام .
• التزوير  .
أما أنواع الفساد من حيث الحجم
1 . الفساد الصغير (Minor Corruption)
وهو الفساد الذي يمارس من فرد واحد دون تنسيق مع الآخرين لذا نراه ينتشر بين صغار الموظفين عن طريق استلام رشاوى من الآخرين .
2 . الفساد الكبير (Gross Corruption)
والذي يقوم به كبار المسئولين والموظفين لتحقيق مصالح مادية أو اجتماعية كبيرة وهو أهم واشمل واخطر لتكليفه الدولة مبالغ ضخمة
أما أنواع الفساد من ناحية الانتشار
1 . فساد دولي :-
وهذا النوع من الفساد يأخذ مدى واسعاً عالميا يعبر حدود الدول وحتى القارات ضمن ما يطلق عليها (بالعولمة) بفتح الحدود والمعابر بين البلاد وتحت مظلة ونظام الاقتصاد الحر .
ترتبط المؤسسات الاقتصادية للدولة داخل وخارج البلد بالكيان السياسي أو قيادته لتمرير منافع اقتصادية نفعية يصعب الفصل بينهما لهذا يكون هذا الفساد أخطبوطياً يلف كيانات واقتصاديات على مدى واسع ويعتبر الأخطر نوعاً.
2 . فساد محلي :-
وهو الذي ينتشر داخل البلد الواحد في منشأته الاقتصادية وضمن المناصب الصغيرة ومن الذين لا ارتباط لهم خارج الحدود (مع شركات أو كيانات كبرى أو عالمية).
أسباب الفساد الإداري والمالي
1- سيطرة الحكومة على معظم المشروعات والمعاملات الخاصة واحتكار معظم الخدمات الأساسية.
2- بقاء القيادات لمدة طويلة في المؤسسات مما يؤدي إلى نمو شبكة المصالح والتحايل على دورات العمل .
3- ضعف المساءلة العامة.
4- طول دورات العمل وكثرة الإجراءات والمستندات المطلوبة وعدم وضوحها للمواطن.
5- تدهور مستويات الأجور وغياب مبدئي الأمانة والشرف
6- تلاشي الحدود بين الخطأ والصواب وخاصة في مراحل دورة العمل للحصول على الخدمة بحيث أن الكثير مما يعد إثماً ولا شرعية له أصبح مقنناً ومباحاً (فالرشوة صارت إكرامية أو بدل انتقال، والسمسرة أصبحت استشارة وانتفاع الأبناء من وظائف الآباء ومراكزهم صار حقّاً.
7- ضعف الرقابة المجتمعية .
أما عن مظاهر انتشار الفساد المالي والإداري فهي:
1- سوء استعمال السلطة .
2- انتشار الرشوة والمحسوبية .
3- الاختلاس من المال العام.
4- التسيب والإهمال الوظيفي واللامبالاة والتفريط في المصالح العامة
5- الاتجار في الوظيفة العامة
الآثار المترتبة على الفساد الإداري والمالي
إن خطورة ما يطرحه الفساد من مشاكل ومخاطر على استقرار المجتمعات وأمنها والذي يقوض مؤسسات الديمقراطية وقيمها والقيم الأخلاقية والعدالة، ويعرض التنمية المستدامة وسيادة القانون للخطر
وما يترتب على الفساد المالي والإداري من آثار اقتصادية وسياسية واجتماعية سيئة تؤثر بشكل مدمر على المجتمع، وآثار مدمرة تطال كل مقومات الحياة في الدولة، فتضيع الأموال والثروات والوقت والطاقات وتعرقل سير الأداء الحكومي وانجاز الوظائف والخدمات، وتقود إلى تخريب وإفساد ليس على المستوى الاقتصادي والمالي فحسب، بل في المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية، ناهيك عن التدهور الخطير في مؤسسات ودوائر الخدمات العامة المتصلة بحياة المواطنين.
ويعد الفساد المالي والإداري المعرقل الرئيسي لخطط وبرامج التنمية إذ تتحول معظم الأموال المخصصة لتلك البرامج لمصلحة أشخاص معينين من خلال استغلال مراكزهم أو الصلاحيات المخولة لهم.
وبذلك تتعرقل عملية التنمية ويتفشى التخلف والفساد وينعكس بدوره على مجالات الحياة كافة وفي ذلك خسارة كبيرة للمال والجهد والوقت وضياع فرص التقدم والنمو والازدهار.
وبالنسبة للآثار الاقتصادية لظاهرة الفساد، يمكن تحديد بعض الآثار المتعلقة بهذه الظاهرة ومنها:
1- يسهم الفساد المالي والإداري في تراجع دور الاستثمار العام وإضعاف مستوى الخدمات في البنية التحتية بسبب الرشاوى والاختلاسات التي تحد من الموارد المخصصة للاستثمار في هذه المجالات وتؤثر في توجيهها بالشكل السليم أو تزيد من كلفتها الحقيقية.
2- للفساد المالي والإداري دور كبير في تحديد حجم وجودة موارد الاستثمار الأجنبي، ففي الوقت الذي تسعى فيه الدول النامية إلى استقطاب موارد الاستثمار الأجنبي بأكبر حجم وأفضل جودة لما يمكن أن تحققه هذه الاستثمارات من توفير الموارد المالية وفرص العمل ونقل المهارات والتكنولوجيا، فقد برهنت الدراسات وأثبتت التجارب أن الفساد المالي والإداري يقلل من حجم هذه الاستثمارات ويضعف من جودتها في بناء وتعزيز الاقتصاد الوطني، بل انه قد يقود إلى جعلها عبئا كبيرا على موارد الدولة، بالإضافة إلى عزوف المستثمر الأجنبي عن الاستثمار بسبب تخوفه من أضرار الفساد باستثماره.
3- يقود الفساد إلى إساءة توزيع الدخل والثروة، من خلال استغلال أصحاب السلطة والنفوذ لواقعهم ومناصبهم المميزة في المجتمع والدولة، مما يسمح لهم بالسيطرة على معظم الموارد الاقتصادية والمنافع الخدمية التي تقدمها الدولة مما يؤدي إلى توسيع الفجوة بين هذه الطبقة وبقية أفراد المجتمع.
4- كما يؤدي إلى التقليل من كفاءة الاقتصاد ويضعف من النمو الاقتصادي بالإضافة إلى أنه يقوم بزيادة مديونية الدولة .
المظاهر وطرق العلاج
إن مسألة الفساد ومنها الفساد المالي والإداري ليست بمسألة رياضية أو معادلة يمكن احتسابها بالأرقام ليصل الشخص إلى فك رموزها وإعطاء النتيجة بأسلوب رياضي بحت بل هي مسألة تعود إلى ذات الشخص في مقاومتها (ضمن اطر البيت والحارة والدائرة والمجتمع) .
إن مسألة الالتزام بالتشريعات السماوية في منع مظاهر الفساد ومعاقبة المفسدين
بالعقاب العاجل في الدنيا والأجل عند الحساب كقوله تعالى (إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الإبصار)  ،ويعتبر عاملاً مهماً لدى الكثيرين في عدم الولوج إلى هذا الدهليز المظلم والذي لن يجني منه المفسد إلا الخسران لذا لا نجد من يمارسون مظاهر الفساد قد اندفعوا لها بسبب عاطفي .
إن ظاهرة الفساد المالي والإداري ظاهرة طبيعية في المجتمعات عموما ولكنها تتباين في درجاتها تبعا لمدى فاعلية المؤسسات الرقابية وانتشار الوعي الأخلاقي والقانوني والإداري في الدولة.
ولاشك أن المكاسب المادية والمعنوية التي يجنيها المفسد هي التي تدفعه لارتكاب مثل هذه الأفعال والتي قد تأخذ واحد أو أكثر من مظاهره التالية:-
1. الرشوة Bribry
وتعني حصول الشخص على منفعة تكون مالية في الغالب لتمرير أو تنفيذ إعمال خلاف التشريع أو أصول المهنة .
2 . المحسوبية Nepotism
أي إمرار ما تريده التنظيمات (الأحزاب أو المناطق والأقاليم أو العوائل المتنفذة) من خلال نفوذهم دون استحقاقهم لها أصلاً .
3 . المحاباة Favoritism
أي تفضيل جهة على أخرى بغير وجه حق كما في منح المقاولات والعطاءات أو عقود الاستئجار والاستثمار .
4 . الوساطة
أي تدخل شخص ذا مركز (وظيفي أو تنظيم سياسي) لصالح من لايستحق التعيين أو إحالة العقد أو إشغال المنصب.
5 . الابتزاز والتزوير Black Mailing
لغرض الحصول على المال من الأشخاص مستغلاً موقعه الوظيفي بتبريرات قانونية أو إدارية أو إخفاء التعليمات النافذة على الأشخاص المعنيين كما يحدث في دوائر الضريبة أو تزوير الشهادة الدراسية أو تزوير النقود .
6 . نهب المال العام Embezzlement
والسوق السوداء والتهريب باستخدام الصلاحيات الممنوحة للشخص أو الاحتيال أو استغلال الموقع الوظيفي للتصرف بأموال الدولة بشكل سري من غير وجه حق أو تمرير السلع عبر منافذ السوق السوداء أو تهريب الثروة النفطية .
7 . فساد يتقاطع مع الأنظمة والقوانين المتعلقة بنظام العدالة وحقوق الملكية والتسهيلات المصرفية والائتمانات وكذلك التمويل الخارجي 
8 . الفساد في بيئة المجتمع / التلوث ودخان المصانع.
9 . التباطؤ في أنجاز المعاملات وخاصة المهمة والمستعجلة كمعاملات التقاعد والجنسية وجواز السفر ووثائق تأييد صحة صدور الشهادات أو الكتب الرسمية .
أما عن طرق معالجة الفساد الإداري فتعد جميع أشكال الفساد السياسي والمالي والإداري المنغص الأول للنزاهة والشفافية اللتين تعدان الضمان الحقيقي لعملية بناء الاقتصاد الوطني ويقع على عاتق الدولة مسؤولية إطلاع المواطنين بصورة مستمرة على سير عمليات الإدارة العامة، لذا ينبغي أن يرافق نشاط المرافق العامة شفافية عالية تمكن المواطنين ومنظمات المجتمع المدني والجهات المختصة من الإطلاع على الحقائق المتعلقة بالمسائل الإدارية والمالية لكي يكون بالإمكان مساءلة ومحاسبة المسئولين في حال وجود تقصير في العمل أو عمليات فساد تقود إلى الإضرار بالاقتصاد الوطني .
والعلاقة بين الشفافية والفساد المالي والإداري علاقة عكسية فكلما نضجت وسائل الشفافية
وأخذت دورها في المجالات كافة ارتفعت إمكانية محاربة ومواجهة الفساد والقضاء عليه
والتقليل من آثاره المدمرة، حيث يستمد الفساد قوته من الغموض وعدم الوضوح اللذين يكتنفان إدارة الأموال العامة:.
1-  تنشيط وإعمال السياسات الضرورية لاجتثاث الفساد الإداري بوصفه ظاهرة مدمرة لعملية التنمية الاقتصادية.
2- تدوير الموظفين والمسئولين بشك مستمر لضمان عدم السماح لبناء بؤر فساد
إداري على هيئة عصابات منظمة يكون من الصعب بعد استفحالها القضاء
عليها، فبقاء المسؤول الإداري فترة طويلة في موقعه يتسبب في تفشي الفساد
ويقود إلى بناء شبكات فساد إداري تكون بمثابة سرطان في جسد الدولة.
3 - تشجيع العاملين داخل دوائر الدولة على تقديم ما يتوافر لديهم من معلومات متعلقة بعمليات مشبوهة قد تشكل جرائم فساد مالي وإداري.
4 -رفع الأجور والرواتب للعاملين في الدولة لضمان توفير الحد الأدنى من الرفاهية
التي تمنعهم من الانجرار إلى مزالق الفساد المالي والإداري، وتضمن عدم ترك الكوادر
الكفوءة والنزيهة لمؤسسات الدولة لمصلحة القطاع الخاص، فيبقي في الإدارة
العامة الموظفين غير الأكفاء فتتراجع الإنتاجية ويكرس الروتين ويبدأ الفساد
المالي والإداري بالظهور.
5 -توعية المواطنين وتعريفهم بحقوقهم وواجباتهم وبخطورة الفساد المالي والإداري لضمان تعاونهم في القضاء عليه.
6- تشديد العقوبات المفروضة على مرتكبي جرائم الفساد المالي والإداري لتشكيل منظومة
ردع خاص وعام لكل من تسول له نفسه الانزلاق في هذا المنزلق الخطير.
7-  تفعيل دور الأجهزة الرقابية في الإدارات العامة وتوليها صلاحيات واسعة
لمحاسبة المقصرين والمهملين، وملاحقة مرتكبي الفساد المالي والإداري.
8-الاستعلام بشكل دوري عن مصادر الثروة لدى المسئولين لضمان عدم تكدس
الأموال المتحصلة من عمليات الفساد المالي والإداري لديهم.
9- ضرورة إشراك منظمات المجتمع المدني في عملية الإصلاح المالي والإداري ومكافحة
الفساد.
10- الانضمام إلى الاتفاقيات الدولية الساعية إلى محاربة مظاهر الفساد المالي والإداري حيث يكون بالإمكان الاستفادة من تجارب الدول الأخرى والعمل سوية على عدم
السماح لمرتكبي جرائم الفساد من الفرار إلى خارج بلدانهم وضمان استرجاع
المبالغ المنهوبة.
11- استخدام أساليب الحكومة الالكترونية لتقليل احتكاك المواطن بالموظف العام وما
قد ينجم عنه من إغراءات بتسهيل الإجراءات مقابل مبالغ مالية معينة.
مما تقدم نرى أن ظاهرة الفساد المالي والإداري ظاهرة عالمية شديدة الانتشار ذات جذور عميقة تأخذ أبعاداً واسعة تتداخل فيها عوامل مختلفة يصعب التمييز بينها، وتختلف درجة شموليتها من مجتمع إلى آخر، كما أن  الآثار المدمرة والنتائج السلبية لتفشي هذه الظاهرة المقيتة تطال كل مقومات الحياة لعموم أبناء الشعب، فتهدر الأموال والثروات والوقت والطاقات وتعرقل أداء المسؤوليات وإنجاز الوظائف والخدمات، وبالتالي تشكل منظومة تخريب وإفساد تسبب مزيداً من التأخير في عملية البناء والتقدم ليس على المستوى الإداري والمالي فقط، بل في الحقل السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي،أي فيما يتعلق بالتنمية الشاملة، ناهيك عن مؤسسات ودوائر الخدمات العامة ذات العلاقة المباشرة واليومية مع حياة الناس، مما يحتم إنشاء نظام رقابي فعّال مستقل مهمته الإشراف ومتابعة الممارسات التي تتم من قبل الوزراء والموظفين العاملين في كل وزارة ومؤسسة.

الأحد، 16 فبراير 2014

الأسباب الرئيسية للفساد في السلطات القضائية في البلدان النامية

الأسباب الرئيسية للفساد في السلطات القضائية في البلدان النامية

يركز هذا الحقل، المعروف بحقل القانون واقتصاد التنمية، جل اهتمامه على الآثار التي يتركها النظام القانوني والقضائي الصالح على الكفاءة الاقتصادية والتنمية. يشير آدم سميت في محاضراته عن القانون أن العامل الذي أعاق تطور التجارة بشكل كبير كان ضعف النص القانوني وعدم التيقن من النتائج بعد التطبيق ((Smith, 528. إن الممارسات الفاسدة الراسخة، وبخاصة تلك الراسخة في القطاع العام ( أي الفساد النظامي الرسمي)، تعيق التعريف الواضح للقانون وتطبيقه، وبناءً عليه، فكما أشار Smith (1978)، هذا ما أعاق التجارة. ويعتبر المنهج العلمي في تحليل الفساد متطلباً أساسياً في النضال من أجل مكافحة الآفات الاجتماعية. الفساد ليس استثناءً. الفساد المنظم هو الذي يستخدم المكاتب العامة لغايات شخصية راسخة لا تستطيع بدونها المؤسسة أو المنظمة العمل كمورد للبضائع أو الخدمات. وتقل إمكانية اكتشاف الفساد كلما أصبح الفساد منظماً أكثر. وإذن، عندما يصبح الفساد منظماً يصبح تطبيق الإجراءات التقليدية لمعاقبة مرتكبي الأفعال غير المشروعة أقل تأثيراً بينما تصبح الإجراءات الوقائية كالتغير المؤسسي (أي التقليل من التعقيدات الإجرائية في تقديم الخدمات العامة)، زيادة الرواتب وإجراءات أخرى أكثر نجاعة. يخضع أيضاً تطور وتدهور الفساد المنظم إلى قوانين السلوك البشري. لذا علينا أن نعرف القوانين بشكل أفضل قبل تطبيق السياسة العامة. ولتحقيق هذا الهدف علينا: 
وضع سياسة مطالبة (أي إدارات تتركز السلطة التنظيمية فيها في أيدي بعض المسئولين في القطاع العام-  بدون رقابة خارجية – حينها يكون عرضة لسلوك الفساد). 
وضع تفسير منطقي لسياسة المطالبة (أي لماذا يسير التركيز العالي للسلطة الإدارية جنباً إلى جنب مع السلوك الفاسد). 
جمع المعلومات التي تدعم أو تدحض الادعاء
تصميم سياسات عامة استناداً إلى النتائج
وفي هذا السياق، ومن أجل تصميم سياسات عامة لمحاربة الفساد، فانه من الضروري بناء قاعدة بيانات للمعلومات الكمية والكيفية التي لها علاقة بالعناصر التي يعتقد بأنها مرتبطة ببعض أشكال ممارسات الفساد المنظم (الاختلاس، الرشوة، الابتزاز والاحتيال)؛ مثال: يعمل البنك الدولي حالياً على تجميع قاعدة بيانات لأنظمة القضاء في العالم أجمع (Buscaglia and Dakolias 1999) والتي تغطي العوامل المرتبطة بالنجاحات النسبية التي تحققت في الكفاح من أجل إقامة نظام قضائي كفء.
تظهر التجارب الدولية أن  إجراءات بعض السياسات الكلية المرتبطة بانخفاض الفساد مع ما هو في البلدان الممتدة ما بين أوغندا وسنغافورة، وما بين هون كونغ وتشيلي (Kaufmann 1994). وتتضمن هذه الإجراءات تخفيض التعرفات الجمركية والحواجز التجارية الأخرى؛ توحيد سوق الصرف وأسعار الفائدة؛ إلغاء معونات المنشآت؛ تحديد المتطلبات الإجرائية لتنظيم وترخيص المنشآت؛ حواجز أخرى لدخول السوق؛ الخصخصة ورفع الاحتكار عن الأصول الحكومية؛ تعزيز الشفافية في معايير المعاملات البنكية (المصرفية) والمحاسبة والتدقيق؛ تحسين إدارة الضرائب والموازنات.
أما الإصلاحات المؤسساتية التي تعيق ممارسات الفساد فتتضمن إصلاحات الخدمة المدنية، إصلاحات قانونية وقضائية وتقوية وتوسيع الحريات المدنية والسياسية. وأخيراً هناك الإصلاحات التنظيمية الجزئية مثل تحسين الإجراءات الإدارية لتجنب اتخاذ القرارات المبنية على التقدير الشخصي والازدواجية في المهام، بينما يتم إدخال معايير جديدة  لتقييم أداء جميع الموظفين (بناءً على الوقت والإنتاجية)؛ تحديد الرواتب على أساس الأداء؛ خفض درجة السلطة التنظيمية للأفراد داخل المؤسسة؛ والتقليل من التعقيدات الإجرائية؛ وجعل القوانين والأنظمة الداخلية متاحة ومعروفة للمسئولين والمستخدمين (Buscaglia and Gonzalez Asis 1999).

التسلسل الزمني لرسم سياسات مكافحة الفساد

يُنصح باستخدام الخطوات التالية عند تصميم سياسات لمكافحة الفساد:
1. يجب إجراء تحليل تشخيصي للبلد لتحديد، ضمن قائمة أولويات، المناطق الرئيسية التي ينشأ فيها الفساد المنظم؛ يجب أن يجرى هذا التحديد من خلال مسح لمستخدمي الخدمات الحكومية، المشاريع، ودافعي الضرائب ؛ ويجب أن يطبق هذا المسح على جميع المؤسسات الحكومية (مثل الجمارك، السلطة القضائية وكالة الضرائب وغيرها). 
2. بعد تحضير قائمة الأولويات بالمناطق حيث ينشأ الفساد المنظم، يتم تطوير قاعدة بيانات لكل هذه المؤسسات بحيث تشمل إجراءات الفساد الموضوعية وغير الموضوعية (مثل تقارير الفساد، اتهامات الاحتيال والابتزاز والاختلاس والرشوة في المؤسسة ذاتها، والأسعار التي تحددها المؤسسة والمتغيرات الأخرى التي يعتقد بأنها تفسر الفساد. جمع معلومات عن الفترة الزمنية لإجراءات الوقت المتعلقة بتقديم الخدمات الحكومية، نظرة المستفيدين للكفاءة والفعالية والفساد، والوصول للمؤسسة؛ التعقيدات الإجرائية في تقديم الخدمات ...الخ.
3.إجراء تحليل إحصائي يحدد بوضوح الأسباب والعوامل التي تؤدي إلى الفساد في مؤسسة حكومية محددة. تحديد ما إذا كانت أي من العناصر الاقتصادية المؤسساتية أو التنظيمية المذكورة أعلاه لها علاقة بالفساد.
4.عندما تكتمل مراحل التشخيص والتحديد، يجب مشاركة المجتمع المدني في تطبيق ومراقبة سياسات مكافحة الفساد؛ كما يجب تطوير خطة عمل من خلال إجماع بين المجتمع المدني والحكومة على أن تحتوي الخطة على المشاكل، والحلول وبرنامج زمني لتطبيق الحلول والنتائج المتوقعة.

لقد تم تطبيق هذا النهج على المستويين القضائي والبلدي في عدد من البلدان مما أظهر نتائج هامة (Buscaglia and Dakolias 1999). في هذه الحالات تم استخدام الخطوات التالية: أولاً: تم إجراء مسح للمستفيدين الذين تقدموا بطلبات للحصول على تصاريح معينة من حكوماتهم المحلية (مكتب المقاطعة في فنزويلا). تمت مقابلة المستفيدين فوراً بعد الانتهاء من تعبئة الطلب، وطلب منهم ترتيب الكفاءة والفعالية لاستمارة ومستوى ونوعية المعلومات التي يحصلون عليها، والفساد في الإجراءات الإدارية المستخدمة للحصول على رخصة بناء أو صناعة. ثانياً: تم تجميع بيانات كمية وكيفية لتحديد المتغيرات التي أثرت على إجابة المستفيدين على الاستمارة  من خلال تطبيق  التحليل الإحصائي. تمت دراسة نتائج الدراسة التشخيصية في ورشة عمل شارك فيها ممثلون عن المجتمع المدني والحكومة المحلية حيث استطاع  ممثلو المجتمع المدني والحكومة المحلية الموافقة على النتائج أو معارضتها. 

عندما يتفق المجتمع المدني والحكومة على ماهية المشاكل يجري فريق متداخل الحقول بإجراء دراسة فنية تجريبية تسلط الضوء على التقليل من الفساد وزيادة الكفاءة في المجالات التي تمت تغطيتها في الدراسة التشخيصية (مثل: مسألة إصدار التصاريح). هذه الدراسة الفنية التي حددت الآليات للتقليل من الفساد وزيادة الكفاءة والفعالية قد تمت لاحقاً مناقشتها وفهمها كما تم قبولها من قبل أعضاء المجتمع المدني والحكومة المحلية. استطاع المجتمع المدني ابتكار آليات لمراقبة وتنفيذ الإصلاحات آخذة بعين الاعتبار تحديد مواعيد محدد لإنجاز العمل. يجب أن يتم قياس نتائج تطبيق الإصلاحات بعد عدة أشهر من الانتهاء من مرحلة التطبيق وذلك من خلال مسح  أخر للمستفيدين المتقدمين بطلبات للحصول على نفس نوع التصاريح. بعد ذلك تمت مقارنة النتائج الفعلية مع النتائج المتوقعة، التي سبق وان تم تعريفها  كأهداف من قبل مجموعات المجتمع المدني. تظهر هذه التجارب أن شن أي حملة لمناهضة الفساد يجب أن تستند إلى أسس علمية متعددة الحقول راسخة يطبقها الباحثون وأصحاب المهن والمجتمع المدني. وأخيراً فإن سياسة واضحة ومحددة تحديداً جيداً ومتسلسلة الخطوات، كما ذكر سابقاً، هي القادرة على بناء سياسة إجماع راسخة سليمة لمحاربة الفساد المنظم. وهذا لا يتم إلا من خلال منهج متعدد الحقول والمنهجية والبيانات والتحليل العلمي لما يصلح أو لا يصلح.

أدرك العلماء أهمية النظر في أمور تتجاوز تحليل آثار الفساد على النمو الاقتصادي والاستثمار، وقد بين بعضهم الحاجة الملحة لعزل الأعمدة الرئيسية التي تخلق حوافز للفساد (Rose -Ackerman 1997; Langseth and Stolpe, + 2001)). كما حددت الأدبيات بصورة عامة الحالات التي ينشأ فيها الفساد، ولم تكن مترابطة أو متعمقة . ومن ناحية أخرى لم يتم التطرق بعمق إلى العوامل المحفزة للفساد في المحاكم في هذه الأدبيات. ومن ناحية ثانية فإن الحاجة الملحة لعمل سياسة تجريبية قابلة للاختبار مناهضة للفساد في المحاكم ضرورية جداً لدمج الدراسة في الاتجاه السائد في العلوم الاجتماعية.

تم تقديم إطار لهذه الأبحاث التجريبية من قبل Buscaglia (1997a) في الإكوادور وفنزويلا ومن قبل Buscaglia and Dakolias (1999) في الإكوادور وتشيلي، مما يفسر التغيرات السنوية التي جرت على تقارير الفساد في المحاكم الابتدائية التي تناولت القضايا التجارية. يبين  هذا العمل بأن هياكل إدارية محددة وأنماط سلوكية داخل المحاكم في البلدان النامية تجعل ممارسات الفساد المنظم عرضة للانتشار السريع الخارج عن السيطرة. على سبيل المثال، فإن عملهم هذا قد وجد أن المحاكم النموذجية في أمريكا اللاتينية توفر حوافز إدارية داخلية تجاه الفساد. إن تحليلاً قانونياً اقتصادياً حول الفساد يجب أن يكون قادراً على كشف الأسباب التي تجعل استخدام المكاتب العامة للأغراض الشخصية هو القاعدة العامة. نظرياً، تمتلك معظم البلدان النامية قانوناً جنائياً يعاقب على ممارسة الفساد، وأنظمة تدقيق خارجية داخل المحاكم لمراقبة الوضع والسيولة النقدية. حتى لو عملت هاتان الآليتان بشكل دقيق فلن تكون كافية لمكافحة الفساد المنظم وتطبيقاته في القانون؛ لذا فإن أبعاد أخرى بحاجة لمعالجة.

إن أنماطاً محددة في المنظمة الإدارية في المحاكم مقرونة بدرجة عالية من الحذر القانوني والتعقيدات الإجرائية تسمح للقضاة وموظفي المحاكم بانتزاع رسوم إضافية غير مشروعة مقابل الخدمات التي يقدمونها. ويرىBuscaglia (1997a)  أيضاً أن هذه الخصائص التي تنمي ممارسات الفساد بالإضافة إلى النقص في توفير الآليات البديلة لحل النزاعات تعطي النظام الرسمي للمحاكم احتكاراً شبه كامل. بصورة أدق، بحسب رأيBuscaglia (1998)  و  Buscaglia and Dakolias (1999)، فإن ممارسات الفساد تعزز عبر: 1) تركيز الأدوار التنظيمية الداخلية بيد حفنة من صانعي القرار في المحكمة (مثل: القضاة الذين يسيطرون على عدد من الأدوار الإدارية والقضائية ضمن دائرتهم)؛ 2) عدد وكثرة التعقيدات في الخطوات الإجرائية مقرونة بالنقص في شفافية الإجراءات المتبعة في المحاكم؛ 3) شك كبير مرتبط بالمعتقدات السائدة والقوانين والأنظمة (مثل: ازدياد التناقض في تطبيق القانون في المحاكم بسبب قلة توفر قواعد البيانات القانونية وأنظمة المعلومات الدفاعية في المحاكم)؛ 4) قلة المصادر البديلة لحل النزاع؛ 5) وأخيراً، وجود مجموعات الجريمة المنظمة (مثل: كارتل المخدرات).

هذه العناصر الخمسة المرتبطة بالفساد توفر دليلاً واضحاً لصنع السياسات العامة. سنت بعض البلدان النامية مثل تشلي وأوغندا قوانين إجرائية وأدخلت بدائل لحل النزاع شهدت نقصاً في التقارير حول فساد المحاكم.
زيادة على ذلك فإن التجارب الناجحة في سنغافورة وكوستا ريكا قد أثبتت أن الفساد قد قل كنتيجة لإنشاء مكاتب إدارية متخصصة تساند المحاكم في قضايا مرتبطة بإشعارات المحاكم والموازنة وإدارة الموارد، السيولة النقدية.  لهذه المكاتب الإدارية المساندة التي تشاركت فيها عدة محاكم نظام إداري لامركزي لاتخاذ القرار ويجري العمل على تقليص المهام التنظيمية غير المراقبة والمتركزة في أيدي القضاة  (Buscaglia 1997a).


الفساد وأثاره طويلة الأمد على الكفاءة والإنصاف
لاحظ بعض العلماء أن الفساد الرسمي يولد نتائج ايجابية آنية للمواطن أو المنظمة المستعدة والقادرة على دفع الرشوة (Rosenn 1984). مثالاً، فان Rose-Ackerman (1997) تتقبل فكرة " أن رشوة هؤلاء الذين يديرون قوائم طوابير الانتظار قد تكون فعالة لأنها  تعطي المسئولين حوافز للعمل  بشكل أسرع وتقدر الذين يثمنون وقتهم عالياً ". وتضيف أنه في بعض الحالات القصوى يجب أن تجاز الرشاوى غير المشروعة ((Rose-Ackerman 1997. هذا التصريح  يتجاهل الآثار التي يسببها الفساد  الحالي لنظرة الناس حول العدالة الاجتماعية والكفاءة طويلة الأمد. إن آثار الفساد الواسعة الانتشار في النظام الاجتماعي لها نتائج ضارة على الكفاءة على المدى البعيد. ولفهم هذا الواقع فأننا بحاجة إلى تطبيق نظرية اقتصادية أخلاقية لمفهوم تأثير الفساد طويل الأمد على الكفاءة.
إن معدل إدراك الفرد العادي لمدى عدالة النظام الاجتماعي له تأثير واضح على الحوافز التي يحصل عليها نفس الفرد لقيامه بنشاطات إنتاجية معينة (Buscaglia 1997a). بحثت الأدبيات في الكثير من الآثار السلبية التي يتركها الفساد على فعالية توزيع الموارد المتاحة، غير أن المصادر السابقة لم تول اهتماماً للآثار التي يتركها الفساد على إدراك الفرد مدى عدالة النظام الاجتماعي.
 أولاً: فان الأغلبية العظمى من السكان في البلدان النامية لا تستطيع دفع الرشاوى للمسئولين الحكوميين حتى ولو رغبت في ذلك، (Buscaglia 1997a).
 ثانياً: فان إيجاز الرشاوى غير القانونية لن يكون لها  تأثير على السلوك الاجتماعي في مجتمعات لا يحكم القانون الحديث فيها  التفاعل الاجتماعي بل تحكمها مجموعة من القواعد السلوكية العرفية والدينية.
إن الأثر الهام للفساد على الكفاءة المستقبلية هو نتيجة للأثر الذي تتركه الممارسات الرسمية للفساد على إدراك المواطن العادي للعدالة الاجتماعية. ويشيرHomans (1974) أن الوضع النسبي لأي فرد ضمن مجموعة بشرية يحدده مفهوم هذه المجموعة لمدى مساهمة هذا الفرد في المجال الاجتماعي ذات العلاقة. ويضيف Homans أن أي تغيير في الوضع المادي للفرد بدون أي تغير في مفهوم مساهمته الاجتماعية سيواجه بعداوة مفتوحة من قبل الأفراد الآخرين في المجتمع (أي أن الحسد قد يؤدي إلى الانتقام ودمار الثروة الاجتماعية). وبناءً عليه، من وجهة نظر Homans،  في الحالات التي يمارس فيها الفساد،  فأن التغير في الوضع المالي "الغير المبرر اجتماعياً" لأشخاص يقدمون أو يقبلون الرشاوى يعتبر خرقاً لفكرة المواطن العادي عما يشكل التسلسل الهرمي العادل للوضع في المجتمع.
ويمكن تطبيق نظرية الأخلاق ل Homansعن مفهوم آثار الفساد الرسمي المنظم على الكفاءة  مع مرور الوقت. فأعضاء المجتمع الذين لا يريدون أو لا يقبلون تقديم الحوافز غير المشروعة سوف يحرمون من كل خدمات الصالح العام (أي خدمات المحكمة). وفي هذه الحالة حتى لو رفع الفساد الحواجز البيروقراطية عن الذين يريدون أو يقبلون دفع الرشاوى فإن تقديم الخدمات العامة يصبح غير عادل في نظر كل الذين حرموا من هذه الخدمات لأنهم لا يرغبون أو لا يستطيعون أن يكونوا جزأً من صفقة فاسدة. إن الإحساس بعدم الإنصاف له آثار طويلة الأمد على التفاعل الاجتماعي. 

يعزز الفساد الرسمي المنظم نظاماً اجتماعياً غير عادل حيث يصبح تخصيص المصادر ضعيف الترابط مع الحقوق والواجبات المقبولة بشكل عام. يشير Buscaglia (1997a) أن تخصيص المصادر كما هو مفهوم يعرقل الحوافز التي تولد الثروة من قبل كل الذين تم استثناؤهم من تقديم الخدمات العامة الأساسية. إن المواطن العادي الذي لا يستطيع الحصول على إحدى هذه الخدمات نظراً لعدم قدرته على دفع الرسوم غير المشروعة، يتوقف عن طلبها من النظام الرسمي (Buscaglia 1997a). في كثير من الأحيان، فإن السعر العالي التي تفرضه النشاطات الفاسدة ضمن القطاع العام يجبر المواطنين على البحث عن آليات مجتمعية بديلة للحصول على هذه الخدمات (أي: آليات بديلة لحل النزاعات مثل المجالس العشائرية).

من ناحية ثانية فان هذه الآليات المجتمعية البديلة ليس لديها القدرة على تشكيل سابقة في بعض النزاعات القانونية (مثل: انتهاك حقوق الإنسان أو بعض القضايا الإدارية) كما يفعل نظام المحاكم. تؤكد وجهة نظر Hernando de Soto حول مؤسسات المجتمع المحلي في اليبرو على أن انخفاض القدرات الإنتاجية يسببها ارتفاع أسعار معاملات الحصول على الخدمات العامة (de Soto 1989)

مبدئيا،ً يعتقد المرء انه بإلغاء الحواجز البيروقراطية فإن دفع الرشاوى يمكنه أيضاً تعزيز الكفاءة الاقتصادية؛ ولكن هذه مغالطة لأن الفساد يمكنه أن يعود بالفائدة على الفرد القادر أو الذي يريد دفع الرشوة. من جهة أخرى (كما أشير أعلاه) فإن البيئة الاجتماعية تتأثر بشكل سلبي بسبب التناقص في الإنتاج الاقتصادي على مرور الزمن وذلك بسبب الاعتقاد السائد بأن توزيع الموارد المتاحة يتحدد بشكل أكبر بسبب الممارسات الفاسدة وأقل بسبب الإنتاجية، وبالتالي، فإن هذا  بطبيعته غير منصف. يخلق هذا الوضع بيئة يحتاج فيها الأفراد للبحث عن طرق غير مشروعة لنقل الثروة واستبعاد زيادة الأنشطة الإنتاجية. وفي هذا الصدد فأن الفساد الحالي يقلل من الإنتاجية المستقبلية ويقلل الكفاءة مع مرور الزمن.

الفساد والجمود المؤسسي
عند تصميم السياسات لمناهضة الفساد في المجالين القانوني والقضائي يجب أن نأخذ بعين الاعتبار ليس فقط التكاليف والمنافع للمجتمع المتمثل في القضاء على الفساد بشكل عام بل المنافع الفردية الحالية والمستقبلية والتكاليف كما يراها المسؤولون في القطاع العام الذين ستتناقص أجورهم غير المشروعة نتيجة للسياسات العامة المناهضة للفساد. تناقش الدراسات السابقة أن سن القوانين نابعة من طبيعة طول أمد فوائد الإصلاح في أذهان المصلحين، مثل تعزيز فرص العمل والاعتبار المهني (Buscaglia, Dakolias, and Ratliff 1995). هذه المنافع لا يمكن جنيها على المدى القصير من قبل المصلحون المحتملون داخل الحكومة. فالتباين مابين الطبيعة الفوائد طويلة الأمد والطبيعة قصيرة الأمد لتكاليف الإصلاح الأساسية تؤدي إلى انخفاض ملموس في الدخل غير المشروع للمسئولين في الدولة. إن هذا التباين مابين التكاليف قصيرة الأمد والمنافع طويلة الأمد تقف عائقاً أمام المبادرات المتعلقة بسياسات الإصلاح في القطاع العام. إذن فإن تسلسل الإصلاح يجب أن يضمن الفوائد للمصلحين من اجل تعويض خسارة الأجور غير المشروعة من قبل موظفو القطاع العام المسئولين عن تطبيق الإصلاح. بدورها، فإن مقترحات الإصلاح المنتجة لفوائد طويلة الأمد لأعضاء أنظمة المحاكم بحاجة إلى تطبيق في مراحل لاحقة من عملية الإصلاح Buscaglia, Ratliff, and Dakolias 1996) ).

على سبيل المثال، تجادل الدراسات القضائية السابقة في أمريكا اللاتينية بأن الجمود المؤسسي في سن القوانين نابع من منافع الإصلاح على المدى البعيد مثل زيادة الاستقرار الوظيفي واستقلالية القضاء والاعتبار المهني. التناقض بين الطبيعة طويلة الأمد لهذه الفوائد والطبيعة قصيرة الأمد للتكاليف الأساسية  للإصلاح القضائي للمصلحين (على سبيل المثال ، الرشاوى والإغراءات الصريحة غير الرسمية الأخرى المقدمة إلى موظفي المحاكم). إن هذا التباين بين تكاليف قصيرة الأمد وفوائد طويلة الأمد تعرقل الإصلاحات القضائية وتقف سداً منيعاً في وجهها وتفسر سبب عرقلة وتأخر إصلاحات المحاكم التي عادة ما تعود بالنفع على جميع فئات المجتمع
(Buscaglia, Dakolias, and Ratliff 1995). 

وفي هذا السياق، فإن إصلاحات المحاكم التي تعزز التوافق والشفافية والمساءلة أثناء عملية تطبيق القوانين ستقلل بالضرورة قدرة موظفي المحاكم للبحث عن مصادر دخل إضافية من خلال الرشاوى. إذن، فإن تسلسل الإصلاح يجب أن يضمن فوائد قصيرة الأمد  للإصلاحيين من اجل تعويض خسارة الأجور غير المشروعة التي سبق وحصل عليها موظفو القطاع العام المسؤولون عن تطبيق التغيرات. لذا فإن الإصلاح المبدئي يجب أن يركز على منافع قصيرة الأمد للموظفين في القطاع العام. بدورها، فإن مقترحات الإصلاح التي تنتج فوائد طويلة الأمد بحاجة إلى تطبيق في مراحل لاحقة من عملية الإصلاح.

هناك قوى إضافية أخرى تعزز مبادرات مكافحة الفساد. يُلاحظ عادة أن الفترة التي تحصل فيها أزمات في المؤسسات تتزامن مع توافق الرأي العام بين الموظفين العموميين من أجل إجراء إصلاح في القطاع العام. على سبيل المثال، في النظام القضائي، تبدأ أزمة القطاع العام عندما تزيد التراكمات والمدفوعات من تكلفة وصول الجمهور إلى النظام. عندما تزداد التكاليف يحد الناس من استخدامهم لخدمات المحاكم إلى حد تقل فيه قدرة القضاة وموظفي المحاكم على تبرير مواقعهم وانتزاع الأموال غير المشروعة من الجمهور العام. عندها تزداد مطالبة المسئولين بإجراء إصلاحات في المحاكم من أجل المحافظة على وظائفهم وسط احتجاج الجمهور Buscaglia, Dakolias, and Ratliff) ,1996, 35). عندها أيضاً فإن الوكالة العامة سترغب في إجراء إصلاحات أعمق طالما ستتضمن مقترحات لإصلاح مصادر الفوائد قصيرة الأمد مثل رواتب أعلى، استقلالية المؤسسات وزيادة الموازنات.

إذن فإنه من غير المفاجئ أن هذه البلدان النامية قد أجرت إصلاحات قضائية بعد أن تعرضت هذه البلدان لأزمة شديدة في نظام المحاكم والتي تضمنت كوستا ريكا، تشيلي،الأكوادور، هنغاريا، وسنغافورة (Buscaglia and Dakolias 1999). في كل بلد من هذه البلدان الخمس فوائد إضافية قصيرة المدى قد كفلت الدعم السياسي لعدد من القضاة الرئيسيين الذين ابدوا استعداداً لمناقشة مقترحات الإصلاح القضائي فقط بعد أن هددت الأزمة العميقة وظائفهم
 (Buscaglia and Ratliff 1997). وقد تضمنت هذه الفوائد رزمة سخية لتقاعد مبكر، ترقيات للقضاة والكادر المساند، أبنية جديدة، وموازنات موسعة.

بالرغم من ذلك، ومن أجل ضمان إصلاحات دائمة مناهضة للفساد، فإن الفوائد قصيرة المدى يجب أن تمر من خلال آليات مؤسساتية قادرة على المحافظة على ديمومة الإصلاح. أفضل سيناريو مؤسسي هو السيناريو الذي تكون فيه إصلاحات القطاع العام نتاج إجماع يشمل السلطة التشريعية والسلطة  القضائية ونقابة المحامين والمجتمع المدني. مع ذلك، لنضع في اعتبارنا أن الهيئات التشريعية تعارض في بعض الأحيان إعادة هيكلة المحاكم بشكل خاص وبشكل عام المؤسسات العامة التي يتقاضى منها بعض المشرعين أجوراً غير مشروعة.

لقد استعرضت هذه الورقة الأدبيات الحديثة ذات العلاقة بالآثار الاقتصادية للفساد الراسخ في القطاع العام بشكل عام ونظام المحاكم في البلدان النامية بشكل خاص. تشدد الدراسة على الحاجة لتطوير تفسيرات علمية للفساد تحتوي على مؤشرات موضوعية واضحة المعالم لنشاطات الفساد. وفي نفس، السياق تقترح الورقة بأن الآثار التنظيمية والقضائية والقانونية المشتركة مع المتغيرات الاقتصادية قادرة على تفسير تكرار حدوث الفساد في المحاكم في البلدان النامية

إضافة إلى ذلك، تصف الورقة كيف تؤثر اعتبارات العدالة لدى الأفراد على الكفاءة طويلة الأمد. ويمكن لعلماء النفس الاجتماعي إلقاء مزيدٍ من الضوء في الدراسات المستقبلية على ربط أثار الفساد بالإنصاف والكفاءة. وأخيراً، من اجل أن نفهم ونحيد الجمود المؤسسي خلال الإصلاحات من اجل مكافحة الفساد، يجب على كل الدراسات المستقبلية أن تدمج هوية كل التكاليف والفوائد المرتبطة بكل الذين يصلحون مؤسسات القطاع العام والمسئولين فيها عن تطبيق السياسات الجديدة لمكافحة الفساد.

والسؤال الذي يطرح نفسه عند تطوير أي نهج لرسم السياسة العامة لمكافحة الفساد هو كيف نصنع سياسات عامة قائمة على أسس علمية سليمة تكون مقبولة ومتبناة من قبل المجتمع المدني والقطاع العام على حد سواء؟ الجواب على هذا السؤال شرط ضروري من اجل تطوير اجتماع حول سياسة عامة دولية (ما زالت مغيبة) من اجل مكافحة الفساد.

السبت، 15 فبراير 2014

مصر بعد ثورة 25 يناير و30 يونيو وأفاق المستقبل

مصر بعد ثورة 25 يناير و30 يونيو وأفاق المستقبل

ما الذي يحدث في مصر الآن؟ عن سقوط المسار السياسي الأول للثورة المضادة في مصر وآفاق المستقبل

نستطيع أن نقول إن ما يحدث في مصر، منذ الحراك الشعبي الواسع في 30 يونيو ضد حكم الرئيس السابق محمد مرسي، يشكل بمثابة عودة إلى ثورة يناير 2011 ومعاركها الأصلية ضد سلطوية الدولة القديمة. وذلك بعد عامين ونصف من التشويش والإرباك المتعمد، الذي أحدثه المسار السياسي الكارثي بهندسة المؤسسة العسكرية وجماعة الإخوان المسلمين منذ 11 فبراير 2011. وجاء ذلك بهدف إجهاض الثورة وما تحمله من وعد بتحولات جذرية في بنية السياسة المصرية. ثورة يناير منذ بدايتها كانت ضد الاستبداد، والسلطوية الدولية، والقهر البوليسي، وانتهاك حقوق الإنسان. وكانت ضد اقتصاد سياسي لا تنموي قائم على رأسمالية المحاسيب، والريع، وسوء توزيع الدخل، والفساد، والظلم الاجتماعي.

 إن الهدف من الثورة، كان وما زال، تفكيك الدولة القديمة القائمة على استبعاد غالبية المواطنين من عملية صناعة القرار. ويأتي هذا الاستبعاد لصالح هيمنة الأجهزة الأمنية والعسكرية والنخب البيروقراطية والأوليجاركيات الاقتصادية. وتأتي أهداف الثورة من أجل بناء دولة ديمقراطية جديدة. تستوعب هذه الدولة جمهور المواطنين كفاعلين أصليين داخل عملية صنع القرار والسياسات العامة، وما يستلزمه هذا من إعادة بناء مؤسسات الدولة. وكذلك تغيير شكل ومضمون علاقات الدولة بالمجتمع والمواطنين. وإعادة تأسيس لمفهوم حكم القانون، إضافة إلى توسيع وتجذير المجال العام والمجتمع المدني والحريات العامة والخاصة، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والمساواة والتعددية الاجتماعية والسياسية. بالإضافة إلى إدماج الأقليات والهوامش داخل الدولة والمجال العام.

 ستكون هذه الدولة الجديدة بشرعيتها الديمقراطية التشاركية أكثر قدرة على بلورة سياسات عامة تخدم مصالح أوسع قطاعات ممكنة من المواطنين. كما ستتمكن هذه الدولة الجديدة من تحقيق الإنجازات المتعلقة برفع مستوى المعيشة وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسعي نحو العدالة الاجتماعية وتحسين شروط الحياة لأغلبية المواطنين. الأمر الذي فشلت الدولة القديمة في تحقيقه بصورة واضحة.

إن الخصم هنا واضح: إنه أجهزة الدولة القديمة العسكرية والمدنية. أضف إلى ذلك، كل ما ارتبط بهذه الأجهزة من شبكات مصالح ونفوذ داخلها وخارجها. أما الفاعل الثوري من الجهة الثانية فهو واضح: فهو يضم طيفاً واسعاً من الحركات الاجتماعية الاحتجاجية والثورية وقطاعاً ضخماً من القوى الشعبية غير الممثلة داخل الدولة القديمة. تلك الجهات الطامحة إلى تغيير السياسة المصرية من الجذور، بغية تحسين أحوالها ونيل حقوقها.

أين هي  جماعة الإخوان المسلمين من هذا الصراع؟ 

إن الإخوان هنا دخلاء على هذا الصراع، فالقضايا المطروحة أعلاه ليست قضاياهم أو معاركهم. إن طبيعة تكوين وفكر وانحيازات الإخوان، السياسية والاقتصادية والثقافية، تجعلهم رافضين تماماً لأي شكل من أشكال التجذير السياسي الثوري. بل إن هدفهم هو وراثة الدولة القديمة كما هي. لكن الإخوان يريدون مع هذه ”الوراثة“ إحتلال موقع القيادة والسيطرة، الذي يرونه ضرورياً من أجل تحقيق مشاريعهم الأيديولوجية.

شارك الإخوان، منذ اللحظة الأولى، سوياً مع المؤسسة العسكرية - وبدعم أمريكي واضح- من أجل بناء ديمقراطية إجرائية محافظة. تتحول مع مرور الوقت إلى سلطوية انتخابية تقوم على مجال سياسي جديد مفتوح ولكن ضيق. مجال قائم بالأساس على الانتخابات كمفهوم وحيد للممارسة السياسية ويعطي شرعية للنظام الجديد/القديم. كما يرتكز هذا المجال على وضع سقف دستوري وسياسي يحد بصورة فعلية من قدرة القوى الحزبية على تغيير السياسات العامة عبر الصندوق.  إضافة إلى عدم وجود أي ضمانات حقيقية لحقوق الإنسان، كما الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. أضف إلى كل ذلك التضييق الدستوري والسياسي والقانوني على كل حركات الاحتجاج النقابية والعمالية والحقوقية والاجتماعية. هذه الحركات التي من المفترض أن تؤذن بتغييرات أكثر جذرية في بنية السياسة والاقتصاد في مصر. بل و على المدى المتوسط والأطول يمكن أن تعمد القوى المهيمنة على الدولة وحلفائها في المجال الإنتخابي إلى إستخدام أدوات هيمنتها للتأثير على مجريات العملية الإنتخابية ونتائجها وقد ظهرت بوادر هذا في الإنتهاكات التي شابت عملية التصويت على الدستور الإخواني العسكري في ديسمبر 2012. تلاقت هنا مصالح الأطراف الثلاث: الدولة القديمة بمؤسساتها المدنية والعسكرية، والإخوان، والإدارة الأمريكية.

من جهة، تضمن مؤسسات الدولة القديمة، وفي قلبها المؤسسة العسكرية، عدم الاقتراب من دورها المتحكم ومصالحها التي ترسخت عبر عقود طويلة من حكم الدولة القديمة السلطوية المستعلية على المواطنين. أما الطرف الثاني، وهم الإسلاميون وجماعة الإخوان في قلب الكتلة الإسلامية، فيستغلون ميزتهم الانتخابية النسبية الراهنة بغية تحقيق أغلبية انتخابية تسمح لهم، على المدى البعيد، بتحقيق مشروعهم السلطوي وفهمهم للدولة الإسلامية. ويقوم على فرض تصور الجماعة الهوياتي والشمولي الطابع بقوة الدولة على المجتمع. ذلك التصور المؤدلج حول السياسة والقانون والثقافة والمجتمع والأخلاق. مما يؤدي إلى طمس التعددية والإختلاف. وأما الطرف الثالث، وهو الولايات المتحدة، فتستمر، فيما تراه استثماراً ناجحاً، في دعم حركات الإسلام السياسي "الوسطي" ”المعتدل“.

يرتكز هذا التصور الأمريكي على معتقد استشراقي ثقافوي، روجت له الكثير من مراكز الأبحاث الأمريكية في العقد الأخير، يتلخص في التالي: إن أحزاب الإسلام السياسية الوسطية المعتدلة هي قدر المنطقة العربية والإسلامية وهي المُعبر الأبدي عن رغبة ومزاج وإرادة  وثقافة جماهير تلك البلاد، ومن ثم فهي تحتكر تمثيل الشرعية الشعبية بالإضافة إلى قدراتها التنظيمية والتعبوية التي تكفل لها التحكم في الشارع العربي وضبطه. ولذلك فإن هذه الحركات هي الضمان الأفضل للاستقرار السياسي وحماية المصالح الأمريكية خاصة، والغربية عامة في الشرق الأوسط، وعلى رأسها أمن البترول وإسرائيل وإحتواء إرهاب الحركات الإسلامية المتطرفة. وبناء على كل ما تقدم، ترى الولايات المتحدة أنه يجب تشجيع بروز الديمقراطيات الإجرائية الأليفة في دول الربيع العربي وبقيادة حركات الإسلام السياسي المعتدل. وذلك لأن هذه الحركات ستحترم معادلات الحكم والمصالح القائمة أمنياً واقتصادياً وإستراتيجياً على المستويات المحلية والإقليمية والدولية بالإضافة إلى إحتوائها خطر الحركات الإسلامية المتطرفة. وهو ما يشار إليه عادةً بالنموذج التركي أو نموذج حكم حزب العدالة والتنمية في تركيا.

لماذا سقط الإخوان؟

 إن سقوط الإخوان كان بمثابة نتيجة منطقية بسبب طبيعة تكوينهم السياسي والتنظيمي والأيديولوجي. وذلك على عكس ما يروج له الإخوان من حديث عن المظلومية الأبدية التي تلحق بهم. إضافةً إلى محاولة تصوير سقوطهم  كنتيجة لمؤامرة فلولية وانقلاب عسكري أطاح بهم وليس الإرادة الشعبية. كما الكثير من الترهات التي تروج لها وسائل الإعلام الأمريكية.

حركة الإخوان عبارة عن طائفة دينية واجتماعية مغلقة تتبنى تصورات هوياتية سلطوية حول الجماعة كراعية وحافظة للهوية الإسلامية القارة والثابتة للمجتمع والتي تحتاج إلى التنزيل السلطوي عبر جهاز الدولة المركزية الحديثة لتضمن أداء دورها على أمثل وجه. كما أن الحركة تتبنى سياسات اقتصادية واجتماعية يمينية محافظة. ولذلك لا يمكن الإشارة لهم كقوة تغيير بأي معنى من المعاني. ذلك وعلى الرغم من تحالفهم مراراً مع العديد من القوى الثورية عبر مراحل الثورة المختلفة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، أثناء إنتفاضة الـ18 يوماً  التي أدت إلى تنحي مبارك وأثناء المرحلة الثانية من الانتخابات الرئاسية عام 2012. إلا أن حركة الإخوان ظلت دائماً بعيدة عن كل آفاق التغيير الديمقراطي السياسي والاقتصادي، كما شرحناه أعلاه. وتجلى هذا عبر عدة محطات مهمة من ضمنها: الدستور السلطوي العسكري، والسياسات والتشريعات التي أعدتها حكومة الرئيس مرسي ومجلس الشورى الإخواني. تلك السياسات والتشريعات المراد منها تقييد حرية التظاهر والجمعيات الأهلية والإعلام وتداول المعلومات والنقابات العمالية وملاحقة الناشطين السياسيين قضائياً وأمنياً. إضافة إلى محاولة وضع أنصار الحركة والأتباع داخل مواقع السلطة التنفيذية والإدارية والقضائية.  أضف إلى كل ذلك مسألة توزيع ”الغنائم“ وهو ركن أساسي في منهج عمل أي طائفة سياسية واجتماعية. كما الاستمرار في سياسات رأسمالية المحاسيب والاقتراض والريع دون أدنى اكتراث بقضايا الإصلاح الإقتصادي. ناهيك عن التنمية الشاملة والعدالة الاجتماعية. وأخيراً، ممارسات التحريض الطائفي والمذهبي، والعنف ضد الخصوم السياسيين، والتي أوجدت حالة من الصراع والإقتتال السياسي والاستقطاب المستمر.

ومن جهة أخرى، حاول الإخوان مسايرة قوى النظام القديم ومؤسساته. ومن المثير للسخرية أن يتحدث الإخوان عن مخاطر حكم العسكر بينما شاركوا هم، جنباً إلى جنب مع العسكر، في تخطيط المرحلة الانتقالية. بل إنهم قاموا بـ”شيطنة“ الحركات الاحتجاجية التي قامت ضد حكم المجلس العسكري. حتى إنهم انحازوا للمجلس العسكري أثناء قمعه للثوار في مذابح ماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء، كلها وقعت بين سبتمبر وديسمبر2011. كما ضمن الإخوان للمؤسسة العسكرية كل ما تريده من إمتيازات وحصانة من مراقبة المؤسسات المدنية، ومواقع تتحكم في شؤون الأمن القومي والإستراتيجية وذلك من خلال الدستور العسكري- الإخواني، الذي شهد إختلالاً واضحاً في القوى والعلاقات المدنية العسكرية لصالح المؤسسة العسكرية.

رفض الإخوان أيضاً، وبإصرار، المضي قدماً في أي من مشاريع العدالة الانتقالية ومشاريع إعادة هيكلة أجهزة الشرطة ومحاسبتها. سواء كان ذلك في فترة مجلس الشعب المنحل أو في عهد حكم الرئيس مرسي. بل على العكس من ذلك، فقد قاموا بتكريم قيادات الشرطة والمجلس العسكري ومضاعفة ميزانية كلا المؤسستين. وأخيراً، حاولت حكومة الإخوان مراراً وتكراراً التصالح مع الأوليجاركيات الرأسمالية الموروثة من عصر مبارك قانونياً وسياسياً.

وبالرغم من ذلك فقد فشلت محاولات الإخوان في بناء تحالف يميني اجتماعي حاكم، مما ساهم في فض الدولة القديمة من حولهم أمام الانتفاضة الشعبية التي شهدها الـ 30 من يونيو. ويعود هذا الفشل إلى عاملين. الأول: نقص الكفاءة لدى الأخوان، إضافة إلى قدراتهم الضعيفة على بناء التحالفات السياسية، حتى حول المسائل التي  قد تكون هناك مساحات إتفاق حولها. على سبيل المثال، كتابة الدستور وتشكيل الحكومات والتحالفات الانتخابية. لكن العامل الأهم في كل ذلك هو أن تكوين الإخوان كطائفة دينية واجتماعية مغلقة، لا تفتح بابها للآخرين ”كزبائن“ محتملين، يثير الشك والريبة والتوجس عند الشركاء المحتملين داخل الدولة القديمة. والمقصود بهؤلاء الشركاء، الجيش والشرطة والقضاء والبيروقراطية، وهي أجهزة محملة أصلاً بعداء قديم للإسلام السياسي. كما أن هذه الأجهزة تتميز باختلاف كبير في تصوراتها مقارنة بالإخوان حول ”المصلحة الوطنية“ و”رؤية العالم“  و"الأمن القومي المصري". ولم يدخر الإخوان وسعاً  في إثارة مخاوف مؤسسات الدولة القديمة وهي ترى مؤسسة الرئاسة تغض الطرف عن حوادث العنف والتخريب والإرهاب التي تقوم بها جماعات محسوبة على التيار الإسلامي -قاعدة التأييد الأساسية لسلطة الإخوان- في سيناء بالإضافة إلى العنف والتحريض الطائفي واستهداف الشيعة والإقباط على يد منتسبين إلى التيارات الإسلامية بشكل يهدد بإثارة عنف أهلي واسع وهو خط أحمر بالنسبة لمؤسسات الدولة القديمة. وبهذا تفشل محاولة الإخوان بأن يصبحوا الطبقة السياسية الجديدة القادرة على توحيد تحالف مؤسسات الدولة الحاكمة. بل تكون هذه المحاولات أقرب منها إلى محاولات استتباع هذه المؤسسات والسيطرة عليها بدلاً من أن تكون هناك تفاهمات مشتركة معها. على سبيل المثال النزاع بين الإخوان والمؤسسة القضائية. وغني عن القول إن أجندة الإصلاح والتطهير الحكومي أصبحت غير مطروحة أصلاً. فما نراه على الساحة ليس أكثر من محاولات إخوانية للتغيير، عبر اختراق المؤسسات القديمة أو خلق هياكل جديدة موازية. وهو ما يراه الآخرون (عن حق) ليس أكثر من تمكيناً للإخوان. ولهذا فقط انفضت الدولة القديمة من حول الإخوان. ولا يأتي هذا الانقلاب بسبب كراهيتهم للمشروع الإخواني الإصلاحي التغييري، كما يدعي الإخوان، بل بسبب عجز الإخوان عن إعادة تأسيس الاستبداد بشكل كفء وفعال وبالتراضي مع الآخرين والشركاء المحتملين في الدولة القديمة. إذن، وبرغم كل بروباجندا الإخوان حول "الدولة العميقة" المعادية لهم فقد خانهم التقدير في القراءة الصحيحة لموازين القوى بين الجانبين من ناحية ومتطلبات التعاون والشراكة مع هذه الدولة. كما أنه قد ثبت أن مخاوف القوى المدنية من الدولة الإخوانية الدينية قد بالغت في تقدير قدرات جماعة الإخوان السياسية والمؤسسية والمادية والتنظيمية على إختطاف الدولة المصرية وأخونتها، كما أن هذه المخاوف لم تعِ قوة مؤسسات الدولة السلطوية المصرية وتشابك مصالحها وتربيطاتها العصية على الإختراق أو التطويع.

ومما زاد الطين بلة الفشل المزري للإخوان في إدارة دولاب العمل الحكومي. ولعبت عوامل عدة دوراً في إنضمام المواطنين العادين للاحتجاجات بعد انسداد آفاق الأمل بتحسن الأوضاع التي اتسمت باحتدام أزمات الكهرباء وارتفاع أسعار المحروقات وإزدياد غلاء المعيشة. كما شهدت البلاد حالة من السخط العام على جماعة فشلت في إدارة البلاد، وتديره بمنطق الطائفة والمافيا المغلقة ذات المصالح الخاصة والإمتدادات الإقليمية والدولية، وتثير المخاوف حول تدخلها في الحياة الخاصة للمواطنين بشكل يحد من حريات الناس. وعلاقة المواطن العادي بالطائفة الإخوانية تبقى دائماً علاقة مركبة ففي أوقات المظلومية التاريخية لهذه الطائفة في عصر ما قبل الثورة من الممكن أن يتعاطف المواطن مع الإخوان بل ويشعر بالإعجاب بتقواهم وورعهم الذي يتمنى أن يكونه. لكن هذه المشاعر تتبدل بسرعة شديدة إلى العداء والنفور والكراهية إذا ما أحس أن هذه الطائفة لا تهتم إلا بمصالحها الذاتية وأن ولاءها لامتدادتها الخارجية وليس لهذا البلد وأنها تعمل ضد مصلحة البلد. إن هذا الإنتقال من مشاعر التعاطف الشديد إلى الكراهية الفائقة تحكمه دائماً وضعية غربة الطائفة وأنها ببساطة كيان متماه مع نفسه فقط ولا يقبل الإندماج داخل المجتمع. ولقد حاول الإخوان تجسير هذه الفجوة و حققوا نجاحاً نسبياً في العام الأول للثورة وكانت ذروة نجاحاتهم في الإنتخابات البرلمانية عام 2011. كان تصويت أحد عشر مليون مواطن لهم هو استجابة لمحاولات الإخوان إستخدام خطاب غير ديني وغير إخواني أثناء الإنتخابات وعبر شعار "معاً نحمل الخير لمصر" حاول الإخوان تصوير أنفسهم علي أنهم حزب وسطي محافظ قادر على تمثيل الشعب وتحمل مسؤولية قيادته. لكن، وأمام إنخراط الإخوان في مسار الثورة المضادة أكثر فأكثر وزيادة الإفتراق بينهم وبين قوى الثورة وتعقد الحسابات بينهم وبين مؤسسات الدولة القديمة، قاموا بتغيير التكتيك واستعادوا خطاباتهم الإخوانية الإسلامية الكلاسيكية اعتماداً على قاعدة التأييد الإسلامية (وبدا هذا في المرحلة الأولى من إنتخابات الرئاسة في 2012 مثلاً) وقد أوجد هذا حالة الشقاق والنفور من عامة المواطنين والتي تصاعدت مع تزايد الإحباطات والأداء المخيب للآمال كما أسلفنا.

إذن تلاقى غضب قوى التغيير الثورية ومؤسسات الدولة القديمة وجموع المواطنين العاديين لتصبح السلطة الإخوانية معزولة. وأصبح اعتمادها على قاعدة تأييد التيار الإسلامي فقط، وهو الذي زادت ممارساته التحريضية ولتكفيرية الساخطين سخطاً. ومن المنطقي أن يسقط حكم الإخوان هنا لأن من يعادي الجميع يخسر. ومن المدهش أن كل الفرص الممكنة لتفادي نهاية حكم الإخوان قد أهدرها الإخوان الواحدة تلو الأخرى بإصرار عجيب. فمنذ استفحال الاستقطاب السياسي في مصر إثر أزمة الإعلان الدستوري الدكتاتوري الذي أصدره الرئيس مرسي في نوفمبر 2012 والإخوان مصممون على الإستمرار في مواجهة صفرية الطابع، لا تحتمل إلا إحدى  نهايتين إما الفوز بكل شيء أو خسارة كل شيء و تحت الضغط السياسي تغلبت عقلية الطائفي المؤدلج (الذي لا يري العالم إلا عبر ثنائية الثبات و الظفر بكل شيء أو المحنة و الإنكسار) قد تغلبت على عقلية التاجر المفاوض عند قيادة الإخوان. فبالتالي رفض الإخوان (قادة وجماهير) تقديم أي تنازلات سياسية حقيقية لقوى المعارضة خاصة بتغيير الحكومة والنائب العام وضمانات لنزاهة الإنتخابات البرلمانية ورفض الإخوان كل شيء إلا الإستمرار في سياستهم الفاشلة في التعامل مع مؤسسات الدولة القديمة. ورفضوا أخذ تصاعد الغضب الشعبي تجاهم بجدية ونحوا جانباً السياسة (بمعنى التفاوض والتهادن والحلول الوسط) لصالح تكسير العظام وعض الأصابع. قام الإخوان بكل ما يستطيعون لإفشال أي محاولة للتغيير والإصلاح مع بقاء حكم الرئيس مرسي وقتلوا فرص أي تدخل سياسي ناعم من الدولة القديمة للضغط من أجل الإصلاح وتم حصار أعداء الإخوان من قوى ثورية ومؤسسات دولة قديمة ومواطنين عاديين في ركن ضيق عنوانه "لا خلاص إلا عبر إسقاط حكم الإخوان." والمدهش أن يفعل الإخوان كل هذا مع أنه من المفترض أنهم يعرفون أنه لا فرصة أمامهم للفوز في معركة صفرية يتحد كل الخصوم أمامهم فيها. وكانت انتفاضة الـ 30 من يونيو التي خرج فيها الملايين بمثابة الضربة القاضية في سقوط الإخوان. وكالعادة أهدر الإخوان فرصتهم الأخيرة في "الخروج الآمن" عبر التضحية بمحمد مرسي والإستجابة لمطلب جماهير 30 يونيو بالدعوة إلى إنتخابات رئاسية مبكرة. كانت هذه الإستجابة ستخلق situation win-win  فكانت ستضمن عدم تدخل الجيش المباشر وتقوم بتهدئة الجماهير بمنحهم مايطلبون وتمنع العنف والتصعيد من جانب الإسلاميين  وتمنح الأخوان فرصة التفاوض حول مواقعهم داخل المسار السياسي الجديد عقب الإنتخابات الرئاسية المبكرة. لكنه منطق اللعبة الصفرية الذي حكم قرارات الإخوان من البداية إلى النهاية. فلم تجد المؤسسة العسكرية بديلاً عن التدخل المباشر لعزل مرسي، خوفاً من أن يؤدي تصاعد المد الشعبي الغاضب إلى انهيار الدولة ككل. كما جاء هذا التدخل في محاولة لامتلاك زمام المبادرة، وترويض الحركة الجماهيرية، وبناء مسار سياسي جديد للثورة المضادة يستكمل ما فشل المسار الأول المنهار في تحقيقه. وللتذكير فقد كان أحد أسباب  دخول الإخوان إنتخابات الرئاسة في 2012 هو ضرورة تفادي أن تسيطر مؤسسات الدولة القديمة على مقعد الرئاسة وما قد يستتبعه هذا من إقصاء أو تهميش للإسلاميين. وللمفارقة، وبعد وصولهم للرئاسة،  قام الإخوان بكل الجرائم التكتيكية والمواجهات الصفرية الإنتحارية الممكنة الكفيلة بجعلهم يلاقون نفس المصير الذي خاضوا الإنتخابات الرئاسية من أجل تفاديه. ولكن بأي تكلفة؟ بفاتورة أكبر بكثير دفعت حسابها عملية التحول الديمقراطي وفرص التغيير الثوري في مصر.

والآن ماذا بعد؟

هناك ملفان رئيسيان على جدول الأحداث في المرحلة القادمة في مصر. الأول هو ملف مستقبل الإسلاميين والثاني هو ملف المسار السياسي الجديد، أو ما أسميه بالمسار الثاني للثورة المضادة في مصر. أما فيما يتعلق بمستقبل الإسلاميين: نستطيع أن نقول –بقدر من اليقينية- إن انتفاضة 30 يونيو، وهي أضخم حشد جماهيري في تاريخ مصر وأضخم حشد جماهيري في تاريخ العالم الإسلامي ضد الإسلام السياسي، قد أعلنت نهاية مشروع الإسلام السياسي. والمقصود بنهاية مشروع الإسلام السياسي نهاية مشروع تأسيس الدولة الإسلامية بالمعنى الذي شرحناه سابقاً، لأنه قد ثبت وجود مقاومة مجتمعية شديدة لهذا المشروع مما يجعل تحقيقه غير ممكن. وبغض النظر عن الطريق لتحقيق هذا المشروع، سواء كان ذلك عن طريق القوة أو عبر صندوق الإنتخابات وإلا تكررت قصة محمد مرسي وسقوطه مرة أخرى. 

لكن هذا لا يعني زوال الإسلاميين بأي حال من الأحوال. فالتيار الإسلامي  سيبقى ممثلا لكتلة شعبية معتبرة في المجتمع المصري، كتلة لها تنظيمها الانتخابي القوي ولها حضورها  السياسي والإجتماعي. ومن الممكن الحديث عن ثلاثة سيناريوهات مستقبلية محتملة فيما يخص مستقبل الإسلاميين بعد سقوط مرسي. والسيناريوهات الثلاثة تقوم على قناعة أن عودة مرسي للرئاسة صارت ضرباً من الخيال وقادة جماعة الإخوان (وبعيداً عن كل تحريضهم العلني على التظاهر والإحتجاج للضغط من أجل عودة مرسي على طريقة هوجو تشافيز في 2002) فهم وقبل غيرهم يعرفون أن عودة مرسي هي في حكم المستحيلات فهذا خيار إنتحاري بالنسبة لقادة الجيش. والكتلة الإحتجاجية المطالبة بعودة مرسي ترتكز فقط على التيار الإسلامي وبالتالي فهي كتلة عاجزة عن فرض إرادة التغيير عبر معادلات الإحتجاج ناهيك عن تناقص حجم هذه الكتلة مع الوقت يأساً و قنوطاً. وأخيراً فحتى لو فرضنا جدلا أن المستحيل قد تحقق وعاد مرسي فببساطة سيتكرر مشهد 30 يونيو المليوني الإحتجاجي ضده مرة أخرى و بشكل أكثر خطورة.

السيناريو الأول فيما يخص مستقبل الإسلاميين في مصر هو الدمج الصحي والإيجابي وعبر هذا الدمج يتحول الإسلاميون إلى أحزاب سياسية محافظة ثقافياً وإجتماعياً تتموقع على يمين المشهد السياسي وتفوز بحصص في المؤسسات المنتخبة. ومن الممكن أن تزيد أو تنقص هذه الحصص، بحسب وزنهم النسبي المتغير، ويمكن لهم أن يشاركوا في الحكومات المنتخبة لكن يبقى ذلك في إطار قواعد عامة يتوافق عليها الجميع، فيما يتعلق بعلاقة الدين بالسياسة والدولة وضمانات الحريات والحقوق والفصل بين المؤسسات وغيرها. والشرط الضروري هنا هو أن يحدث هذا في إطار المشاركة لا الرغبة في الهيمنة والسيطرة. وهو بعكس ما جرى أثناء المسار الأول للثورة المضادة. إلا أن ذلك يستلزم تجديدات جذرية ومنهجية في أشكال التنظيم الحركي الإسلامي وفي فكر الإسلاميين. وخاصة فيما يتعلق بمواضيع المواطنة والحريات والحقوق والديمقراطية والتعددية. تجديدات تتجاوز الدعوات المألوفة للفصل بين الدعوى والسياسي وتذهب إلى آفاق أخرى تتعلق بقبول شرعية الجماعة الوطنية، وتذهب كذلك إلى فهم السياسة كمساحة للتدافع والإختلاف وليس كمساحة للغلبة والتمكين، والإنتقال من ”سياسات الهوية“ إلى ”سياسات التدبير“. إضافة إلى  التخلي عن منهج شمولية العمل الإسلامي والتعبئة الدينية الطابع (في حقيقة الأمر هذا التجديد لن يكتمل إلا على أرضية إصلاح منهجي وشامل في الفكر الإسلامي المعاصر فقهياً وعقائدياً مما قد يتسع الحديث له في موضع آخر). أيضاً، ووفق هذا السيناريو للدمج، فيجب أن تكف الأحزاب الإسلامية عن خلط الدعوي بالسياسي وأن تخضع للشفافية فيما يخص تمويلها ومصادر إنفاقها وحظر أي تمويل يعتمد على إمتداداتها الخارجية ومراقبة هذه الإمتدادات والفروع الخارجية نفسها ولا نرى حتى الآن مؤشرات على وجود استعدادات عند الإسلاميين لإجراء هذه التجديد الشامل. بل من المرجح أن يصطف الإخوان وراء قياداتهم التنظيمية العليا والوسيطة، على المدى القصير والمتوسط على الأقل، في وجه ما يرونه من أخطار وجودية أمامهم في المرحلة الراهنة.

وهناك سيناريو آخر هو أن يتم التفاوض بين الجانبين ويقبل الإخوان بالتخلي عن مطلب عودة مرسي (غير الممكن ممكن عملياً)  والتهدئة. وفي المقابل يقوم المسار السياسي الجديد بدمج الإخوان على شرط "مشاركة لا مغالبة"و ضمان عدم ملاحقة قادة الإسلاميين أمنياً ولا قضائياً بدون أن يلزموا الإخوان بأي تجديدات فكرية وتنظيمية حقيقية.

أما السيناريو الثالث فهو أن يسلك الإخوان درب سياسة الأرض المحروقة. بمعنى آخر اللجوء إلى التصعيد وإشعال العنف والإقتتال الأهلي والطائفي والفوضى الاجتماعية والسياسية. وهذا ما بدأ فيه الإسلاميون بالفعل، منذ إسقاط مرسي. وهنا ستصبح مواجهة الإسلاميين بشكل أساسي مع المجتمع وليست فقط مع الدولة. على عكس ما كان الحال عليه بين السبعينيات وحتى التسعينيات. 

إن فرص كل من السيناريوهات المذكورة أعلاه مرهونة بأمرين. من جهة، مدى تحلي الإسلاميين بالعقلانية والمسؤولية للتخلي عن عقلية المباريات الصفرية والصراعات الوجودية وسياسة الأرض المحروقة، والتي ستطالهم هم أولاً قبل غيرهم. إضافة إلى ذلك يتعلق الأمر بمدى رغبتهم بإجراء المراجعات الشاملة المطلوبة والقبول بالمساومات والتفاوض السياسي حول مواقع لهم داخل المسار السياسي الجديد. ومن جهة أخرى، يتعلق الأمر بمدى قدرة المسار الجديد على دمجهم بشروطه. وعلى الرغم من أن أمر الدمج يبدو صعب المنال ومحفوفاً بالمخاطر، إلا أن هذا السناريو محتمل بسبب تداخل المصالح الاقتصادية والتجارية و الإجتماعية. إضافة إلى الأدوار الإقليمية التي لعبها الإخوان في السنوات الأخيرة. كما أن الاعتبارات العملية والأمنية التي تحكم المؤسسة العسكرية ممكن أن تؤدي إلى دمج الإخوان حتى دون أن يقوموا بمراجعات وتغييرات لازمة في فكرهم وتنظيمهم وذلك نظراً لتداخل الأدوار والمصالح. حيث أن المؤسسة العسكرية  تقود المسار السياسي ولا ترغب بتحمل العبء والثمن الذين يمكن أن ينجما عن اصطدام واسع مع الإخوان  وإقصائهم. بالإضافة إلى هذا فعلي المدى الإستراتيجي الأبعد يمكن لنا أن نقول أن مؤسسات الدولة القديمة ترغب دائماً في إبقاء التيار الإسلامي على الساحة كتيار معارض رئيسي هو في حقيقة الأمر متصالح أيديولوجياً وسياسياً ًمع معادلات الحكم الخاصة بعلاقة الدولة السلطوية مع المجتمع والمواطن ويتم توظيف هذا التيار دائما كعامل إرباك وتشويش وتجريف واستنزاف للطاقة السياسية للمعارضة والقوى الشعبية. من الناحية الأخرى فمن المرجح أن تستمر قيادات الإخوان فيما برعت فيه دائماً من خيارات تكتيكية مثل الحفاظ على وحدة الجماعة عبر منطق الإصطفاف لمواجهة الخطر الوجودي، واستخدام شعارات الهوية والشريعة الإسلامية لتوحيد صفوف الجماعة وكسب تعاطف القوى الإسلامية الأخرى. ومن ثم يتم تأجيل التجديد الفكري والتنظيمي المطلوب إلى أجل غير مسمى.

لا يعني هذا أن سيناريو العنف و التصعيد غائب عن اللعبة بتاتاً، لكنه على الأرجح لن يكون على الطريقة الجزائرية شديدة الدموية. لأنه في حالة الجزائر وعقب الإنقلاب العسكري على  نتيجة الإنتخابات البرلمانية في 1992 كانت هناك مؤسسات دولة قوية عازمة على استئصال الإسلاميين وكان هناك تيار إسلامي تعرض لمظلومية حقيقية (لأنه حرم من نتيجة فوزه الإنتخابي) وحاضنة شعبية تتعاطف مع هذا التيار، أو على  الأقل لا تشارك في حرب الدولة ضده. بينما في حالة مصر فالدولة لا ترغب  في استئصال التيار الإسلامي ولا تريد تحمل تكلفة هذا. ومن الصعب الحديث عن مظلومية التيار الإسلامي في مصر فقد أخذ فرصة حقيقية للحكم وفشل فيها وفقد شرعيته وأخيراً فالمجتمع المصري قد ثار بالفعل ضد حكم الإخوان وأبدى معدلات عالية من الكراهية والنفور الإجتماعي ضدالتيار الإسلامي. وبالتالي فهو لن يوفر أي حاضنة شعبية للعنف الإسلامي. إذن فالمرجح هنا هو أن أي عنف إسلامي في مصر سيظهر بصيغة ما يعرف بـ (Low intensity conflict) و العنف العشوائي على مستوي القواعد الشعبية الإسلامية هنا وهناك إضافة إلى التعبئة السياسية الاحتجاجية الإسلامية المستمرة عبر الإعتصامات والمسيرات والتظاهرات. وهذه التعبئة الإحتجاجية تلعب أدواراً مركبة فهي مطلوبة من جانب الإخوان من أجل إبقاء المجال العام هشاً وضعيفاً ومحاصراً و تخريب المسار السياسي. وبالإضافة إلى هذا فهي توفر مساحة للدفاع نفسياً وإجتماعياً عن وجود التيار الإسلامي وإثبات قوته وقدرته على المواجهة والكفاح والبقاء والصمود أمام الممانعة الإجتماعية العاتية وذلك حتى تتغير الظروف والأحوال و تسمح بالـعودة come-back (الرسالة هنا موجهة للأنصار والاعداء معاً). يحتاج التيار الإسلامي إلى تمثيل معين للنضالية والمعركة وإلا بهتت جذوته. أيضاً من الممكن له أن يكتسب تعاطف الكثير من المتدينين الذين أقنعتهم البروباجندا الإخوانية بأن الرئيس القادم بعد مرسي  سيستهدف مظاهر هويتهم الدينية ويمنعهم من أداء الطقوس والشعائر الدينية الإسلامية مثل أداء الصلوات وارتداء النساء الحجاب وغيرها. وفي مقابل هذا التصعيد من جانب الإسلاميين فلن تتردد المؤسسة العسكرية في الاستخدام الانتقائي للعنف المفرط ضد الإسلاميين من أجل ترسيم الخطوط الحمراء في الإشتباكات وتحديد ما لن تتسامح معه (مذبحة أحداث الحرس الجمهوري فجر الثامن من يوليو 2013 نموذجاً). ففي مقابل صمت الجيش أمام معارك الإخوان مع الأهالي في مناطق مختلفة منذ إنتفاضة 30 يونيو في الإسكندرية والجيزة والصعيد (لعله نوع من الاستنزاف للطرفين لكي يتعزز دور المؤسسة العسكرية في النهاية شعبياً كحامٍ للمجتمع) تحرك الجيش وبمنتهى الوحشية أمام محاولة الإخوان الإقتراب من أبنية الحرس الجمهوري مؤكداً أن مناطق نفوذه و مايراه "هيبة للدولة" هي الخط الأحمر الحقيقي بالنسبة للمؤسسة العسكرية.

من الصعب توقع مسار واضح تؤول إليه الأحداث في ملف الإسلاميين. لكن الأقرب إلى الحدوث هو مزيج من السيناريوهين الثاني والثالث ويتفق هذا مع مناهج عمل قيادة الإخوان والمؤسسة العسكرية وتداخل مصالحهما والعقل التكتيكي الذي يحكم قراراتهما. لكن في حقيقة الأمر فهذا التوازي بين السناريوهين من الصعب الحفاظ عليه وهو أشبه باللعب بالنار. ويتصور قادة الإخوان أن التصعيد يمكن أن يبقى دائماً تحت السيطرة ويتم توظيفه كورقة تفاوضية وقت اللزوم. لكن في حقيقة الأمر فمن العسير أن يلجم قادة الإخوان القواعد الشعبية الإسلامية ويدجنوها بمنطق التفاوض البراجماتي في السيناريو الثاني والذي يستلزم التخلي عن محمد مرسي (الذي تمت تعبئتهم للدفاع عنه وفقاً للسيناريو  الثالث بوصفه رمزاً لوجود الإسلام في مصر) . ومن نافل القول أن هذا المسار لن يوفر شروط مثلى للتحول الديمقراطي في مصر ولا لتطوير الإسلاميين. ومن الصحيح القول إن مسألة التعايش مع وجود الإسلاميين في مصر يجب أن تطرح بجدية على أجندة القوى المدنية و الثورية بعيداً عن أحلام الاستئصال (غير الممكن ولا مجدٍ عملياً) لكن يصح أن نقول أيضاً إن الإسلاميين بخياراتهم العشوائية ورفضهم إجراء المراجعات الضرورية وتكتيكاتهم المراوغة بين التفاوض والتصعيد اللا مسئول هم من يضعون أنفسهم على مسار انتحاري لا يقدرون عليه ولا يستوعبون نهاياته.

لكن إلى متى يستطيع الإخوان المسلمين والإسلاميين عموماً تأجيل استحقاقات التغيير؟ مأساة الإخوان أنهم يتحركون في ثلاثة عوالم متوازية ولا يستطيعون الموائمة بينها. فهناك عالم اليوتوبيا الإسلامية وعالم الحداثة السلطوية السياسية والإقتصادية وعالم السيولة السياسية والإجتماعية الثورية التي أتت بها رياح ثورة يناير 2011. الحشد السياسي الإسلامي، سواء أكان إنتخابياً أو تعبوياً إحتجاجياً أو تنظيمياً، يتم على أرضية الأيديولوجية الإسلامية وأحلام الحكم الإسلامي وتأسيس دولة الخلافة الإسلامية وفق منهج يغلب عليه الفهم السلفي للعقيدة والتراث الإسلامي و التصورات القطبية الحركية.

بينما المخرجات السياسية والإقتصادية للجماعة هي بالأساس بنت عالم الحداثة السلطوية المصرية. فنجد الجماعة تستثمر في بناء ماكينة أصوات إنتخابية و”بيزنس” تجاري لمراكمة رؤوس الأموال سعياً للقوة والتحكم في إطار السياسة الكلاسيكية لدولة سلطوية تتعامل مع سكان البلاد بوصفهم رعايا لا مواطنين، رعايا خاضعين لوصاية هذه الدولة وتحكمها في شئون حياتهم و معاشهم وتنشئتهم.

ولكن على أرض الواقع فإن دولة الإخوان في عهد الرئيس مرسي لم تكن "الدولة الإسلامية" التي حلم بها حسن البنا وسيد قطب والتي تستخدم أدوات الحداثة السياسية والمؤسسية وتقوم بتطويعها لصالح تسييد الأيديولوجية الإسلامية على كافة شؤون الإجتماع البشري في مصر. بل كانت دولة مهجنة ورخوة ومائعة تبقي على موزاييك الموروثات القانونية والسياسية والإدارية للدولة المصرية الحديثة ولا تكترث بقضايا "تطبيق الشريعة" ولا الضوابط الشرعية على السياسات العامة حتى ولو بشكل رمزي (وتتعدد الأمثلة هنا مثل مسائل فوائد القروض الربوية ومنع الضباط الملتحين من العمل وتجديد رخص عمل الملاهي الليلية وإستمرار السياحة الشاطئية وعوائد الضرائب على الخمور وغيرها من المسائل). هذا غير إستمرار النهج الإقتصادي النيو ليبرالي ونمط الإندماج في النظام الدولي والإقليمي بمحدداته الإستراتيجية والأمنية والاقتصادية من موقع التبعية. أين هذا من التصور النضالي الطهراني عن "الدولة الإسلامية" التي تقعد للإسلام في الأرض وتقود المسلمين نحو الوحدة وأستاذية العالم وتنهي الاستعمار الغربي الثقافي و السياسي؟ أيضاً لم تظهر جماعة الإخوان بمظهر "الطليعة المؤمنة" أو "الجيل القرآني الفريد" (المعادل الإخواني القطبي لمفهوم الحزب الطليعي القائد في الماركسية اللينينة البلشفية) القادرة على اختراق أجهزة الدولة والسيطرة عليها بقوة إيمانها وبحسن إعدادها وضخامة مواردها البشرية والثقافية والإجتماعية. بل بالعكس كانت الصورة دائماً أقرب إلى دولنة الإخوان منها إلى أخونة الدولة. وبدا وكأن  النضالية الإخوانية البناوية القطبية قد تاهت في أضابير بيروقراطية ومؤسسات الدولة المصرية الحديثة. هذه الفجوة بين الأيديولوجية والواقع أصبح من الصعب تبريرها في عصر ما بعد الثورة وبالتالي زادت من مساحات الشك والتساؤل والحيرة داخل صفوف الإسلاميين. لقد تلبد صفاء اليوتوبيا الأيديولوجية الإسلامية بشعاراتها البسيطة وحماستها الدينية أمام حسبة الموائمات السياسية المعقدة والتقدير البراجماتي لمقتضيات الأحوال و تحقيق المناط.

وكانت استجابة الإسلاميين  لهذا الفشل الإخواني تنحصر في الغالب في الإقرار بالتقصير والعجز عن تطبيق المشروع الإسلامي لكن مع التشديد على ضرورة الإصطفاف وراء الحكم الإخواني -مع كل تقصيره- في وجه أعداء الإخوان من القوى الليبرالية واليسارية الثورية لأن "إسلامي متخاذل أو مقصر أفضل من علماني صريح" ولأن هذه السلطة الإسلامية المتخاذلة ستوفر الحماية للتيار الإسلامي و تمكنه من الاستمرار في الدعوة بدون قمع أو مضايقة على أمل سرابي أن تتحسن الأمور في المستقبل وتتوفر القابلية لتحقيق المشروع الإسلامي. لكن هذا يبقى هروباً تكتيكياً وترحيلاً للأزمة واستغلالاً لمناخ الاستقطاب السياسي حتى يأتي فرج الله من عنده في إفلاس إستراتيجي واضح .لكن ما فاقم أزمة الإسلاميين بقوة هو عجزهم عن مسايرة العالم الجديد الذي أتت به مرحلة مابعد ثورة يناير والسيولة في الحركة والمبادرة والفعل لأجيال جديدة من الفاعلين السياسيين والإجتماعيين تقوم بتفكيك أنساق القوة والضبط والتحكم على مستوي إنتاج السلطة والثروة والمعرفة لصالح  التجريب في التنظيم والحركية والفكر. وبالتالي فنحن أمام صعود قوى سياسية وإجتماعية شابة وجديدة عصية على التدجين والإحتواء والإرهاب، و قادرة على الإحتجاج وكسر إرادة القوى المسيطرة وتحدي الهيمنة والدفاع عن حريات المجال العام الجديد. وبالتالي فإن قدرة السلطة الإخوانية على الإقناع والردع والحفاظ على الرساميل الإجتماعية من الثقة الشعبية التي اكتسبتها جماعة الإخوان عبر عقود قد تآكلت بشكل متسارع أمام كل هذه التناقضات والمستجدات. فقد وصلت حالة الكراهية والنفور الإجتماعي من الحركة الإسلامية في مصر إلى درجات غير مسبوقة تاريخياً وتحتاج عقوداً طويلة من أجل تداركها. وهنا تقع المأساة الكبرى للإسلاميين الآن فهم لم يخسروا فقط هيمنتهم السياسية المستجدة ولكنهم خسروا أيضاً هيمنتهم الإجتماعية والثقافية العزيزة التي راكموها عبر عقود وبلغت قمتها أثناء ذروة اليوتوبيا الإسلامية من السبعينات وحتى التسعينات.

وماذا عن الطيف الواسع للتيارات السلفية؟ هذه بدورها تمر بعدم يقين وتخبط واضح فالتناقض بين إختياراتهم السياسية المستجدة عقب الثورة ومناهجهم الأصلية في النظر والحركة والعمل صار أكبر من أن يتم تحييده بدعاوى الموائمة وحساب المفاسد والمصالح. والمراجع والكيانات السلفية صارت عرضة لسهام الإتهام والشك وفقدان المصداقية من الجمهور السلفي الواسع. وما إنصراف العديد من السلفيين عن حزب النور أكبر الأحزاب السلفية بسبب "تخاذله عن حماية المشروع الإسلامي" إلا تعبير عن هذا التخبط و القلق. وجاءت نهاية الرئيس الإسلامي محمد مرسي بهذه الطريقة الدرامية لتثير مزيداً من الأسئلة حول جدوى العمل السياسي و معناه في إطار المنهج السلفي والعجز عن تطوير البدائل السياسية للتقنيات السياسية الحداثية العلمانية المرفوضة. ولعل مشهد إعتصام الإسلاميين في ميدان رابعة العدوية بالقاهرة هو تعبير واضح عن هذا التخبط الإسلامي فبين الدفاع عن "الشرعية الديمقراطية للرئيس المنتخب" و"المشروع الإسلامي"  تتذبذب شعارات المعتصمين ومن ثم قدرتهم على الإقناع وبناء خطاب متماسك. والأنكى أنه أوصل بعض هؤلاء الإسلاميين المعتصمين إلى القناعة بأن خطاب الدفاع عن المشروع الإسلامي هو خطاب يعزلهم عن باقي المجتمع وأن خطاب الدفاع عن الشرعية الديمقراطية وإن كان غير مقبول شرعياً إلا أنه الأكثر قدرة على إجتذاب المواطنين من خارج التيار الإسلامي ومن ثم إمتلاك أي قدرة علي النجاح في الدفاع عن مرسي. أي تخبط وأي فوضي مفاهيمية!!! الدعوة السلفية وذراعها السياسي حزب النور تعرف ما تريده. هدفها منذ البداية هو وراثة دور الإخوان المسلمين في قيادة التيار الإسلامي في مصر ولكي تحقق هذا الهدف على المدى الأطول فلابد لها أن تتمايز عن الإخوان سياسياً وتتموقع في صفوف المعارضة (باستثناء تحالفهم الإستراتيجي مع الإخوان في مسألة الدستور ومواد الهوية والشريعة) ولا تصطدم لا بمؤسسات الدولة القديمة ولا بحساسيات قوى التغيير الثورية. وهذه العقلانية البراجماتية قادت الدعوة السلفية وحزب النور بالطبع إلى الإعتراف بهزيمة مرسي والإخوان وقراءة المشهد قراءة صحيحة ومن ثم الإلتحاق بالمسار السياسي الجديد. وهذا النهج من الدعوة السلفية قد يحميها من الإقصاء ويضمن لها موقعاً مهماً في المجال السياسي الجديد (نجاح سياسي تكتيكي) لكن هل سيضمن لها إحترام وثقة أنصارها من السلفيين والإسلاميين أمام ما يرونه من خيانتها للرئيس الإسلامي؟ في الأغلب لا. وهنا ستنحصر قاعدة تأييد حزب النور في جمهور الدعوة السلفية فقط وهذا يضرب هدف الدعوة الأصلي (في وراثة الإخوان وقيادة التيار الإسلامي ككل) يضربه في مقتل. فالخسارة الأيديولوجية بالنسبة للإسلاميين تتحول إلى خسارة سياسية على مستوي حجم التأييد و الدعم والإسناد.

إذن وبرغم أنه من المرجح استمرار الدور القوي لجماعة الإخوان داخل الكتلة الإسلامية على المدى القصير والمتوسط لكن مستقبل الحركات الإسلامية على المدى الأطول يبدو غامضاً ومفتوحاً على إحتمالات ظهور فواعل وظواهر إسلامية جديدة  تتفاعل مع هذه التحديات، ظواهر تتراوح بين الجهادية التكفيرية على أقصى اليمين وما بعد الإسلامية على أقصى اليسار.

أما فيما يتعلق بمستقبل البلاد عامة، فقد عادت الثورة إلى معركتها الأصلية. أي إلى معركتها مع القوى السلطوية للدولة بمكوناتها المختلفة، من عسكر وأمن وبيروقراطية وأوليجاركية. وعلى الرغم من أن هذه  القوى خسرت حليفها الانتخابي المدني (الإخوان)، إلا أن المعركة القادمة ستكون صعبة وشرسة أمام القوى الثورية. وذلك لأن القوى السلطوية استغلت الفترة الماضية في إعادة تنظيم صفوفها والحصول على مساندة شعبية، من بعض القطاعات الساخطة على فشل المسار الأول، والذي حملت الإخوان مسؤوليته.

ولم تتضح معالم المسار السياسي الجديد بعد، لكن في الأغلب سيتضمن دوراً مركزياً للمؤسسة العسكرية كطرف يتحكم ولا يحكم، باستثناء سياسات الأمن القومي التي ستبقى خاضعة لحكم الجيش المباشر. ولكن ومن المتوقع أن يكون هذا المجال السياسي عاماً ومفتوحاً لكنه ضيق. ويقوده تحالف يميني سياسي حاكم ينتهج سياسات تبدو ظاهرياً أنها تهدف إلى الإصلاح. لكنها فعلياً ستقوم بتثبيت الوضع القائم(كان فشل الإخوان في تأسيس و قيادة مثل هذا التحالف هو سبب رئيسي في سقوط حكمهم). وسيقوم هذا المجال العام على دمج الإسلاميين بالشروط التي أشرنا إليها آنفاً وبمهام وأسقف محددة. وهنا من المتوقع أن يلعب كل من الدعوة السلفية وحزب النور السلفي دوراً مميزاً كمفاوض بالنيابة عن أنفسهم وعن باقي الإسلاميين، في الحصول على حصص وتحديد موقعهم في المسار الجديد. إن وجود الدعوة السلفية وحزب النور في عملية التفاوض الخاصة ببناء المسار الجديد، لهو مطلب عسكري وأمني ايضاً. بغية نزع ورقة مهمة من أيدي الإخوان، وهي إدعاؤهم أن إسقاط مرسي كان حرباً ضد الإسلام والشريعة والهوية. من المرجح أن يشهد المسار السياسي الجديد ترسيخاً لمصالح النظام القديم ولكن ربما عبر وجوه جديدة. وأخيراً تبلور نزعة عند بعض مؤسسات الدولة القديمة وشبكات مصالحها لإعادة بناء الدولة الأمنية والبوليسية. وتعول هذه المؤسسات على الإنفراج الذي سيحدثه تدفق أموال الخليج وإسترخاء بعض الناس عقب زوال خطر الإخوان. وفي حال شهدت البلاد تصاعداً للعنف الإسلامي فمن الممكن أن يعطي ذلك ردة فعل عكسية وشرعية أخرى للدولة الأمنية في مجتمع تنهكه أعباء المواجهة المستمرة مع عنف الإسلاميين. لكن مشروع الدولة الأمنية هذا سيواجه بقيود وكوابح أهمها ديناميكية الحركات الاحتجاجية وتآكل أدوات القمع وتسييس قطاعات متزايدة من المواطنين – من خلفيات طبقية و إجتماعية متباينة- واقتحامهم للمجال العام قبل وأثناء إنتفاضة 30 يونيو.

لكن أهم العقبات على الإطلاق أمام مشروع إعادة إنتاج الدولة الأمنية ومصادرة المجال العام ستكون إستمرار الأزمات البنيوية للنظام: أزمة الشرعية وأزمة الإنجاز كما أسلفنا. فبقاء النظام سيكون مرهوناً بقدرته على تحقيق الاستقرار. إلا أن هذا الاستقرار لن يتحقق إلا عبر تنفيذ تغييرات ثورية واسعة، لحل أزمتي الشرعية والإنجاز. الأمر الذي سيرفضه النظام رفضاً قاطعاً. قد تقبل الطبقات المتوسطة والدنيا مرحلياً تحمل التكاليف والعسر على أمل أن ينتج المسار الجديد تحسناً في الأحوال. لكن هذا لن يكون تفويضاً مطلقاً وسيواجه لحظة الحقيقة عاجلاً أو آجلاً. وخاصة أن أي إصلاح اقتصادي حقيقي وواسع، وما سيتضمنه ذلك من إعادة هيكلة للموازنة العامة والسياسات المالية والضريبية وسياسات الإنفاق، يستلزم قاعدة شعبية كبيرة وداعمة. الأمر الذي لا يتوفر في حالة المسار الجديد بتحيزاته السلطوية والمحافظة. ومع تآكل قدرات الدولة المادية على القمع وشراء الزبائن فستبقي البلد بشكل كبير غير قابلة للحكم ungovernable أمام طوفان المطالب والإحباطات والإحتجاجات.

من هنا فستبقى الأزمة مستمرة، ومن ثم فاالثورة مستمرة. ومعركة الثورة هي معركة النفس الطويل ومعركة إفشال كل البدائل السلطوية الممكنة والموروثة من حقبة دولة يوليو (دولة قديمة- إسلاميين-عسكر.. إلخ) حتى تستطيع قوى الثورة تقديم بدائلها للوصول إلى السلطة وتحدي هذه المصالح المهيمنة على المدى البعيد. لكن على عاتق الحركات الثورية الآن، أعباء هائلة على مستوى المشروع والتنظيم والقيادة وبناء الكوادر وتكوين الموارد البشرية لملء الفراغ السياسي والاجتماعي الكبير في مصر، والذي من المرجح أن يزداد عقب فشل محاولات الإسلاميين في ملئه خلال سنتين ونصف منذ إندلاع الثورة. كما يتطلب هذا مجهوداً كبيراً من أجل تأطير أهداف وحساسيات القوى الشعبية المختلفة التواقة للتغيير أمام مسار ثان للثورة المضادة.

أخيراً، في تصوري إن تحولات يونيو 2013 في مصر، جاءت ضربة قاصمة في وجه التصورات السياسية والبحثية الأمريكية والغربية. تلك التصورات عن فرص نجاح "الديمقراطيات الإجرائية" المحافظة الأليفة، التي يقودها الإسلاميون المعتدلون في دول الربيع العربي. حيث كانت  هذه السياسات تعمل على قدم وساق نحو تحويلها إلى سلطويات انتخابية محافظة وأليفة وموالية للمصالح الإقتصادية والإستراتيجية الغربية، وبمباركة مراكز الإمبراطورية.  وقد أجهد هؤلاء الباحثون أنفسهم في التساؤل حول ما إذا كانت مصر ستحذو حذو النموذج الباكستاني أو التركي أو الإيراني أو الإندونيسي أو الروماني أو السوداني بالرغم من أن تطورات الأحداث كانت تؤكد أن مسار التغيير في مصر سيكون مختلفاً وأن مصر بصدد تأسيس مايمكن أن نسميه النموذج المصري. كما جاءت تحولات يونيو الأخيرة لتؤكد أن الربيع العربي لن يصير شتاءً إسلامياً، نسبة إلى هيمنة الإسلام السياسي. ولتؤكد كذلك على أن الموضوع أكبر من مجرد البحث عن شروط صحة العملية الإنتخابية وعن تحقيق المصالحة المفاهيمية بين الإسلام السياسي و الديمقراطية . وتتباكي مراكز الأبحاث الأمريكية الآن على إنهيار العملية الإنتخابية في مصر. وتلك الدوائر الثقافية والتحليلية في الغرب أجهدت نفسها عبر سنوات طوال في تحرير ما تراه شروط العلاقة الصحية بين الإسلام السياسي والليبرالية وفي سرد محددات التحول الديمقراطي في مصر. وصدمتها من ماتراه فشلاً في نظرياتها حول الدور المركزي للإسلام السياسي الوسطي المعتدل في تحقيق التحول الديمقراطي المستقر بالإضافة إلى فشلها الواضح في قراءة حركات الإسلام السياسي في مصر. في الأغلب لا يعرف هؤلاء الباحثين الكثير عن الخطابات والممارسات الحقيقية للقواعد الشعبية للتيارات الإسلامية على الأرض ويكتفون برصد بعض الخطابات التحسينية لمجموعات منتقاة من شباب وقيادات الإخوان القادرين على الرطانة بمصطلحات الديمقراطية وحقوق الإنسان. هذه الصدمة تجعل هذه الدوائر البحثية لا تفهم أن مايحدث من حراك سياسي وشعبي وفكري في مصر وما يتضمنه هذا الحراك من تصفية وتفكيك لخطابات الدولة والحكم والمعارضة (ويشمل هذا الإسلاميين بطبيعة الحال) يتحدى أدبيات حقل التحول الديمقراطي الـ democratic transition studies أصلاً .فما يحدث من حراك وتفكيك لأنساق السلطة والقيم والمؤسسات في مصر منذ الثورة  يتجاوز الوصفات السابقة التجهيز للأكاديميا الأمريكية عن العلاقة بين الأيديولوجيات والمؤسسات ومواقعها داخل السياسة والمجتمع في مصر ناهيك عن تصورات حقل الـ post-colonial studies  عن دور الأصالة الثقافية (وممثليها السياسيين من إسلاميين وغيره) في تحقيق التحرر الشامل و مواجهة الغرب بإمبرياليته القديمة والجديدة.  ماتزال هذه الدوائر البحثية والتحليلية والأكاديمية الغربية عاجزة عن فهم أن حركة الجماهير في مصر، التي أطلقتها ثورة يناير، قادرة على فتح آفاق جديدة على مستوى التعبئة والحركية وأهداف التغيير والإحتجاج ومفهوم الحكم وآلياته ومعنى الديمقراطية وآلياتها وفكرة الفاعل الشعبي وإعادة بناء وتركيب الثقافات السياسية والإجتماعية. آفاق جديدة تعجز عن استشرافها الإنحيازات المعرفية والسياسية الجامدة والخيالات العقيمة والضحالة التحليلية والسياسية.

Ads Inside Post