السبت، 13 يونيو 2015

الفقر والشباب ... مرض مدمر

إن جسم الإنسان يرتكز على العمود الفقري، وإن أي خلل يصيب هذا العمود ينعكس سلبًا على الجسد، فقد يؤدي ذلك إلى شلل في الجسم، كذلك هم الشباب، فإنهم عنصر الارتكاز أو العمود الفقري للمجتمع، فإذا ما نظرنا للمجتمعات المتقدمة فإننا نرى كيف اهتموا بالشباب فتتطورا وتقدموا ووصلوا إلى ما وصلوا إليه في شتى المجالات.
إن المهتم بالشأن العربي يرى الحال الذي وصلنا إليه، فقد اختلفنا عن الأمم الأخرى، حيث كانت الأمم والشعوب الأخرى في حالة من الحروب والفوضى والظلام لكنها استطاعت أن تخرج من هذا الحال إلى حال أفضل، فقد تقدموا في الصناعة وعملوا على السيطرة على المنتجات والتسويق وتقدموا في التكنولوجيا والسياسة والعسكرية، لكن في المقابل فإن العرب الذي كانوا قبل فترة من الزمن لهم الفضل في الكثير من العلوم وكانوا يصدرون العلوم إلى الغرب، ثم أصبحوا في تراجع كبير.
الشباب بين سياسات التفقير الممنهجة والحروب التي لا تجلب غير الخسائر والدمار، بين البطالة وبين تعطيل العقول عن التفكير، الشباب العنصر المُهمش في المجتمع العربي.
                           نتيجة بحث الصور عن الفقر والشباب
لو قمنا بعمل دراسة على الجيل الشاب لوجدنا أن الكثير من الشباب لم يلتحقوا بالجامعات وذلك لأنهم لا يملكون المال للالتحاق بالجامعة، فتراهم فقط يبحثون عن لقمة عيشهم التي ينالونها بعدما يذوقون الكثير من الذل والإهانة والمرار، ولو قمنا بعمل دراسة على جيل الشباب لوجدنا أن نسبة الخرِّيجين العاطلين عن العمل بازدياد مستمر، فالبطالة تفتك بالمجتمع العربي ولم تأتِ البطالة من فراغ بل جاءت نتيجة للفساد الموجود الذي أدلا إلى تعيين الشخص اللامناسب في المكان اللامناسب.
الثورة، هي كلمة نسمعها بشكل شبه يومي، هي فعل يقوم به البعض لتحقيق أهداف ما، قد تكون هذه الأهداف تخص العامة من الناس أو قد تصب في مصلحة فئة ما على حساب فئات أخرى، الثورة هي فعل بدأ في العالم العربي لكنه ابتعد عن الهدف وابتعد عن المضمون وفقدت الثورة كل شيء وفقد الثوار آمالهم وأهدافهم، في البِدء كان الهدف من الثورات أو ما سُمي بالربيع العربي هو تغيير وضع قائم واستبداله بوضع أفضل وهذا يعني مشاركة الشباب في مناحٍ شتى في الدولة وحصولهم على جزء من حقوقهم، لكنهم لم يكونوا يعلمون أن كل شيء سيتغير وأن الثورة ستأتي بالحرب.
الحرب، لا تأتي إلا بالدمار، فالدول التي تشهد حالة الحرب الآن عادت عشرات السنين إلى الخلف، ولن تستطيع أن تعيد بناء نفسها إلا بوقت طويل جدًا، ولكن إن اللافت في الحرب أن الشباب هم وقودها مثلما كانوا وقودًا في حالة اللاحرب، فهم مَنسيون ومُهمشون، فالدول التي كانت تتبع سياسة التفقير والإذلال بحق السكان، أظهرت لنا في حالة الحرب أن ميزانيتها كدول هي ميزانية كبيرة تكفي لعمل مشاريع وبناء اقتصاد وحياة كريمة لشعبها. 
إن أهم ما يمكن أن نستخلصه في النهاية أننا لو أهدرنا هذا المال على فئة الشباب لوجدنا أننا نتقدم كالدول الغربية وفي وضع السلم وبعيدًا عن القتل والدمار، ولوجدنا أن الشباب هم عنصر يمكن الاعتماد عليه لأنه جيل متعلم ويستطيع أن يحقق الكثير، لكن ذهبنا إلى الاتجاه الآخر، وألقينا هذه الأموال في حرب لا تُبقي ولا تذر.
كان الأَولَى بناء الإنسان والدولة، لا هدم الدولة وقتل الإنسان.
الشباب العربي بين ماضيه المُر ومستقبله الضائع بين الحرب والهجرة، بين الطموحات والأحلام وبين الخوف مما هو قادم، الشباب العربي الذي كان من الممكن الاعتماد عليه أصبحت هذه الفئة إما مُهجّرة في بلاد غير بلادها وإما تنتظر الموت، وإما أنها أصبحت تمتلك وقت فراغ كبير تقضيه في المقاهي أو على أرصفة الطرقات.
الذين اتخذوا من الحرب وسيلة لتحقيق أهدافهم ليتهم تفكروا للحظة وتوقفوا قبل أن يبدؤوا، لوجدوا أن البناء بالرغم من صعوبته هو أفضل من الهدم على الرغم من سهولته.
كان الأجدر أن تتجه الدول العربية إلى التنمية، لا أن تتجه إلى الصراعات الدائرة الآن بين الدول العربية، في المقابل لا أحد يخسر غير الشباب الذين تحطمت آمالهم على صخرة الواقع الأليم، وذهبت مع الريح حيث يكون الهلاك.
في النهاية عندما أتحدث عن الشباب فإنني لا أقصد الذكور فقط بل أقصد الذكور والإناث، فلكل واحد دوره في الحياة ولكل واحد هدف ومكان.
وتعتبر مشكلة الفقر من المشكلات الاجتماعية الخطيرة التي تهدد أمن واستقرارالمجتمعات، كما أن جميع المجتمعات مهما كان درجة ثرائها وتطورها تعاني من هذه المشكلةوتعمل جاهدة في سبيل الحد منها ومن آثارها سواء على المستوى أو الأسري والمجتمعي. واذا أردنا التحدث عن تأثير الفقر على الأفراد والأطفال بشكل خاص فيجب أن نشير أولا لبعض الدراسات العلمية والبحثية والتي أثبتت بأن الفقر لا يقتصر تأثيره على الأفراد كونه فقط نقصا في المال أو في الطعام، لكنه أيضا السبب الأول للأمراض النفسية والكثير من الأمراض العضوية.
فلقد أثبتت الدراسات منذ عقود أن هناك علاقة طردية بين الفقر والمرض النفسي .. فكلما زادت نسبة الفقر، زاد المرض النفسي بشتى صوره وأهمها الاكتئاب والقلق و الفصام والوسواس القهري و الأدمان.
فبناء على المؤتمر الثاني عشر لاتحاد الأطباء النفسيين العالمي المنعقد في اليابان و المنبثقعن منظمة الصحة العالمية فأن السبب الأول للأمراض النفسية، و التي تعتبر أكثر المشاكل الصحية انتشارا بالعالم في القرن الحادي والعشرين، هو الفقر.

أذا نظرنا للأسر الفقيرة في مجتمعنا فنلاحظ بأن الفقر والعوز وعدم تناسب الدخل الشهري مع عدد أفراد الأسرة واحتياجاتها ليس بالتحدي الوحيد الذي تعاني منه، فالتفكك الأسري وغياب أحدى الوالدين أو معاناة أحدهم (غالبا الأب) من المرض النفسي أو الإدمان وضعف الروابط الاجتماعية أيضا من التحديات التي تعايشها تلك الأسر باستمرار. مما يجعل رعاية الأطفال نفسيا وتربويا والاهتمام بهم ومراقبتهم ليس من أولويات الوالدين أما بسبب ضعف الوعي لديهم أو بسبب انشغالهم بإطعام تلك الأفواه الصغيرة قبل التفكير بالاهتمام بتربيتها ومتابعتها.

أما أذا أردانا التحدث عن تأثير الفقر على الأطفال من الناحية السلوكية والنفسية و الاجتماعية، فنستطيع القول بأن الأطفال في الأسر الفقيرة لا يعانون فقط من شح المال والغذاء ورداءة المسكن ولكنهم يعانون أيضا من شح في التربية النفسية والسلوكية الصحيحة ومن ضعف الرقابة الأسرية وتدني مستوى الوعي مما يعرضهم للكثير من الخبرات والمواقف السلبية في سن صغيرة جدا تؤدي إلى مشاكل نفسية وسلوكية في المستقبل حيث أنهم أرضية خصبة لأشكال معينة من الانحرافات. ففي الأحياء الفقيرة ينتشر خروج الأطفال منذ سن صغيرة جدا إلى الشوارع والتسكع لساعات طويلة والاختلاط مع فئات عمرية و عرقية مختلفة ومتعددة دون أدنى راقبه والدية أو أدراك لخطورة هذا الأمر مما يوقع الطفل في مشاكل سلوكية متعددة مثل التدخين والسرقة كما أن الكثير من الأطفال يصبح ضحية لتحرشات الجنسية وأحيانا اعتداءات جنسية غير معلنة. كما أن ضعف الرعاية الو الدية والمتابعة يؤثر بشكل سلبي على التحصيل الدراسي للأطفال فتكثر مشاكل الهروب من المدرسة والرسوب المتكرر و الانقطاع عن الدراسة في مرحلة تعليمية مبكرة في الطبقات الفقيرة من المجتمع.

لهذا عندما يعيش الطفل أغلب وقته بعيدا عن الرقابة الأسرية وعن التوجيه و الإرشاد الذي تقدمة المدرسة فأنه يبدأ بتبني ثقافة الشارع والتي تشجع السلوك المنحرف والعدواني والغير مقبول اجتماعيا وتصبح مصدرا للفخر ولإثبات الكفاءة والشجاعة فتنتشر ممارسة السرقة والتدخين وتعاطي المخدرات فيما بينهم.

وكما هو معروف بأن مرحلة الطفولة من أخطر مراحل النمو في حياة الإنسان حيث إن شخصية الإنسان تتشكل معالمها الأساسية سلبا أو ايجابيا في مرحلة الطفولة، بالتالي يجب الاهتمام بهؤلاء الأطفال وتامين كافة متطلبات وشروط النمو النفسي والعقلي والبدني والمعرفي السليم لهم حتى لا ينشأ لدينا جيل يعيش على هامش المجتمع ينتشر به البطالة والانحرافات السلوكية والجهل. فهؤلاء الأطفال هم جيل المستقبل و رجاله.

الخميس، 4 يونيو 2015

هل الانتعاش الاقتصادي في مصر يضمن الاستقرار السياسي

منذ تولّي الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي السلطة في حزيران/يونيو 2014، لم يدّخر النظام المدعوم من الجيش أي جهد، في سياق محاولته ضمان تحقيق انتعاش اقتصادي سريع، بعد أربع سنوات من معدّلات النمو المنخفضة، وارتفاع معدّلات البطالة، واتّساع العجز في الميزانية، وتضاؤل احتياطيات النقد الأجنبي.بحلول منتصف العام 2015، كانت ثمة دلائل على أن تلك الجهود بدأت تؤتي أكلها. غير أن الانتعاش الاقتصادي أصبح موضوعاً مسيّساً الى حدّ كبير في مصر، حيث يجادل أنصار النظام ومنتقدوه بأن هذا الازدهار هو الذي سيحدّد مستقبله السياسي.

بيد أن هذه الآراء تعلّق قدراً كبيراً من الأهمية على المسائل الاقتصادية، في حين تتجاهل العوامل الأخرى الاجتماعية والسياسية والهيكلية المهمة، التي تساعد في تحديد قدرة النظام على توطيد حكمه والحفاظ على الاستقرار. ثم، لاتكون العلاقة بين الانتعاش الاقتصادي والاستقرار السياسي مباشرة كما يوحي الجانبان.
يعتبر أنصار النظام أي بادرة على تحسّن الوضع الاقتصادي، دليلاً على أن سياسات السيسي تخطو إلى الأمام، وأنه ينبغي الإبقاء على الوضع السياسي الحالي الذي تسعى فيه الحكومة إلى إدخال إصلاحات من أعلى إلى أسفل لتحريك عجلة الاقتصاد، من دون السماح بقدر كبير من التعدّدية السياسية.
ويشعر معارضو النظام بالقلق من أن الانتعاش الاقتصادي، سيعزّز شعبية وشرعية نظام السيسي الذي يرونه سلطوياً وقمعياً، الأمر الذي سيساعده على ترسيخ سلطته. ويؤكدون أنه لايمكن للنمو والاستثمار أن يتعافيا تماماً، في خضمّ العنف المستشري والبيئة السياسية المقيّدة. ويرى العديد من معارضي النظام في الأزمة الاقتصادية المستمرة، وسيلة لانتزاع تنازلات سياسية في مجالات الحقوق الأساسية والحريات، ماقد يفسّر محاولة البعض عرقلة جهود النظام والتقليل من شأن أي دلائل على الانتعاش.
غير أنه لايبدو أن الانتعاش الاقتصادي يرتبط تلقائياً بتوطيد السلطة. وفي حين قد يساعد الانتعاش السيسي على إحكام قبضته على الدولة، فإنه يمكن أن يؤدّي أيضاً إلى تفاقم العديد من المشاكل السياسية والاجتماعية التي تواجه النظام. والواقع أن استمرار التدهور الاقتصادي، أي غياب الانتعاش، يمكن أيضاً أن يعمّق الأزمات السياسية التي يواجهها النظام. ومن المفارقات أن الظروف الاقتصادية السيّئة والصراع الاجتماعي والاضطرابات الأهلية المتفاقمة، يمكن أن تساعد النظام أيضاً على توطيد سلطته، إذا تمّ اعتبارها الخيار الوحيد في مواجهة المزيد من عدم الاستقرار والفوضى.

وجهتا نظر في الانتعاش الاقتصادي

اعتبر أنصار النظام المصري الانتعاش الاقتصادي أحد أهم الشروط الأساسية لتوطيد السلطة في مصر. وهو ماتذهب إليه المؤسّسات المالية الدولية وحلفاء النظام في الخليج، إذ يتفق الجميع على أن الانتعاش الاقتصادي هو مفتاح تحقيق الاستقرار الاجتماعي والتمكين السياسي.
فطبقاً للنظام الحاكم وحلفائه المحلّيين والإقليميين، يثبت الانتعاش أن السيسي وحكومته قد تمكّنا من تقديم الإصلاحات الضرورية. فمن شأن معدلات النمو الأعلى والمزيد من فرص العمل أن يؤديا إلى مستويات معيشة أفضل، والحيلولة دون العودة إلى الاضطرابات الاجتماعية وتجدّد الاحتجاجات.
يتّفق الخصوم السياسيون للنظام، وخاصة جماعة الإخوان المسلمين وحلفاؤها، على أنه ستكون للانتعاش الاقتصادي آثار سياسية مهمة. فهم يخشون من أنه إذا ما ارتفعت معدلات النمو وعادت الاستثمارات إلى التدفّق في الاقتصاد، وتحسّنت مؤشرات الاقتصاد الكلي، فإن قبضة السيسي على السلطة ستشتدّ. وعلى النقيض من ذلك، فإن عدم القدرة على تحقيق الانتعاش الاقتصادي سيُترجَم إلى مزيد من عدم الرضا وخيبة الأمل تجاه نظام السيسي، مايمهّد السبيل لبروز قاعدة أوسع من الاحتجاج السياسي والاجتماعي، ويمهّد وصفة لعدم الاستقرار في المستقبل.
ولذلك فإن هؤلاء المعارضين مهتمون كثيراً في عرقلة الانتعاش الاقتصادي الناشئ في البلاد. فقد نظّمت جماعة الإخوان المسلمين وحلفاؤها الإسلاميون احتجاجات مستمرة، وأطلقوا حملات إعلامية مناهضة للنظام. وفي المقابل اتهمت الحكومة ووسائل الإعلام المؤيّدة للنظام جماعة الإخوان وبعض الجماعات المرتبطة بها بممارسة أعمال التخريب، مشيرة إلى تفجيرات متفرّقة في المدن الكبرى مثل القاهرة والإسكندرية، كدليل على جهد منظّم لمواجهة جهود الإنعاش التي يقوم بها النظام.

حالة الاقتصاد

على الرغم من جهود الحكومة فإن الانتعاش الاقتصادي، كما يلُاحَظ في ارتفاع معدّلات النمو، وتحسّن أداء الاستثمار، وإعادة بناء احتياطيات النقد الأجنبي، قد يحدث في الواقع بحلول العام 2017 أو 2018.
في نيسان/أبريل 2015، زاد صندوق النقد الدولي المعدّل المتوقّع لنمو الاقتصاد المصري إلى 4 في المئة في العام 2015، ارتفاعاً من تقديرٍ يعود إلى تشرين الأول/أكتوبر 2014 ويبلغ 3.5 في المئة. كما تحسّن التصنيف الائتماني لمصر باطّراد في أواخر العام 2014 والنصف الأول من العام 2015. علاوةً على ذلك، جرى تقديم وعود باستثمارات ومساعدات أجنبية كبيرة، تقدَّر بحوالى 36 مليار دولار وفقاً لمسؤولين حكوميين، إلى مصر في مؤتمر الاستثمار الدولي الذي استضافته الحكومة في أواخر آذار/مارس 2015.
ومع ذلك، من المستبعد أن يحلّ هذا التحسّن المشاكل البنيوية طويلة الأمد التي ابتلي بها الاقتصاد المصري، وأدّت إلى تآكل التأييد للرئيس السابق حسني مبارك، الذي أُطيح في العام 2011.
والواقع أنه تم إلى حدّ كبير، في ظل حكم السيسي، إحياء النموذج الاقتصادي نفسه الذي كان سائداً في عهد مبارك. فقد مالت التغييرات التي طالت سياسة النظام الجديد تحديداً، إلى صالح الشركات الكبيرة والمستثمرين الأجانب، أي العرب الخليجيين. وفي الوقت نفسه، تم خفض الدعم المقدّم إلى السكان، من دون موازنة السياسات الاجتماعية للتخفيف من تأثير ارتفاع الأسعار الذي يواجه المصريين البسطاء الآن. وقد أظهر النظام عجزاً عامّاً أو عدم استعداد للأخذ بفرض ضرائب تصاعدية على أصحاب العقارات ورؤوس الأموال، والتي ستجعل من الممكن إعادة توزيع الدخل وتحسين نوعية الخدمات العامة في مجالات مثل الرعاية الصحية والتعليم.
مع ذلك، يُعاد الآن إنتاج أنماط التهميش الاجتماعي والاقتصادي نفسها التي كانت قائمة قبل ثورة العام 2011. ففي حين نما الاقتصاد المصري بمعدّل مثير للإعجاب خلال السنوات الأخيرة من حكم مبارك، لم ينتقل سوى القليل من آثار ذلك إلى القاعدة العريضة من السكان. فقد ارتفعت معدّلات البطالة، وأدّى التضخّم إلى تآكل الأجور الحقيقية للطبقات المتوسطة والفقيرة في المناطق الحضرية. كل هذه العوامل أدّت إلى زيادة حدّة الصراع الاجتماعي في مصر، ومفاقمة الأزمة السياسية التي واجهت مبارك.
من المؤكّد أن النظام المصري المدعوم من الجيش يواجه أيضاً مشاكل لاترتبط مباشرة بالوضع الاقتصادي في البلاد، بل بالجهود الجارية لإقامة نظام سياسي فعّال لديه القدرة على تمثيل المصالح المجتمعية المختلفة، وخلق طبقة سياسية وسيطة لاحتلال مقاعد البرلمان والمحليات، واحتواء قوى الإسلام السياسي. وما من شكّ في أن الأوضاع الاقتصادية ستؤثّر على الخيارات المتاحة للنظام في التعاطي مع هذه التحدّيات. ومع ذلك، فإن النظر إلى هذه التحدّيات باعتبارها قضايا اقتصادية، يشكّل تبسيطاً واختزالاً لها ضمن أبعاد اقتصادية فقط.

سيناريو بديل

ثمة مؤشرات تفيد بأنه حتى لو تدهور الاقتصاد المصري بدرجة كبيرة، سيظل في مقدور السيسي إحكام قبضته على السلطة. ففي ظل غياب الانتعاش الاقتصادي، ستنخفض مستويات المعيشة بالنسبة إلى غالبية المصريين. ولأن المجال السياسي مغلق تقريباً، من المرجّح أن يأخذ السخط الشعبي تجاه النظام شكل صراع اجتماعي قوي، يترافق مع انحلال اجتماعي وازدياد في مستويات العنف الإجرامي والاغتراب والاضطرابات.
لن تؤدّي هذه الأوضاع إلّا إلى تفاقم انعدام الأمن الذي تشعر به بالفعل الطبقات المتوسطة في مصر. ومن شأن مثل هذا السيناريو الكابوسي إضعاف قدرة تلك الطبقات على المساومة في مواجهة النظام، ودفعها إلى القبول بالاستبداد والانتهاكات الممنهجة لحقوق الإنسان التي ترتكبها الشرطة.
هذا التغيير في المواقف العامة يحدث بالفعل في مصر. فقد أدّى إضراب غير معلن من جانب الشرطة بين العامَين 2011 و2013، إلى ارتفاع واضح في معدّلات النشاط الإجرامي في صورة أعمال سطو وسرقة واختطاف. كما أن انعدام الأمن الشخصي جعل المصريين من أبناء الطبقة المتوسطة أكثر تسامحاً، لابل أيضاً "متواطئين"، تجاه الفظائع التي ترتكبها الشرطة في القضايا غير السياسية، والتي عادةً ماتكون ضد الفقراء في المناطق الحضرية. وقد اعتبر هذا التحوّل، إلى حدّ بعيد، الثمن الذي ينبغي دفعه للعودة إلى الأمن والنظام.
منذ العام 2011، ازداد عدد الأشخاص الذين قُتِلوا في مراكز الشرطة والسجون في قضايا جنائية عادية بمعدّل ينذر بالخطر، عادةً بسبب التعذيب وسوء المعاملة. ومن المثير للاهتمام، للأسف، أن هذا الأمر لم يعد مثار جدل بالنسبة إلى أبناء الطبقات المتوسطة في مصر. وبينما أطلقت انتهاكات سابقة مثل قتل خالد سعيد في العام 2010، الشاب الذي تعرّض إلى الضرب حتى الموت على أيدي اثنين من رجال الشرطة السرية، العنان لموجة غضب شعبية ضد قوات مبارك، إلا أنها لم تعد سبباً للاحتجاج.
إن المزيد من الانحلال الاجتماعي والاقتصادي، قد يضعف موقف الطبقات المتوسطة في مايتعلّق بحكامها المستبدّين، ويدفعها إلى قبول انتهاكات حقوق الإنسان وغياب الحريات والحقوق الأساسية، باعتبار ذلك ثمناً لحكومة تحافظ على النظام في البلاد. وبالفعل، تم خفض التوقّعات إلى حدّ كبير، بعد ثلاث سنوات من الانتقال السياسي الفاشل بين العامَين 2011 و2013. فقد جاء السيسي إلى السلطة، ولم يقدّم سوى القليل من الوعود، باستثناء إنقاذ الدولة، والحفاظ على النظام الاجتماعي من الفوضى.

النظر إلى ماهو أبعد من الاقتصاد

اليوم، لايبدو أن هناك صلة تلقائية بين الانتعاش الاقتصادي وبين توطيد السلطة في مصر. إذ أن قوة النظام ستتأثّر بالعديد من العوامل التي لاعلاقة لها مباشرة بالوضع الاقتصادي العام في البلاد. وتشمل هذه العوامل ديناميكيات النظام السياسي نفسه، وقدرة النظام على تكوين طبقة سياسية يمكنها أن تلعب دور الوسيط بين الرئيس المدعوم من الجيش وبقية المجتمع. أما العوامل الأخرى فهي بنيوية، مثل انعدام الأمن الذي قد تشعر به الطبقات الوسطى إزاء التحوّل السياسي والاجتماعي، والآمال التي ربما تعقدها الفئات المجتمعية المختلفة على النظام السياسي.
يتطلّب الاستقرار السياسي في مصر ماهو أكثر بكثير من ارتفاع معدّلات النمو والاستثمار في المدى القريب. كما أن وجود نظام سياسي مستقرّ وفعّال يوفّر، على الأقل، الحدّ الأدنى من التمثيل للفئات الاجتماعية المختلفة في مصر، أمر ضروري. في الوقت نفسه، يجب أن تتصدّى السياسات الاقتصادية المستقبلية والتغييرات المؤسّسية إلى المشاكل البنيوية في توزيع وإعادة توزيع الدخل. فالتحدّي الحقيقي في مصر يتمثّل أساساً في ضمان الإدماج السياسي والاقتصادي لأوسع مجموعة ممكنة من الفئات والطبقات الاجتماعية.

أخطاء الإعلام في مصر.. ومن يدفع ثمنها السلطة أم المجتمع؟

شهدت ساحة الإعلام المصري على مدار السنوات الأربع المنقضية حالةً غير مسبوقة من الارتباك، تواكبت مع حالة الارتباك السياسي والاجتماعي الذي يغلف الساحة المصرية في ظل تلاحق الأحداث والمستجدات سريعة الوتيرة. فدخل الساحة الإعلامية عناصر غير مدربة، بينما غاب من كان يُنظر إليه باعتباره يمتلك درجة يعتد بها من المهنية والخبرة في مجال الإعلام. علاوةً على ذلك فقد تحول الإعلام عن دوره المنوط به كأداة تعريفية وتثقيفية للمجتمع، ليصبح مجالا لتعميق الاستقطاب الحادث في المجتمع، وفي أحيانٍ كثيرةٍ بدا مجالا للتحريض على العنف وبث الكراهية. وبينما برر هؤلاء الإعلاميون الجدد ما يقومون به على أنه يأتي لدعم النظام القائم في مواجهة القوى المتربصة به داخليًّا وخارجيًّا؛ فإن المحصلة النهائية لما يقومون به كان تعريض ذلك النظام لأزمات متعددة على المستويين الداخلي والخارجي.
اولا- الإعلام بين التنظير والتطبيق:
في ظل ما يسود الساحة الإعلامية من تخلٍّ عن الأصول المهنية للتناول الإعلامي، والجدل الكبير الذي تشهده مصر حول مدى كفاءة ومهنية الإعلاميين في تناول القضايا المطروحة وتعبئة الرأي العام إزاءها سواء بالسلب أو بالإيجاب - بات من الضروري العودة لتعريف المهنية، ومدى استيعابها من العاملين في الحقل الإعلامي. فالمهنية ترتكز على محورين أساسيين ألا وهما (الموضوعية، والحياد)، الحياد بمعنى أن يتم نقل الخبر للمشاهدين مجردًا من الانطباعات الشخصية، ومن التأويل والتعليق المستطرد من جانب الإعلامي، وأن يلتزم الإعلامي الحياد والموضوعية في تناوله للقضايا، فلا يغلب أحد الأطراف على آخر في القضية محل النقاش، فلا معنى للحياد والموضوعية فيما يتعلق بالمنتج الإعلامي النهائي الذي قد يُظهر طرفًا ما على حق، أو قد يُظهر مسئولية أحد الأطراف. وفي الواقع، فإن وعي الإعلام بدوره وبالإطار القيمي الذي يحكمه لا يعني سيطرة الأيديولوجية على تغطيته للواقع، بل يعني الاسترشاد بذلك الدور والإطار القيمي دون توظيفهما كوسيلة أو ذريعة لتشويه الوقائع؛ إذ ينبغي على الإعلام أن يعي السياق الخاص للمجتمع المصري الحاضن له، وما يحيط به من تحديات، تفرض خطورتها أن تصبح في مقدمة الأجندة الإعلامية، ومن ثم تحظى بتغطية واعية، ومحاولة جادة لتوعية المجتمع بخطورتها، وكيفية التعامل معها دون مبالغة أو تهوين.
ثانيا:- الإعلام بين السلطة والمجتمع:
شهدت الساحةُ الإعلامية المصرية في السنوات الأخيرة الكثيرَ من الأخطاء و"السقطات"، وهي ليست إعلامية فحسب بل "أخلاقية" أيضًا. ولعل أول ما يتبادر للذهن في سياق الأخطاء الأخلاقية للإعلاميين هو تعليق مذيعة قناة التحرير على حادثة التحرش بالتحرير التي حدثت أثناء تنصيب الرئيس عبدالفتاح السيسي، بقولها "مبسوطين بقى خلي الشعب يهيص"، وكأن ذلك تبرير يقبله المنطق ويترجم سعادة الشعب بانتهاك امرأة في حادثة تتسم بالبشاعة والوحشية. كما بالغ إعلاميون فاقدون للمهنية الإعلامية في انفعالاتهم وتعبيراتهم في تغطياتهم لأحداث مشابهة، في محاولة للتقليل من أثرها وتأثيرها على صورة النظام الجديد، فانتشر استخدام تعبير مفاده أن "محاولة التحرش الجنسي أو محاولة الاغتصاب عادي وطبيعي في المجتمع" ليس على لسان المغتصب، لكن على لسان إعلامية في إحدى القنوات في أعقاب حادث اغتصاب فتاة نُسب لأمناء شرطة، فحولت بتعليقها وتأويلها الحدث من إطار الطرح الإعلامي للقضية إلى استعراض إعلامي ضحل الأُفق، فبلورت انطباعًا يوحي بأن مثل ذلك ليس بالشيء الغريب أو المستبعد على المجتمع المصري، وهو ما يتعارض مع طبيعة القيم المجتمعية المصرية، بل ويؤثر عليها تأثيرًا سلبيًّا. كما خرج مذيع آخر في أعقاب دعوة مجموعات مختلفة من الشباب لوقفات سلمية للمطالبة بحقوق الشهداء، ليردد وبكل انفعال "اللي عايز ينزل ينزل، ونبقي نشوفهم أكفان"، وهو الأمر الذي يُمثِّل تحريضًا صريحًا للمشاهدين على المختلفين في التوجهات السياسية مع ذلك المذيع. وأخيرًا خرج أحد المذيعين ليبرر قتل 22 مصريًّا في واقعة استاد الدفاع الجوي، بقوله: "ما الفرق بينهم وبين الإخوان؟!". وتتوالى مثلُ تلك الرسائل التحريضية التي يتفاقم فيها العنف نوعًا وحجمًا وأسلوبًا، وأيضًا تحمل تلك الرسائل -بجانب التحريض- تغييبًا للوعي لدى الشعب المصري، بما يزيد من حدة الاستقطاب الأيديولوجي، ويُساعد في تمزيق النسيج المجتمعي المصري.
ويتبادر إلى الذهن في ذلك السياق تجربة الإعلام العراقي وخطؤه الذي لا يُغتفر، عندما بدأت ميليشيات داعش -في بداية الأمر- عبارة عن بضعة أفراد لا يتعدى عددهم العشرات، ولكنهم اتخذوا من الآلة الإعلامية منفذًا قويًّا لهم، وساعدهم الأداء الإعلامي في ذلك عندما داوم على بث الفيديوهات التي تصور تلك الميليشيات، وفحواها قتل وذبح كل من يعترض طريقهم أو يفكر في مقاومتهم أو عدم الاستسلام لهم، فذلك البث المستمر لتلك الفيديوهات سبَّب هزيمةً نفسيةً لدى الشعب العراقي جاءت نتيجة اقتناعه بأن تلك الميليشيات أقوى من إرادتهم وأقوى من اتحادهم أمامها، وبمجرد تمكن الهزيمة النفسية من الشعب العراقي، خارت كل قواه التي يُمكن أن تتصدى لذلك الإرهاب، بل وأصبحت كوقود يغذيها حتى تنامت بالفعل على أرض الواقع.
إن كل ما سبق يعكس اضمحلالا فجًّا في إدراك ممثلي الإعلام حقيقةَ أن الشعب المصري ليست لديه مساحة الرفاهية التي تستوعب إعلام التحريض والإثارة، نظرًا إلى عدة عوامل، يأتي على رأسها خطورة الفترة الزمنية الحالية التي تَعبر فيها مصر من حالة الارتباك السياسي والاقتصادي والانقسام المجتمعي كنتيجة طبيعية للاستقطاب الفكري والأيديولوجي الذي تعرض له المجتمع على مدى أربع سنوات، إلى مرحلةٍ جديدةٍ تعبئ فيها الدولة المصرية كلَّ ما لديها من طاقات وسُبل متاحة للشروع في بلورة وبناء كيانٍ مصريٍّ ذي تماسك مجتمعي قوي، ورؤية سياسية-اقتصادية تهدف إلى تحقيق قفزات نجاح حقيقي نحو المستقبل
ثالثا:- الإعلام والوعي المجتمعي:
يترسخ في الوجدان المصري منذ عقود مضت أن القضية الفلسطينية ودعم حقوق الشعب الفلسطيني يمتزجان بشكل متأصل كمسئولية بلورها التاريخ على أكتاف المصرين، ولطالما كان الدعم والمساندة المصرية للفلسطينيين في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي أهم أولويات الشعب المصري. في ذلك السياق، لا يُمكن إغفال عدم مهنية بعض الإعلاميين في تناول آخر هجمات شنتها طائرات الجيش الإسرائيلي على قطاع غزة في يوليو 2014، وفي مشهد شابه تعقيد مجريات الفعل ورد الفعل بين الجانب الفلسطيني والإسرائيلي؛ قدم بعضُ الإعلاميين المصريين تغطيةً إعلاميةً لذلك الحدث لا علاقة لها بمهنة الإعلام، ولا بالمصالح العُليا للدولة المصرية؛ حيث الخلط الجسيم والفشل في التمييز بين "حماس" التي سيطرت على القطاع بالقوة، وبين غزة نفسها، متجاهلين الحقيقة والمعادلة الثابتة بأن إسرائيل هي الجهة المعتدية المحتلة للأرض، والشعب الفلسطيني في غزة -تحديدًا- هو شعب أعزل يُعاني ويلات الاحتلال الإسرائيلي دائمًا. حيث ردد بعض الإعلاميين في الشاشات والقنوات المصرية أن الحق كل الحق مع إسرائيل، بل وتزداد المأساة بمطالبتهم الجيش المصري بتسديد ضربات عسكرية بصحبة إسرائيل لاستهداف قطاع غزة. وظهر أحد المذيعين وهو يدافع عن إسرائيل ويهاجم الفلسطينيين بكل براعة وإحكام، موفرًا فرصةً ذهبيةً لإسرائيل بأن يستعين إعلامها بمقطع الدفاع عن إسرائيل لذلك المذيع، ناقلا للعالم أن مصر تؤيد ضرب إسرائيل لغزة، بل ولديها كل الاستعداد لأن تعتدي هي نفسها على أهالي غزة. يأتي كلُّ ذلك التكثيف الإعلامي الجاهل مفتقدًا أدنى حدود المهنية والموضوعية، والوعي بأن القضية الفلسطينية بكل ملفاتها تشكل جزءًا حيويًّا من الأمن القومي المصري في الدرجة الأولى، ويشحن الشعب المصري بكميات مضاعفة من الرسائل السلبية والكراهية بما تتبلور عند الشعب المصري بنبذ الفلسطينيين، والتخلي عنهم، بل وخلط الأوراق بما يقلب العدو الإسرائيلي صديقًا ويحول الشقيق العربي إلى عدو. وكان لذلك بالغ الأثر في تراجع درجة تعاطف وتأييد الشعب المصري للفلسطينيين، فلم تخرج مسيرة واحدة تندد بالعدوان الإسرائيلي على غزة، أو تساند الشعب الفلسطيني، كما كان يحدث قبل ذلك من تدفق للمسيرات، وارتفاع التأييد والدعم الشعبي المصري للقضية الفلسطينية، حتى في ظل الأحداث والاضطراب السياسي على الساحة المصرية الداخلية. ورغم كل ذلك يُثبت الواقع ومجريات الأحداث أن توقيع اتفاق وقف إطلاق النار بين الجانب الإسرائيلي والفلسطيني لم يتم إلا برعاية مصرية، فرضت فيها مصرُ عدة بنودٍ تعدل بها أحوال الفلسطينيين، بل وتتعهد مصر لاحقًا بالرعاية الصحية والإنسانية لأهل قطاع غزة، ودعم إعمار القطاع.
رابعا:- الإعلام وتوريط الشعب والنظام الحاكم:
امتد مستوى الاستهتار وافتقاد معايير المهنية والموضوعية في الإعلام المصري ليلحق الضرر بعلاقات مصر الإقليمية؛ حيث قامت إحدى المذيعات بشن انتقاد لاذع للمغرب، قائلة إن "اقتصاد المملكة يقوم على الدعارة، وإنها معروفة بارتفاع نسبة المصابين بمرض الإيدز بين مواطنيها"، ثمّ انتقلت لتنتقد الملك المغربي، محمد السادس، قائلة: إنه يلتفّ على الربيع العربي، متّهمة إياه بالتآمر مع الإسلاميين، وإشراكهم في الحكم خوفًا من وصول الثورات إلى بلاده وتهديد عرشه. مما سبب غضبًا متفاقمًا لدى الشعب المغربي، ولدى الناشطين المغاربة والمصريين، تصاعد بتنظيم مجموعات من النشطاء المغاربة وقفة احتجاجية بالمغرب أمام السفارة المصرية بالرباط، مرددين شعارات من قبيل "تصريحات الزنديقة صورة حقيقية للفوضى العارمة بمصر"، ورافعين لافتات تحمل انتقادًا لاذعًا للمذيعة، ومنددة بالسلطات المصرية. وطالب المحتجون رئيس حكومتهم بأن يتخذ إجراءات تصعيدية أكثر شدةً وحزمًا تجاه تلك الإهانات المصرية للمغرب ولشعبها، كما صبوا غضبهم بوصف الإعلام المصري بالإعلام الهاوي، وكذلك انتقدوا النظام الحاكم المصري واصفين إياه بـ"القتلة السفاحين"، وتوجيههم العديد من الشعارات المنتقدة للسفير المصري بالرباط. أي أن زلة لسان أو خطأ مذيعة تجهل أدنى مستويات المهنية والدبلوماسية الإعلامية، زجت بالسلطات المصرية والمثقفين والشخصيات العامة المصرية في أتون معركة لا داعي لها عملوا فيها على امتصاص غضب المغاربة، فقد اعتذرت وزارة الخارجية المصرية بأكثر من وسيلة، واعتذر السفير المصري للمغاربة في بيان رسمي، كما دعا رئيس الإذاعة والتلفزيون المصري كممثل للاتحاد الذي يضم الإعلام المصري المرئي والمسموع برافديه العام والخاص جميع القنوات المصرية إلى تغطية لائقة احتفالا بعيد العرش في المغرب، لتعكس تلك التغطية العلاقات الفريدة والقديمة بين مصر والمملكة المغربية.
تلا ذلك خطأ إعلامي آخر تسبب في أزمة دبلوماسية بين مصر وإثيوبيا، بعدما نصّبت إحدى المذيعات نفسها قاضيًا له الحق في استجواب السفير الإثيوبي، وتوجيه الأسئلة إليه عبر مكالمةٍ هاتفيةٍ بنبرةٍ صوت متعاليةٍ، وقد حذرها السفير أكثر من مرة بأن تُتيح له فرصة للكلام، وتعدل من طريقة حديثها؛ إلا أنها قررت أن تُنهي الاتصال دون مقدمات. لتعكس كإعلامية للمشاهد المصري اعتقادًا خاطئًا بعيدًا عن الواقع بأن الجانب الإثيوبي أقل من فكرة الاحترام والتقدير في التعامل. بالإضافة إلى ما أُثير من جدل حول أزمة المياه في ضوء بناء سد النهضة الإثيوبي، فذلك المشهد فيه بلورة صريحة لافتقاد أبسط درجات دبلوماسية التعامل الإعلامي، الذي يُشكل أحد عوامل القوة الناعمة التي بإجادتها تحقق مكاسب سريعة ذات تأثير وفاعلية عميقة، وبالفشل فيها تعمق الخسارة على مستوى التعاون بين دولتين أو مستوى التقارب بين شعبين.
نتيجة بحث الصور عن أخطاء الإعلام
وأخيرًا، نذكر الحدث الأبرز في ذلك السياق، ألا وهو اعتذار الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي لأمير قطر تميم بن حمد آل ثاني، عن أي إساءات صدرت ضد والدته الشيخة موزة بنت ناصر في الإعلام المصري، وذلك في ضوء تأكيده أنه لم يصدر بيان رسمي من جهات مصرية يوجه الإساءة لأيٍّ من قطر أو تركيا، وقال الرئيس السيسي في حوار له مع صحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية: "لا يُمكننا الإساءة إلى المرأة العربية بأي شكل من الأشكال، ولذلك أنا قلت لأمير قطر من فضلك بلغ والدتك عني الاعتذار، لأنني لا أقبل مثل هذه الإساءات، ليس لسيدة من قطر فقط، وإنما إلى أي سيدة من أي مكان في العالم".
جدير بالذكر أن كلمة الرئيس التي تداولها الإعلام الإقليمي وليس العربي فقط كانت: "إن الإعلام في مصر لديه هامش من الحرية، وبعد الثورة ارتفع هامش الحرية كثيرًا، إلى حدّ أنه يظن البعض أن الإعلام موجّه لتأييد النظام، مما يتسبب في حرج للدولة المصرية، لأن هناك من يحسب تلك الآراء علينا كجهات رسمية، ولكن في الحقيقة هذه الآراء تعكس غضب وتوجهات الشعب المصري والرأي العام".
وهنا نستطيع أن ندرك ما آل إليه الوضع بمصر من جراء اندفاع الإعلام والإعلاميين المصريين، وعدم التزامهم بأقل درجات المهنية أو الموضوعية الإعلامية، وأن يصل الوضع إلى اعتذار الرئيس المصري حتى وإن كان بشكل ودي حفاظًا على مكانة الدولة المصرية التي يتسبب لها إعلامها في حرج على مستوى التعاملات الإقليمية والدولية، حتى ولو مع دولة صغيرة مثل قطر تتعمد إلحاق التشوية المتلاحق للدولة المصرية عبر قناتها وإعلامييها، ودعم سبل إضعافها وإرباكها، إلا أنها تأخذ من المهنية قشورًا تُزين بها الأداء العام لإعلامها، وحتى ذلك "التزيين" يفشل فيه الإعلام المصري
خامسا:- الإعلام اللحظي وصناعة الرأي العام:
افتقد الإعلام المصري نسبًا متزايدة من قاعدته الجماهيرية، خاصةً أنه لم يعد بارعًا إلا في صناعة مشاهدين ذوي فكر متطرف سياسيًّا واجتماعيًّا نتيجة الخطاب الإعلامي السائد، وذلك بسبب:
أولا سوء استخدام الإعلام بشكل مكثف ومتعمد. وثانيًا اختيار واجهات إعلامية خاطئة تفتقد المصداقية وأبسط قواعد المهنية الإعلامية. وثالثًا لحصر الرسائل الإعلامية عبر التحليلات والبرامج الحوارية للفئات العمرية المتقدمة في السن من المجتمع دون الاهتمام بتوصيل رسائل منضبطة تناسب فئة الشباب، وهو الأمر الذي ساهم بشدة في زيادة مساحات التطرف المجتمعي، وارتفاع نسب العنف في الحياة اليومية. وقد دفعت كل تلك الأمور كثيرًا من المشاهدين إلى الانصراف عن متابعة الإعلام المصري، والاستعانة بوسائل إعلام بديلة، قد لا تُعلي في أجندتها المصالح المصرية، فضلا عن انقطاع فئة الشباب بشكل كبير عن وسائل الإعلام التقليدية، خاصة في ظل انتشار مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية للأخبار، فانصرفت شريحة كبيرة من الشباب إليها، حيث تستمد أغلب معلوماتها ومعرفتها للأحداث بشكل لحظي عبر متابعة الأصدقاء على مواقع التواصل الاجتماعي التي تكون مجالا خصبًا واسعًا دون قيد لكتابة المواقف الحياتية التي يمر بها الأفراد.
وجدير بالذكر هنا أن تركيز الشباب ينصب على رسائل ومتابعات صفحات الثوريين مثل "الاشتراكيين الثورين"، أو الشباب المنخرط في ساحة الاحتجاجات أو التجمعات التي قد تُقابل بالتعامل الأمني أو بالاستنكار الشعبي وغالبًا بالتجاهل أو التشوية الإعلامي، فتكون تلك الصفحات وما تنشره بشكل لحظي للحدث هو المصدر الأسرع والأصدق بالنسبة للشباب، حيث إنه يكون من قلب الأحداث بشرح مفصل، وغالبا ما يتم تصوير فيديوهات أو صور للأحداث من الجمهور العادي، ونشرها على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي لإثبات موقف معين، أو تطور حدث بعينه، وغالبا ما يكون تناول الخبر وانتشاره عبر تلك المواقع سابقًا لتناوله إعلاميًّا على الشاشات والقنوات التلفزيونية بساعات أو أيام، نظرًا لما يتوافر بالفضاء الإلكتروني من حرية وسلاسة ويُسر للمشاركين به، بعيدًا عن التعقيدات الإجرائية والأُطر الروتينية.
ورغم ما سبق فإن بعض القنوات الإخبارية المصرية الخاصة التي لم يمضِ عليها وقت كبير تمثل بشائر طيبة لنواة إعلامية تحتكم إلى سبل المهنية الإعلامية على قدر مقبول للغاية، ولا بد من العمل على تشجيع ذلك النوع الجديد من الإعلام الذي يعتمد على وجوه شابة جديدة، لديها من الكفاءة والحضور الإعلامي، وتبني برامج ذات كثافة وتوازن في التناول الإعلامي، فلا بد من الحرص على تطوير أجيال جديدة من الإعلاميين لمواكبة العصر بشبابه وديناميكيته، كما يتحتم على الدولة المصرية أن تعيد النظر في القوانين والتشريعات الحاكمة للبيئة الإعلامية المصرية.

السياسة الخارجية المصرية بعد عام من حكم السيسي

وسط تصارع الأحداث وضجيج الأخبار وقعقعة مجانيق المفاجآت  في كثير من الأحيان  نحتاج لرؤية وتحليل عميق يرشدنا إلى الصواب ويأخذ بأيدينا  إلى الضوء الساطع في نهاية النفق بشيء من العمق ونحن في منتصف  عام 2015 عام الحقيقة  نتحدث  مجدداً لنخرج  ما في جعبتنا  من رؤى عميقة  
تحليل فكري ودراسة موجزة
نتيجة بحث الصور عن السيسي
تعكس السياسة الخارجية المصرية منذ تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي مقاليد السلطة في البلاد تصوراته وإدراكاته لطبيعة الدور المصري خارجيًّا، في ظل بيئة إقليمية ودولية تموج بالتغييرات العميقة التي تمسّ الوجود القومي لدول المنطقة. وربما شكلت هذه التحديات دوافع مؤثرة نحو تنشيط وتفعيل السياسة الخارجية المصرية، واتسامها بالمرونة اللازمة للتكيف مع معطيات الواقع الذي أضحى سريع التبدل والتغير. وهو الأمر الذي شكل أحد أهم ملامح السياسة المصرية برغم ما تتسم به الفترات الانتقالية التي تعقب الثورات من الانكفاء الذاتي، والميل إلى الكمون النسبي على المستوى الخارجي.
وتأسيسًا على ما سبق، تسعى هذه الورقة إلى تحليل السياسة الخارجية المصرية خلال عام من حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي توجهًا وسلوكًا، فضلا عن ماهية التحديات التي تواجهها.
أولا- توجهات السياسة الخارجية المصرية:
يُقصد بتوجه السياسة الخارجية، رسالة الدولة في المجال الخارجي والتي تعكس تصوراتها ورؤيتها لحدود دورها. سواء كان ذلك من خلال وثائق الدولة الرسمية (مثل: الدستور، أو وثيقة مبادئ السياسة الخارجية إن وجدت)، أو من خلال رؤية القيادة السياسية لهذا الدور، وحدود ارتباطه بالمصلحة الوطنية للدولة. وتتشكل أبرز توجهات السياسة الخارجية المصرية منذ انتخاب الرئيس السيسي في التالي:

1- دعم استقلالية القرار الوطني: شكّل دعم استقلال القرار الوطني وتخليصه من كل مظاهر التبعية عبر صياغة العلاقات الخارجية على أسس من الندية والشراكة والمصالح المتبادلة، أحد أبرز مبادئ السياسة الخارجية المصرية، وهو ما تجسد بوضوحٍ في مقولة الرئيس عبد الفتاح السيسي عندما كان وزيرًا للدفاع، وعقب اندلاع ثورة 30 يونيو، واستجابة الجيش لحركة نداء الجماهير "بأننا لم نستأذن أحدًا". كما عكس تنويع علاقات مصر الخارجية، خاصةً مع القوى الكبرى ومنها الصين وروسيا ودول الاتحاد الأوروبي، دعمًا لهذا التوجه.

2- محاربة الإرهاب: تتجسد الرؤية المصرية التي طرحتها القيادة السياسية في محاربة الإرهاب، على ضرورة التركيز على شمولية المواجهة، بمعنى أن يكون أي تحالف دولي لمكافحة الإرهاب تحالفًا شاملا لا يقتصر على مواجهة تنظيم بعينه، أو القضاء على بؤرة إرهابية بذاتها، ولكن يمتد ليشمل كافة البؤر الإرهابية، سواء في منطقة الشرق الأوسط أو في إفريقيا.

كما تستند مصر في رؤيتها إلى محورية العامل الاقتصادي والتنموي، وضرورة أن يحتل أهمية في استراتيجية مكافحة الإرهاب؛ إذ إن الفقر يمثل بيئة خصبة لنمو الإرهاب والفكر المتطرف، ومن ثم فمن الأهمية بمكان أن يعمل المجتمع الدولي على تحسين الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية لدول المنطقة، فضلا عن تجفيف منابع الدعم المالي، والتحذير من تبعات انخراط المقاتلين الأجانب في بعض دول الصراع بمنطقة الشرق الأوسط، لا سيما سوريا والعراق، ودورهم في تأجيج الصراع من جهة، فضلا عما يمثلونه من خطر حال عودتهم إلى دولهم الأصلية من جهة أخرى.

3- الحفاظ على وحدة وتماسك الدولة العربية: ارتكزت الرؤية المصرية في تحركها إزاء ملفات دول الربيع العربي على الحفاظ على وحدة وتماسك الدولة العربية، لا سيما بعد تزايد أدوار الفاعلين من غير الدول، وتأثيراتهم العابرة للحدود.

ففيما يخص الشأن السوري تسعى مصر للتوصل إلى حل سياسي يضمن بقاء الدولة السورية موحدة، ويؤدي إلى الانتقال الآمن للسلطة، بحيث لا ينتصر فيها طرف بالقوة المسلحة، لا سيما أن نظام بشار الأسد متجذر بقوة داخل بنية الدولة. وهو الأمر الذي شكل عنصر قوة للنظام، في حين شكل هذا التماهي بين النظام والدولة أحد مكامن ضعف الدولة السورية، والذي انعكس بدوره على تعقد الصراع داخل سوريا، وتحوله إلى حروب بالوكالة بين قوى إقليمية ودولية أدت في نهاية المطاف إلى مأساة إنسانية سقط خلالها ما يربو على 150 ألف قتيل، وما يقرب من نصف مليون مصاب، وحوالي 4 ملايين لاجئ ومهاجر سوري في دول الجوار وغيرها.

وعلى المستوى الليبي، تقوم مبادرة دول الجوار التي تبنتها مصر على ثلاثة مبادئ هي: احترام وحدة وسيادة ليبيا وسلامة أراضيها، وعدم التدخل في الشئون الداخلية لليبيا، والحفاظ على استقلالها السياسي، علاوة على الالتزام بالحوار الشامل ونبذ العنف. وتتولى مصر في آلية دول الجوار رئاسة اللجنة السياسية، في حين تتولى الجزائر رئاسة اللجنة الأمنية سعيًا للحفاظ على وحدة الدولة الليبية بعد تنامي النزعات الانفصالية في الأقاليم الثلاثة الكبرى "برقة، وفزان، وطرابلس"، وذلك من خلال تقديم الدعم للمؤسسات الشرعية المنتخبة، ومساعدتها في التعافي لمواجهة الخطط الرامية لتقسيم الدولة، وتحويلها إلى بؤرة إرهابية تستغلها التنظيمات المتطرفة في تهديد الأمن الإقليمي. كما يعكس استضافة القاهرة ملتقى القبائل الليبية في 25 مايو 2015 هذا المسعى الرامي للحفاظ على وحدة وتماسك الدولة الليبية في ظل تجذر البُعد القبلي في الواقع الليبي.

4- رفض تأجيج الخلافات الطائفية والمذهبية بدول الإقليم: على الرغم من وجود اتجاهات خارجية تسعى لاستخدام المتغير المذهبي للتسريع من وتيرة تقسيم وتفتيت وحدات النظام الإقليمي العربي؛ فإن مصرَ تدعو إلى أهمية تدارك هذه الأبعاد الجديدة التي بدأت تطرأ على صراعات المنطقة، والتي تستهدف تأجيج الخلافات الطائفية والمذهبية، وهي الصراعات الناجمة عن تهميش بعض المذاهب أو الطوائف وإقصائها، أو استغلال وتوظيف هذا الصراع في تحقيق التوازن الإقليمي الذي يضمن مصالح الدول الكبرى من خلال طرح فكرة المحورين السني والشيعي.

5- الدعوة إلى إخلاء منطقة الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل: شكلت دعوةُ مصر لإخلاء منطقة الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل أحدَ ملامح توجهاتها الخارجية، وتقوم الرؤية المصرية في هذا الصدد على ضرورة إخضاع كافة المنشآت النووية الموجودة بالمنطقة للتفتيش الدولي، وفي مقدمتها البرنامجان النوويان الإسرائيلي والإيراني. وتستهدف مصر من هذا التوجه أمرين: الأول منع سباق التسلح بالمنطقة، والذي يشكل اندلاعه تهديدًا لتوازنات الأمن الإقليمي.
أما الأمر الثاني -وربما الأهم- فيرتبط بتوجيه الإنفاق إلى المشروعات التنموية التي تحتاجها دول المنطقة التي تُعاني من تراجع معدلات التنمية، وانتشار البطالة بين صفوف الشباب، وتراجع جودة الخدمات العامة من صحة وتعليم وإسكان.

ثانيًا– سلوك السياسة الخارجية المصرية:
يُقصد بسلوك الدولة في المجال الخارجي ترجمة توجهات السياسة الخارجية إلى أفعال، وهو ما يُجسده تفاعل السياسة الخارجية المصرية خلال عام من حكم الرئيس السيسي داخل المستويات التالية:

1- البعد الدولي: تُمثل القاعدة الرئيسية لتفاعلات مصر مع البعد الدولي: "إذا لم تهتم مصر بالخارج، فإن الخارج سيهتم بها"، وهي المقولة التي ربما تفسر اهتمام القوى الكبرى بتفاعلات الداخل المصري وارتباطاته الخارجية، كما أنها تعكس محورية مصر، وأهميتها كركيزة لاستقرار منطقة الشرق الأوسط.

على خلفية هذا الإدراك فإن علاقات مصر مع القوى الكبرى شهدت تبدلا وتغيرًا في المواقف، لا سيما بعد ثورة 30 يونيو؛ حيث تعاملت الولايات المتحدة الأمريكية مع الثورة بنوعٍ من الفتور في بداية الأمر انعكس على مواقفها التي تجسدت في قرار الإدارة الأمريكية بوقف المساعدات العسكرية لمصر، وتعليق مناورات النجم الساطع التي كانت تجري بين البلدين، والتلكؤ في تعيين سفير لها بالقاهرة. ومع تولي الرئيس السيسي مقاليد السلطة، انتهج إزاء الولايات المتحدة الأمريكية سياسة رشيدة قامت على الموازنة بين استقلالية القرار الداخلي، واحترام إرادة الشعب المصري، والحفاظ على مصالح مصر الحيوية، فضلا عن تنويع روابط مصر مع القوى الكبرى الصاعدة في النظام الدولي، سواء مع الصين أو روسيا، وهو ما دفع بعض الاتجاهات إلى تأكيد أن توجه مصر شرقًا يمثل تحولا في سياستها الخارجية، لا سيما بعد توقيع شراكة استراتيجية مع هاتين الدولتين، كل على حدة.

غير أن إدراك الولايات المتحدة وتفهمها لما حدث في مصر بعد 30 يونيو، وخشيتها من تفكك العلاقات الاستراتيجية مع القاهرة؛ جعلها تستجيب لأصوات المؤيدين داخل الكونجرس الأمريكي للحفاظ على علاقات التحالف الاستراتيجي مع القاهرة، وهو ما تبدى في إدلاء جون كيري وزير الخارجية في 22 أبريل 2014 بشهادته أمام الكونجرس الأمريكي بخصوص الشأن المصري، وذكر فيها أن مصر تُحافظ على العلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة في ملفات مهمة، مثل: مواجهة التهديدات المشتركة كالإرهاب، وانتشار أسلحة الدمار الشامل، كما أشار لالتزام مصر بمعاهدة السلام مع إسرائيل. وهو ما سمح للبيت الأبيض برفع الحظر عن إرسال عشر طائرات هيليكوبتر من طراز أباتشي إلى مصر. وهو الأمر الذي أدى إلى انفراج العلاقات المصرية الأمريكية التي تُوجت بلقاء الرئيس عبد الفتاح السيسي الرئيس باراك أوباما على خلفية المشاركة في الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2014.

وبرغم حدوث هذا الانفراج، فإن ثمة قضايا لا تزال عالقة بين الجانبين، مثل: الموقف الأمريكي من جماعة الإخوان المسلمين، والرؤية الأمريكية لمواجهة التنظيمات الإرهابية وقصرها على تنظيمي داعش والقاعدة والتي تختلف عن شمولية الرؤية المصرية، والموقف من البرنامج النووي الإيراني، وتأثير اتفاق لوزان على أمن الخليج العربي. ولا شك أنها متغيرات تمثل تحديات أمام التفاهمات المصرية الأمريكية.

2- البُعد العربي: مَثَّلَ البُعدُ العربي الأولوية الأولى في سياسة الرئيس السيسي الخارجية، لا سيما وأن مقولته "مسافة السكة" شكلت طرحًا واضحًا لمحورية التوجه العربي في سياسة مصر الخارجية باعتبار أن الأمن القومي العربي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالأمن القومي المصري. وقد تجسدت ترجمة هذا التوجه في أوجه متعددة من سلوك مصر الخارجي، يتمثل أولها في دعوة مصر لتشكيل قوات عربية مشتركة لمواجهة التهديدات المضاعفة المرتبطة بتنامي التيارات الإرهابية والتكفيرية التي تستهدف تفتيت دول النظام الإقليمي العربي على أسس عرقية ومذهبية ومناطقية، وهو المقترح الذي تبنته القمة العربية التي عُقدت بالقاهرة في أواخر مارس 2015، وجاء ضمن مقرراتها.

ويبدو أن القيمة المُضافة لهذا المقترح المصري أنه عربي التخطيط والتفكير، والتمويل والتنفيذ، بل والقيادة أيضًا. وتنفيذًا لهذه الرؤية عقد رؤساء أركان الجيوش العربية بجامعة الدول العربية لقاءين للبحث في مجالات عمل هذه القوات، وأماكن تمركزها، وكيفية تشكيلها، والمهام المنوطة بها. وثانيها تنفيذ مصر لعدد من التدريبات العسكرية مع دول الخليج (ومنها: السعودية، والإمارات، والبحرين) على أساس أن أمن الخليج العربي هو امتداد للأمن القومي المصري، فضلا عن مشاركة مصر في "عاصفة الحزم" بقيادة المملكة العربية السعودية لاستعادة الشرعية اليمنية بعدما انقلب الحوثيون على نظام الرئيس عبد ربه منصور هادي، مع تأكيد مصر أهمية الحوار السياسي بين الفرقاء في اليمن. أما السلوك الثالث وربما الأهم فهو توجيه ضربة جوية ضد معسكرات ومناطق تمركز وتدريب ومخازن أسلحة وذخائر تنظيم داعش الإرهابي بالأراضي الليبية، على خلفية ذبح 20 مصريًّا على يد أعضاء التنظيم.

وبالرغم من تحفظ الولايات المتحدة الأمريكية على هذه الخطوة، وفق تصريحات المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية والمتحدث باسم البنتاجون في مؤتمريهما الصحفي اليومي في (17 فبراير 2015)، والإشارة إلى أن مصر قامت بالعملية العسكرية بدون تنسيق مع الجانب الأمريكي - فإن هذا التحرك عكس استمرارية الاستقلالية في اتخاذ القرار والتحرك لحماية المصالح الوطنية المصرية.

3- البعد الإفريقي: شكل البعد الإفريقي أهمية قصوى لصانع القرار المصري، خاصة أن هذه الدائرة ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالأمن المائي المصري الذي مثَّل شروع إثيوبيا في بناء سد النهضة أحد مصادر تهديده، لا سيما وأن نهر النيل يعد المصدر الرئيسي للمياه في مصر.
وإدراكًا لهذه الحقيقة، بدأ التحرك المصري إزاء إفريقيا يأخذ مسارين متكاملين؛ الأول "مؤسسي" وهو إنشاء الوكالة المصرية للشراكة من أجل التنمية؛ حيث تم دمج كل من الصندوق المصري للتعاون الفني مع إفريقيا، والصندوق المصري للتعاون مع دول الكومنولث في كيان واحد.

أما المسار الثاني فهو محاولة التركيز على المصالح والمنافع المتبادلة مع دول حوض نهر النيل، وتحويل المجرى المائي من مصدر للصراع إلى أداة للتعاون المائي عبر الإدارة المشتركة لمياه نهر النيل. وقد تجسد هذا التحول في إعلان مبادئ سد النهضة الذي وقّعته مصر والسودان وإثيوبيا بالخرطوم الذي أقر مجموعة من المبادئ العامة تضمن لمصر حقوقها المائية، ولإثيوبيا حقوقها التنموية.

ثالثًا- التحديات التي تُواجه السياسة الخارجية المصرية:
برغم ما اتسمت به السياسة الخارجية من مرونة، ونجاحها في تحويل التهديد إلى فرصة، فإن ثمة تنوعًا في التحديات التي يُمكن إبراز أهمها في التالي:

1- تحدي النموذج المصري: ترتبط ريادية النموذج المصري بعلاقة طردية مع قوة مصر الناعمة، سواء ما يرتبط منها بالتعليم أو الفن أو الثقافة، أو أدوار المؤسسات الدينية مثل الأزهر والكنيسة المصرية. وإذا كانت مصرُ قد نجحت في صياغة دورها الإقليمي في فترات سابقة عبر أدواتها النافذة من قوتها الناعمة، فإن إخفاق وتراجع دور هذه الأدوات في الفترة الحالية يمثل أحد أبرز التحديات التي تُواجه السياسة الخارجية المصرية.

فعلى سبيل المثال، ظل الأزهر الشريف منارة للعلم يستقي منه الدارسون قيم الإسلام السمحة والمعتدلة، كما شكل موفدوه إلى دول العالم المختلفة سفراء للإسلام وقيمه الصحيحة التي تدعو إلى التسامح والتعايش السلمي واحترام الآخر، غير أن تراجع هذا الدور جاء نتاج غياب التطوير المستمر، سواء بتوقف مسيرة الاجتهاد الفقهي الذي شكل الإمام محمد عبده آخر نماذجه، أو للخل في المناهج التي تُدرّس، وعدم لحاقها بتطورات العصر، وهو الأمرُ الذي أعطى للتيارات المتطرفة فرصةً في ظل هذا الغياب بأن تختطف الإسلام لصالح أيديولوجيات تكفيرية وصفت بخوارج العصر في القرن الحادي والعشرين.

ويبدو أن ما أصاب الأزهر من تراجع لا يختلف عن الأزمات التي تُعاني منها قطاعات الفن، والثقافة، والتعليم، كأدوات ناعمة تحتاج إلى إعادة بعثها من جديد لدعم ريادية النموذج المصري في دوائره الحيوية.

2- التحدي التنموي: تمثل السياسة الخارجية امتدادًا للسياسة العامة للدولة، لذا فإن نجاح الدولة في تحقيق أهدافها الخارجية يرتبط في أحد جوانبه بمدى القدرة على خدمة أغراض التنمية الداخلية، وهو ما يُعرف "بدبلوماسية التنمية". وهنا تبرز قضية المساعدات الاقتصادية التي وعدت بتقديمها الدول والمنظمات الدولية والمستثمرون خلال مؤتمر مصر الاقتصادي الذي عُقد بشرم الشيخ في مارس 2015، والتي ستظل دومًا رهن الاعتبارات السياسية، واستمرار تحسن العلاقات، ووجود مصالح ومنافع متبادلة.

ومن ثم فإن دعم الرأسمالية الوطنية واستنفار الطاقات الكامنة داخل الاقتصاد المصري يظل المحدد الأهم لتحقيق التنمية المستدامة. صحيح أن المساعدات الدولية والمنح ساعدت دولا في تجاوز ظروف مرحلية، غير أن الاعتماد على الذات يظل هو المسار المؤثر في تحقيق التنمية المستدامة بأبعادها ومستوياتها المختلفة.

3- تحدي التنافس الإقليمي: تتبنى كلٌّ من تركيا وإيران مشاريع جيواستراتيجية تسعى كل منهما لجعلها أداة لتقسيم المنطقة على أسس مذهبية قوامها التنافس بين قوى الإسلام السني وقوى الإسلام الشيعي للتحكم في تفاعلات الإقليم، لا سيما أن التطرف والإرهاب الذي تم توظيفه من جانب الدولتين لتفتيت دول المنطقة هدف بالأساس إلى سهولة اختراقها، وإحكام السيطرة على مقدراتها، وتنفيذ أجنداتهما. وهو ما تجلى بشكل واضح في وجود ميليشيات إيرانية تحارب في سوريا ولبنان واليمن والعراق، فضلا عن تعاملات اقتصادية لتركيا مع تنظيم داعش الذي يقوم بتصدير النفط العراقي والسوري إلى المصافي التركية، والتي تقوم بدورها بتصديره للخارج بأسعار عالمية. وتتعارض هذه المشاريع بشكل جذري مع رؤية مصر لمستقبل المنطقة التي ترتكز بالأساس على حماية دولها من التشرذم والتفتيت، والحيلولة دون "مَذْهَبَة" الصراعات المتفجرة.

وإجمالا.. يُمكن القول إن الركائز الثلاث للسياسة الخارجية المصرية (وهي: عربية، إفريقية، مصرية) هي القاعدة التي حكمت توجهات الرئيس السيسي الخارجية في ظل تعاظم التحديات الخارجية، وتنوع مصادرها. وتبقى النتائج الملموسة لهذه السياسات على أرض الواقع رهنًا باعتبارات القدرة المصرية على تسوية صراعات المنطقة العربية التي تفجرت بعد اندلاع الربيع العربي، ومدى نجاحها في موازنة الضغوط الإقليمية والدولية على دول المنطقة، ووقف مشروعات التفتيت لصالح تيار الوحدة والاستقرار بما يقوض أفكار دعاة الفوضى لإطالة أمد الصراعات لخلق واقع جديد يخدم أهدافًا خارجية وأجندات دولية مأزومة. وهو الأمر الذي يتطلب الإسراع بتدشين القوات العربية المشتركة كآلية عربية خالصة لمواجهة كل هذه الضغوط والتحديات.

Ads Inside Post