مالكك الحزين تنازل اليوم عن عرشه القلق، وانضم إلى الأبدية الرحيبة الواسعة، وطافت روحه على ضفاف النيل، عصفورًا صغيرًا يعشق الحياة كان، سمحا مرحا مضيافا خجولا كان، ترك سماحته فى قلوبنا بعد أن وسدها بالمحبة والشقاوة والمعرفة والحنين، مات الذى أبى أن يصافح مبارك، ورفض الجلوس بين يديه حينما هرول آخرون، وتهرب من مقابلته قبل عام كطفل يفر من حقنة مسمومة.
له الآن أن يقابل ربه بقلب من رحمة، وروح من قطيفة، وله الآن أن يلقى على بلده نظرة أخيرة، وأن تنعاه حبيبته الأبدية الطاهرة، ولك يا مصر أن تحزنى فقد مات من هتف بحبك وقال "كفاية" غير عابئ بسياط الديكتاتور ولا زبانيته، فاذكرى له أنه لم يخيب ظنك فيه، واذكريه بكل خير يستحقه، فقد مات من جعل تاريخك جزءًا منه، وجعل نفسه حجرًا فيك، هو رأى وسمع وحدث وحكى، فصار حكايتنا وأنيسنا وصديقنا ورائدنا ومغنينا وحامينا، وصار شاهدنا وشهيدنا.
اشهدى يا شوارع مصر على حبه لك، وقولى له قولا حسنًا حينما يمر عليك مودعًا، فهو الذى انتشلك من العشوائية والفوضى والضوضاء والزحام وجعل منك أيقونة غالية يتمنى أن يمشى عليها الواحد بقلبه لا بقديمه، اشهدى يا كيت كات، ويا إمبابة ويا رمسيس أن عامل التلغراف القديم بعث برسالته الأخيرة إلى قلوبنا فأصابها النزيف، وعلتها سحب الدمع، وأحاطت بها الحسرة.
يا عم إبراهيم، موتك يوجعنا، وشوارعك توجعنا، ونظرة عينك الصغيرة العميقة الحالمة توجعنا، أنت لا تعرف يا عم إبراهيم كم أخذت من قلوبنا، وكم سكنت فيها، أنت لا تعرف يا صاحب البسمة البحر، والبسمة النهر والبسمة السماء كم كنا نخجل من شيخوختنا حينما نرى شبابك، وكم كنا نعاير أرواحنا ونخجلها حينما نقارن بينها وروحك، ومن المؤكد أنك لا تعرف أنك حينما تعجزت على فى يناير الماضى، ونحن ذاهبان إلى الميدان مارين بشارع قصر النيل، تعجزت أنا عليك، ومنك كنا نشحذ أرواحنا ونحفزها، ونقول لها انظرى إلى عاشق مصر ومنه تعلمى، وانظرى كيف يمشى فى الأرض حبا وتواضعا وهو الذى تغار منه السحاب.
يا سماء استعدى لاستقبال روحه الطيبة، فالأرض لم تعامله كما ينبغى، هو عاش مخلصا لها متفانيا فى أزقتها وحواريها، ولما اطمأنت له حسبته منها ولم تعرف مصابها إلا حينما فوجئت بحجر ينقض من جدارها، ويا عم إبراهيم، فى القلب غصة، وفى العين دمعة، والوجدان حسرة، وحسبنا أنا رأيناك وحدثناك، وحسبك أنك تسكن فى مكاتبنا، وتحتل منا الرأس والعين واللسان العطر بمحبتك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق