د/أيمن نور
قبل أن يموت دعانى لمنزله فى حدائق القبة.
أخرج الرجل الذى تجاوز التسعين عاماً من غرفة نومه عدة صناديق من الكارتون، وقال لى ليس لدى أبناء، ولا زوجة، لذا قررت أن أتبرع بكتبى للكنيسة، أما ثروتى الحقيقية فهى لك!!
حملت الصناديق فى سيارتى، والفضول يقتلنى لأعرف ما بداخلها بين ركام من التراب والصحف القديمة جداً، والتى يحمل بعضها إشارات بقلم سعد زغلول -دوائر وتعليقات وعلامات استفهام وتعجب- على هامش مقالات لطه حسين وهيكل باشا، وجريدة «السياسة الأسبوعية» وغيرها.
بين هذه الصحف التى مر على صدورها وعثورى عليها ثلاثة أرباع قرن وجدت رسائل خطية موجهة لصفية هانم أو «خانم» كما كان يكتب سعد زغلول.
لأول وهلة تصورت أنى عثرت على كنز وثروة تاريخية أهداها لى هذا الشيخ القبطى الذى عمل لسنوات -ومنذ طفولته- فى بيت الأمة وحتى وفاة صفية زغلول!!
للأسف كانت معظم الرسائل على عكس ما تمنيت، أو توقعت، فبعضها بلا تاريخ، وأحياناً بلا توقيع، وأغلبها بلا مضمون!!
الرسائل شف مضمونها أن سعد زغلول أرسلها من سجنه أو منفاه، حيث إن مضمونها شبه متكرر وبالنص!! مع تغيير فى ترتيب السطور!! وملخصها جميعاً أن سعد يطلب من زوجته أن تستعجل إرسال النقود أو ينتقد تأخرها فى إرسالها، ويطلب منها إرسال فانلات وجوارب ثقيلة لمواجهة البرد!! أو يسأل لماذا لم يتم إرسال الكوفية والكلسون الصوف؟!
عندما لم أجد غير هذا، فى الخطابات، ضحكت، وقلت لنفسى لو يعرف سعد باشا، أن هذه الخطابات ستصل يوماً لمثلى لتحمل البرد، وتأخر الفلوس وما خط سطراً واحداً منها ؟!
مات عم «نسيم» ومر على هذه الحكاية قرابة 20 عاماً حتى تذكرتها مؤخراً وأنا أقرأ بعضاً من رسائلى لزوجتى أيام سجنى، فقررت أن أتخلص منها بتمزيقها نظراً لضيق مساحة الذاكرة والتى لا تسمح بالاحتفاظ بأشياء لا يريد غيرى الاحتفاظ بها بمناسبة مرور عام على الانفصال الرسمى.
قبل أن أتخلص من هذه الرسائل طالعتها سريعاً، فإذا بى أكتشف فجأة أنها تكاد تكون بالنص ذات الرسائل التى أخذت على سعد زغلول أنه انشغل بتحريرها، رغم تفاهة مضمونها وفقاً لتقديرى منذ 20 عاماً..
لم أكن أعرف منذ 20 عاماً أن المسجون أو المُبعد، أو المحروم من أهله، إنسان يأكل ويشرب ويبرد ويمرض!!
بعض الأمور التى قد تبدو فى عيون الناس تافهة وثانوية.. عرفت بعد دخولى السجن أنها تتحول إلى أولوية قصوى فى حياة الإنسان مهما كان شأنه وقدره وفهمه، وتتحول بعد السجن لأولويات أكثر قسوة إذا لم تجد من تنتظرها منه!!
الحياة فى السجن تضيق، وتضيق، حتى تصبح هذه الأمور الصغيرة مطالب «تاريخية»!! والحياة بعد السجن تتسع، فتضيق أنت.
وربما تخجل من بعض مطالبك «التاريخية»، والأكثر إثارة للألم والضيق من خطابات السجن «الممزقة» ألا تجد أصلاً من توجه له مثل هذه الخطابات!!
تويت:-
ذاكرتى عمل تركيبى بانورامى، كالبناء السيمفونى مكون من ملايين الأشياء، ابتداء من مكاتيب السجن والحب ورائحة الكتب، والأوراق القديمة إلى مصحف أمى، وإلى الزمن المحفور على جبين أبى.. والجرح الساكن فى جبين ابنى..
قبل أن يموت دعانى لمنزله فى حدائق القبة.
أخرج الرجل الذى تجاوز التسعين عاماً من غرفة نومه عدة صناديق من الكارتون، وقال لى ليس لدى أبناء، ولا زوجة، لذا قررت أن أتبرع بكتبى للكنيسة، أما ثروتى الحقيقية فهى لك!!
حملت الصناديق فى سيارتى، والفضول يقتلنى لأعرف ما بداخلها بين ركام من التراب والصحف القديمة جداً، والتى يحمل بعضها إشارات بقلم سعد زغلول -دوائر وتعليقات وعلامات استفهام وتعجب- على هامش مقالات لطه حسين وهيكل باشا، وجريدة «السياسة الأسبوعية» وغيرها.
بين هذه الصحف التى مر على صدورها وعثورى عليها ثلاثة أرباع قرن وجدت رسائل خطية موجهة لصفية هانم أو «خانم» كما كان يكتب سعد زغلول.
لأول وهلة تصورت أنى عثرت على كنز وثروة تاريخية أهداها لى هذا الشيخ القبطى الذى عمل لسنوات -ومنذ طفولته- فى بيت الأمة وحتى وفاة صفية زغلول!!
للأسف كانت معظم الرسائل على عكس ما تمنيت، أو توقعت، فبعضها بلا تاريخ، وأحياناً بلا توقيع، وأغلبها بلا مضمون!!
الرسائل شف مضمونها أن سعد زغلول أرسلها من سجنه أو منفاه، حيث إن مضمونها شبه متكرر وبالنص!! مع تغيير فى ترتيب السطور!! وملخصها جميعاً أن سعد يطلب من زوجته أن تستعجل إرسال النقود أو ينتقد تأخرها فى إرسالها، ويطلب منها إرسال فانلات وجوارب ثقيلة لمواجهة البرد!! أو يسأل لماذا لم يتم إرسال الكوفية والكلسون الصوف؟!
عندما لم أجد غير هذا، فى الخطابات، ضحكت، وقلت لنفسى لو يعرف سعد باشا، أن هذه الخطابات ستصل يوماً لمثلى لتحمل البرد، وتأخر الفلوس وما خط سطراً واحداً منها ؟!
مات عم «نسيم» ومر على هذه الحكاية قرابة 20 عاماً حتى تذكرتها مؤخراً وأنا أقرأ بعضاً من رسائلى لزوجتى أيام سجنى، فقررت أن أتخلص منها بتمزيقها نظراً لضيق مساحة الذاكرة والتى لا تسمح بالاحتفاظ بأشياء لا يريد غيرى الاحتفاظ بها بمناسبة مرور عام على الانفصال الرسمى.
قبل أن أتخلص من هذه الرسائل طالعتها سريعاً، فإذا بى أكتشف فجأة أنها تكاد تكون بالنص ذات الرسائل التى أخذت على سعد زغلول أنه انشغل بتحريرها، رغم تفاهة مضمونها وفقاً لتقديرى منذ 20 عاماً..
لم أكن أعرف منذ 20 عاماً أن المسجون أو المُبعد، أو المحروم من أهله، إنسان يأكل ويشرب ويبرد ويمرض!!
بعض الأمور التى قد تبدو فى عيون الناس تافهة وثانوية.. عرفت بعد دخولى السجن أنها تتحول إلى أولوية قصوى فى حياة الإنسان مهما كان شأنه وقدره وفهمه، وتتحول بعد السجن لأولويات أكثر قسوة إذا لم تجد من تنتظرها منه!!
الحياة فى السجن تضيق، وتضيق، حتى تصبح هذه الأمور الصغيرة مطالب «تاريخية»!! والحياة بعد السجن تتسع، فتضيق أنت.
وربما تخجل من بعض مطالبك «التاريخية»، والأكثر إثارة للألم والضيق من خطابات السجن «الممزقة» ألا تجد أصلاً من توجه له مثل هذه الخطابات!!
تويت:-
ذاكرتى عمل تركيبى بانورامى، كالبناء السيمفونى مكون من ملايين الأشياء، ابتداء من مكاتيب السجن والحب ورائحة الكتب، والأوراق القديمة إلى مصحف أمى، وإلى الزمن المحفور على جبين أبى.. والجرح الساكن فى جبين ابنى..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق