وسط تصارع الأحداث وضجيج الأخبار وقعقعة مجانيق المفاجآت في كثير من الأحيان نحتاج لرؤية وتحليل عميق يرشدنا إلى الصواب ويأخذ بأيدينا إلى الضوء الساطع في نهاية النفق بشيء من العمق ونحن في منتصف عام 2015 عام الحقيقة نتحدث مجدداً لنخرج ما في جعبتنا من رؤى عميقة
تحليل فكري ودراسة موجزة
تعكس السياسة الخارجية المصرية منذ تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي مقاليد السلطة في البلاد تصوراته وإدراكاته لطبيعة الدور المصري خارجيًّا، في ظل بيئة إقليمية ودولية تموج بالتغييرات العميقة التي تمسّ الوجود القومي لدول المنطقة. وربما شكلت هذه التحديات دوافع مؤثرة نحو تنشيط وتفعيل السياسة الخارجية المصرية، واتسامها بالمرونة اللازمة للتكيف مع معطيات الواقع الذي أضحى سريع التبدل والتغير. وهو الأمر الذي شكل أحد أهم ملامح السياسة المصرية برغم ما تتسم به الفترات الانتقالية التي تعقب الثورات من الانكفاء الذاتي، والميل إلى الكمون النسبي على المستوى الخارجي.
وتأسيسًا على ما سبق، تسعى هذه الورقة إلى تحليل السياسة الخارجية المصرية خلال عام من حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي توجهًا وسلوكًا، فضلا عن ماهية التحديات التي تواجهها.
أولا- توجهات السياسة الخارجية المصرية:
يُقصد بتوجه السياسة الخارجية، رسالة الدولة في المجال الخارجي والتي تعكس تصوراتها ورؤيتها لحدود دورها. سواء كان ذلك من خلال وثائق الدولة الرسمية (مثل: الدستور، أو وثيقة مبادئ السياسة الخارجية إن وجدت)، أو من خلال رؤية القيادة السياسية لهذا الدور، وحدود ارتباطه بالمصلحة الوطنية للدولة. وتتشكل أبرز توجهات السياسة الخارجية المصرية منذ انتخاب الرئيس السيسي في التالي:
1- دعم استقلالية القرار الوطني: شكّل دعم استقلال القرار الوطني وتخليصه من كل مظاهر التبعية عبر صياغة العلاقات الخارجية على أسس من الندية والشراكة والمصالح المتبادلة، أحد أبرز مبادئ السياسة الخارجية المصرية، وهو ما تجسد بوضوحٍ في مقولة الرئيس عبد الفتاح السيسي عندما كان وزيرًا للدفاع، وعقب اندلاع ثورة 30 يونيو، واستجابة الجيش لحركة نداء الجماهير "بأننا لم نستأذن أحدًا". كما عكس تنويع علاقات مصر الخارجية، خاصةً مع القوى الكبرى ومنها الصين وروسيا ودول الاتحاد الأوروبي، دعمًا لهذا التوجه.
2- محاربة الإرهاب: تتجسد الرؤية المصرية التي طرحتها القيادة السياسية في محاربة الإرهاب، على ضرورة التركيز على شمولية المواجهة، بمعنى أن يكون أي تحالف دولي لمكافحة الإرهاب تحالفًا شاملا لا يقتصر على مواجهة تنظيم بعينه، أو القضاء على بؤرة إرهابية بذاتها، ولكن يمتد ليشمل كافة البؤر الإرهابية، سواء في منطقة الشرق الأوسط أو في إفريقيا.
كما تستند مصر في رؤيتها إلى محورية العامل الاقتصادي والتنموي، وضرورة أن يحتل أهمية في استراتيجية مكافحة الإرهاب؛ إذ إن الفقر يمثل بيئة خصبة لنمو الإرهاب والفكر المتطرف، ومن ثم فمن الأهمية بمكان أن يعمل المجتمع الدولي على تحسين الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية لدول المنطقة، فضلا عن تجفيف منابع الدعم المالي، والتحذير من تبعات انخراط المقاتلين الأجانب في بعض دول الصراع بمنطقة الشرق الأوسط، لا سيما سوريا والعراق، ودورهم في تأجيج الصراع من جهة، فضلا عما يمثلونه من خطر حال عودتهم إلى دولهم الأصلية من جهة أخرى.
3- الحفاظ على وحدة وتماسك الدولة العربية: ارتكزت الرؤية المصرية في تحركها إزاء ملفات دول الربيع العربي على الحفاظ على وحدة وتماسك الدولة العربية، لا سيما بعد تزايد أدوار الفاعلين من غير الدول، وتأثيراتهم العابرة للحدود.
ففيما يخص الشأن السوري تسعى مصر للتوصل إلى حل سياسي يضمن بقاء الدولة السورية موحدة، ويؤدي إلى الانتقال الآمن للسلطة، بحيث لا ينتصر فيها طرف بالقوة المسلحة، لا سيما أن نظام بشار الأسد متجذر بقوة داخل بنية الدولة. وهو الأمر الذي شكل عنصر قوة للنظام، في حين شكل هذا التماهي بين النظام والدولة أحد مكامن ضعف الدولة السورية، والذي انعكس بدوره على تعقد الصراع داخل سوريا، وتحوله إلى حروب بالوكالة بين قوى إقليمية ودولية أدت في نهاية المطاف إلى مأساة إنسانية سقط خلالها ما يربو على 150 ألف قتيل، وما يقرب من نصف مليون مصاب، وحوالي 4 ملايين لاجئ ومهاجر سوري في دول الجوار وغيرها.
وعلى المستوى الليبي، تقوم مبادرة دول الجوار التي تبنتها مصر على ثلاثة مبادئ هي: احترام وحدة وسيادة ليبيا وسلامة أراضيها، وعدم التدخل في الشئون الداخلية لليبيا، والحفاظ على استقلالها السياسي، علاوة على الالتزام بالحوار الشامل ونبذ العنف. وتتولى مصر في آلية دول الجوار رئاسة اللجنة السياسية، في حين تتولى الجزائر رئاسة اللجنة الأمنية سعيًا للحفاظ على وحدة الدولة الليبية بعد تنامي النزعات الانفصالية في الأقاليم الثلاثة الكبرى "برقة، وفزان، وطرابلس"، وذلك من خلال تقديم الدعم للمؤسسات الشرعية المنتخبة، ومساعدتها في التعافي لمواجهة الخطط الرامية لتقسيم الدولة، وتحويلها إلى بؤرة إرهابية تستغلها التنظيمات المتطرفة في تهديد الأمن الإقليمي. كما يعكس استضافة القاهرة ملتقى القبائل الليبية في 25 مايو 2015 هذا المسعى الرامي للحفاظ على وحدة وتماسك الدولة الليبية في ظل تجذر البُعد القبلي في الواقع الليبي.
4- رفض تأجيج الخلافات الطائفية والمذهبية بدول الإقليم: على الرغم من وجود اتجاهات خارجية تسعى لاستخدام المتغير المذهبي للتسريع من وتيرة تقسيم وتفتيت وحدات النظام الإقليمي العربي؛ فإن مصرَ تدعو إلى أهمية تدارك هذه الأبعاد الجديدة التي بدأت تطرأ على صراعات المنطقة، والتي تستهدف تأجيج الخلافات الطائفية والمذهبية، وهي الصراعات الناجمة عن تهميش بعض المذاهب أو الطوائف وإقصائها، أو استغلال وتوظيف هذا الصراع في تحقيق التوازن الإقليمي الذي يضمن مصالح الدول الكبرى من خلال طرح فكرة المحورين السني والشيعي.
5- الدعوة إلى إخلاء منطقة الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل: شكلت دعوةُ مصر لإخلاء منطقة الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل أحدَ ملامح توجهاتها الخارجية، وتقوم الرؤية المصرية في هذا الصدد على ضرورة إخضاع كافة المنشآت النووية الموجودة بالمنطقة للتفتيش الدولي، وفي مقدمتها البرنامجان النوويان الإسرائيلي والإيراني. وتستهدف مصر من هذا التوجه أمرين: الأول منع سباق التسلح بالمنطقة، والذي يشكل اندلاعه تهديدًا لتوازنات الأمن الإقليمي.
أولا- توجهات السياسة الخارجية المصرية:
يُقصد بتوجه السياسة الخارجية، رسالة الدولة في المجال الخارجي والتي تعكس تصوراتها ورؤيتها لحدود دورها. سواء كان ذلك من خلال وثائق الدولة الرسمية (مثل: الدستور، أو وثيقة مبادئ السياسة الخارجية إن وجدت)، أو من خلال رؤية القيادة السياسية لهذا الدور، وحدود ارتباطه بالمصلحة الوطنية للدولة. وتتشكل أبرز توجهات السياسة الخارجية المصرية منذ انتخاب الرئيس السيسي في التالي:
1- دعم استقلالية القرار الوطني: شكّل دعم استقلال القرار الوطني وتخليصه من كل مظاهر التبعية عبر صياغة العلاقات الخارجية على أسس من الندية والشراكة والمصالح المتبادلة، أحد أبرز مبادئ السياسة الخارجية المصرية، وهو ما تجسد بوضوحٍ في مقولة الرئيس عبد الفتاح السيسي عندما كان وزيرًا للدفاع، وعقب اندلاع ثورة 30 يونيو، واستجابة الجيش لحركة نداء الجماهير "بأننا لم نستأذن أحدًا". كما عكس تنويع علاقات مصر الخارجية، خاصةً مع القوى الكبرى ومنها الصين وروسيا ودول الاتحاد الأوروبي، دعمًا لهذا التوجه.
2- محاربة الإرهاب: تتجسد الرؤية المصرية التي طرحتها القيادة السياسية في محاربة الإرهاب، على ضرورة التركيز على شمولية المواجهة، بمعنى أن يكون أي تحالف دولي لمكافحة الإرهاب تحالفًا شاملا لا يقتصر على مواجهة تنظيم بعينه، أو القضاء على بؤرة إرهابية بذاتها، ولكن يمتد ليشمل كافة البؤر الإرهابية، سواء في منطقة الشرق الأوسط أو في إفريقيا.
كما تستند مصر في رؤيتها إلى محورية العامل الاقتصادي والتنموي، وضرورة أن يحتل أهمية في استراتيجية مكافحة الإرهاب؛ إذ إن الفقر يمثل بيئة خصبة لنمو الإرهاب والفكر المتطرف، ومن ثم فمن الأهمية بمكان أن يعمل المجتمع الدولي على تحسين الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية لدول المنطقة، فضلا عن تجفيف منابع الدعم المالي، والتحذير من تبعات انخراط المقاتلين الأجانب في بعض دول الصراع بمنطقة الشرق الأوسط، لا سيما سوريا والعراق، ودورهم في تأجيج الصراع من جهة، فضلا عما يمثلونه من خطر حال عودتهم إلى دولهم الأصلية من جهة أخرى.
3- الحفاظ على وحدة وتماسك الدولة العربية: ارتكزت الرؤية المصرية في تحركها إزاء ملفات دول الربيع العربي على الحفاظ على وحدة وتماسك الدولة العربية، لا سيما بعد تزايد أدوار الفاعلين من غير الدول، وتأثيراتهم العابرة للحدود.
ففيما يخص الشأن السوري تسعى مصر للتوصل إلى حل سياسي يضمن بقاء الدولة السورية موحدة، ويؤدي إلى الانتقال الآمن للسلطة، بحيث لا ينتصر فيها طرف بالقوة المسلحة، لا سيما أن نظام بشار الأسد متجذر بقوة داخل بنية الدولة. وهو الأمر الذي شكل عنصر قوة للنظام، في حين شكل هذا التماهي بين النظام والدولة أحد مكامن ضعف الدولة السورية، والذي انعكس بدوره على تعقد الصراع داخل سوريا، وتحوله إلى حروب بالوكالة بين قوى إقليمية ودولية أدت في نهاية المطاف إلى مأساة إنسانية سقط خلالها ما يربو على 150 ألف قتيل، وما يقرب من نصف مليون مصاب، وحوالي 4 ملايين لاجئ ومهاجر سوري في دول الجوار وغيرها.
وعلى المستوى الليبي، تقوم مبادرة دول الجوار التي تبنتها مصر على ثلاثة مبادئ هي: احترام وحدة وسيادة ليبيا وسلامة أراضيها، وعدم التدخل في الشئون الداخلية لليبيا، والحفاظ على استقلالها السياسي، علاوة على الالتزام بالحوار الشامل ونبذ العنف. وتتولى مصر في آلية دول الجوار رئاسة اللجنة السياسية، في حين تتولى الجزائر رئاسة اللجنة الأمنية سعيًا للحفاظ على وحدة الدولة الليبية بعد تنامي النزعات الانفصالية في الأقاليم الثلاثة الكبرى "برقة، وفزان، وطرابلس"، وذلك من خلال تقديم الدعم للمؤسسات الشرعية المنتخبة، ومساعدتها في التعافي لمواجهة الخطط الرامية لتقسيم الدولة، وتحويلها إلى بؤرة إرهابية تستغلها التنظيمات المتطرفة في تهديد الأمن الإقليمي. كما يعكس استضافة القاهرة ملتقى القبائل الليبية في 25 مايو 2015 هذا المسعى الرامي للحفاظ على وحدة وتماسك الدولة الليبية في ظل تجذر البُعد القبلي في الواقع الليبي.
4- رفض تأجيج الخلافات الطائفية والمذهبية بدول الإقليم: على الرغم من وجود اتجاهات خارجية تسعى لاستخدام المتغير المذهبي للتسريع من وتيرة تقسيم وتفتيت وحدات النظام الإقليمي العربي؛ فإن مصرَ تدعو إلى أهمية تدارك هذه الأبعاد الجديدة التي بدأت تطرأ على صراعات المنطقة، والتي تستهدف تأجيج الخلافات الطائفية والمذهبية، وهي الصراعات الناجمة عن تهميش بعض المذاهب أو الطوائف وإقصائها، أو استغلال وتوظيف هذا الصراع في تحقيق التوازن الإقليمي الذي يضمن مصالح الدول الكبرى من خلال طرح فكرة المحورين السني والشيعي.
5- الدعوة إلى إخلاء منطقة الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل: شكلت دعوةُ مصر لإخلاء منطقة الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل أحدَ ملامح توجهاتها الخارجية، وتقوم الرؤية المصرية في هذا الصدد على ضرورة إخضاع كافة المنشآت النووية الموجودة بالمنطقة للتفتيش الدولي، وفي مقدمتها البرنامجان النوويان الإسرائيلي والإيراني. وتستهدف مصر من هذا التوجه أمرين: الأول منع سباق التسلح بالمنطقة، والذي يشكل اندلاعه تهديدًا لتوازنات الأمن الإقليمي.
ثانيًا– سلوك السياسة الخارجية المصرية:
يُقصد بسلوك الدولة في المجال الخارجي ترجمة توجهات السياسة الخارجية إلى أفعال، وهو ما يُجسده تفاعل السياسة الخارجية المصرية خلال عام من حكم الرئيس السيسي داخل المستويات التالية:
1- البعد الدولي: تُمثل القاعدة الرئيسية لتفاعلات مصر مع البعد الدولي: "إذا لم تهتم مصر بالخارج، فإن الخارج سيهتم بها"، وهي المقولة التي ربما تفسر اهتمام القوى الكبرى بتفاعلات الداخل المصري وارتباطاته الخارجية، كما أنها تعكس محورية مصر، وأهميتها كركيزة لاستقرار منطقة الشرق الأوسط.
على خلفية هذا الإدراك فإن علاقات مصر مع القوى الكبرى شهدت تبدلا وتغيرًا في المواقف، لا سيما بعد ثورة 30 يونيو؛ حيث تعاملت الولايات المتحدة الأمريكية مع الثورة بنوعٍ من الفتور في بداية الأمر انعكس على مواقفها التي تجسدت في قرار الإدارة الأمريكية بوقف المساعدات العسكرية لمصر، وتعليق مناورات النجم الساطع التي كانت تجري بين البلدين، والتلكؤ في تعيين سفير لها بالقاهرة. ومع تولي الرئيس السيسي مقاليد السلطة، انتهج إزاء الولايات المتحدة الأمريكية سياسة رشيدة قامت على الموازنة بين استقلالية القرار الداخلي، واحترام إرادة الشعب المصري، والحفاظ على مصالح مصر الحيوية، فضلا عن تنويع روابط مصر مع القوى الكبرى الصاعدة في النظام الدولي، سواء مع الصين أو روسيا، وهو ما دفع بعض الاتجاهات إلى تأكيد أن توجه مصر شرقًا يمثل تحولا في سياستها الخارجية، لا سيما بعد توقيع شراكة استراتيجية مع هاتين الدولتين، كل على حدة.
غير أن إدراك الولايات المتحدة وتفهمها لما حدث في مصر بعد 30 يونيو، وخشيتها من تفكك العلاقات الاستراتيجية مع القاهرة؛ جعلها تستجيب لأصوات المؤيدين داخل الكونجرس الأمريكي للحفاظ على علاقات التحالف الاستراتيجي مع القاهرة، وهو ما تبدى في إدلاء جون كيري وزير الخارجية في 22 أبريل 2014 بشهادته أمام الكونجرس الأمريكي بخصوص الشأن المصري، وذكر فيها أن مصر تُحافظ على العلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة في ملفات مهمة، مثل: مواجهة التهديدات المشتركة كالإرهاب، وانتشار أسلحة الدمار الشامل، كما أشار لالتزام مصر بمعاهدة السلام مع إسرائيل. وهو ما سمح للبيت الأبيض برفع الحظر عن إرسال عشر طائرات هيليكوبتر من طراز أباتشي إلى مصر. وهو الأمر الذي أدى إلى انفراج العلاقات المصرية الأمريكية التي تُوجت بلقاء الرئيس عبد الفتاح السيسي الرئيس باراك أوباما على خلفية المشاركة في الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2014.
وبرغم حدوث هذا الانفراج، فإن ثمة قضايا لا تزال عالقة بين الجانبين، مثل: الموقف الأمريكي من جماعة الإخوان المسلمين، والرؤية الأمريكية لمواجهة التنظيمات الإرهابية وقصرها على تنظيمي داعش والقاعدة والتي تختلف عن شمولية الرؤية المصرية، والموقف من البرنامج النووي الإيراني، وتأثير اتفاق لوزان على أمن الخليج العربي. ولا شك أنها متغيرات تمثل تحديات أمام التفاهمات المصرية الأمريكية.
2- البُعد العربي: مَثَّلَ البُعدُ العربي الأولوية الأولى في سياسة الرئيس السيسي الخارجية، لا سيما وأن مقولته "مسافة السكة" شكلت طرحًا واضحًا لمحورية التوجه العربي في سياسة مصر الخارجية باعتبار أن الأمن القومي العربي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالأمن القومي المصري. وقد تجسدت ترجمة هذا التوجه في أوجه متعددة من سلوك مصر الخارجي، يتمثل أولها في دعوة مصر لتشكيل قوات عربية مشتركة لمواجهة التهديدات المضاعفة المرتبطة بتنامي التيارات الإرهابية والتكفيرية التي تستهدف تفتيت دول النظام الإقليمي العربي على أسس عرقية ومذهبية ومناطقية، وهو المقترح الذي تبنته القمة العربية التي عُقدت بالقاهرة في أواخر مارس 2015، وجاء ضمن مقرراتها.
ويبدو أن القيمة المُضافة لهذا المقترح المصري أنه عربي التخطيط والتفكير، والتمويل والتنفيذ، بل والقيادة أيضًا. وتنفيذًا لهذه الرؤية عقد رؤساء أركان الجيوش العربية بجامعة الدول العربية لقاءين للبحث في مجالات عمل هذه القوات، وأماكن تمركزها، وكيفية تشكيلها، والمهام المنوطة بها. وثانيها تنفيذ مصر لعدد من التدريبات العسكرية مع دول الخليج (ومنها: السعودية، والإمارات، والبحرين) على أساس أن أمن الخليج العربي هو امتداد للأمن القومي المصري، فضلا عن مشاركة مصر في "عاصفة الحزم" بقيادة المملكة العربية السعودية لاستعادة الشرعية اليمنية بعدما انقلب الحوثيون على نظام الرئيس عبد ربه منصور هادي، مع تأكيد مصر أهمية الحوار السياسي بين الفرقاء في اليمن. أما السلوك الثالث وربما الأهم فهو توجيه ضربة جوية ضد معسكرات ومناطق تمركز وتدريب ومخازن أسلحة وذخائر تنظيم داعش الإرهابي بالأراضي الليبية، على خلفية ذبح 20 مصريًّا على يد أعضاء التنظيم.
وبالرغم من تحفظ الولايات المتحدة الأمريكية على هذه الخطوة، وفق تصريحات المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية والمتحدث باسم البنتاجون في مؤتمريهما الصحفي اليومي في (17 فبراير 2015)، والإشارة إلى أن مصر قامت بالعملية العسكرية بدون تنسيق مع الجانب الأمريكي - فإن هذا التحرك عكس استمرارية الاستقلالية في اتخاذ القرار والتحرك لحماية المصالح الوطنية المصرية.
3- البعد الإفريقي: شكل البعد الإفريقي أهمية قصوى لصانع القرار المصري، خاصة أن هذه الدائرة ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالأمن المائي المصري الذي مثَّل شروع إثيوبيا في بناء سد النهضة أحد مصادر تهديده، لا سيما وأن نهر النيل يعد المصدر الرئيسي للمياه في مصر.
وإدراكًا لهذه الحقيقة، بدأ التحرك المصري إزاء إفريقيا يأخذ مسارين متكاملين؛ الأول "مؤسسي" وهو إنشاء الوكالة المصرية للشراكة من أجل التنمية؛ حيث تم دمج كل من الصندوق المصري للتعاون الفني مع إفريقيا، والصندوق المصري للتعاون مع دول الكومنولث في كيان واحد.
أما المسار الثاني فهو محاولة التركيز على المصالح والمنافع المتبادلة مع دول حوض نهر النيل، وتحويل المجرى المائي من مصدر للصراع إلى أداة للتعاون المائي عبر الإدارة المشتركة لمياه نهر النيل. وقد تجسد هذا التحول في إعلان مبادئ سد النهضة الذي وقّعته مصر والسودان وإثيوبيا بالخرطوم الذي أقر مجموعة من المبادئ العامة تضمن لمصر حقوقها المائية، ولإثيوبيا حقوقها التنموية.
ثالثًا- التحديات التي تُواجه السياسة الخارجية المصرية:
برغم ما اتسمت به السياسة الخارجية من مرونة، ونجاحها في تحويل التهديد إلى فرصة، فإن ثمة تنوعًا في التحديات التي يُمكن إبراز أهمها في التالي:
1- تحدي النموذج المصري: ترتبط ريادية النموذج المصري بعلاقة طردية مع قوة مصر الناعمة، سواء ما يرتبط منها بالتعليم أو الفن أو الثقافة، أو أدوار المؤسسات الدينية مثل الأزهر والكنيسة المصرية. وإذا كانت مصرُ قد نجحت في صياغة دورها الإقليمي في فترات سابقة عبر أدواتها النافذة من قوتها الناعمة، فإن إخفاق وتراجع دور هذه الأدوات في الفترة الحالية يمثل أحد أبرز التحديات التي تُواجه السياسة الخارجية المصرية.
فعلى سبيل المثال، ظل الأزهر الشريف منارة للعلم يستقي منه الدارسون قيم الإسلام السمحة والمعتدلة، كما شكل موفدوه إلى دول العالم المختلفة سفراء للإسلام وقيمه الصحيحة التي تدعو إلى التسامح والتعايش السلمي واحترام الآخر، غير أن تراجع هذا الدور جاء نتاج غياب التطوير المستمر، سواء بتوقف مسيرة الاجتهاد الفقهي الذي شكل الإمام محمد عبده آخر نماذجه، أو للخل في المناهج التي تُدرّس، وعدم لحاقها بتطورات العصر، وهو الأمرُ الذي أعطى للتيارات المتطرفة فرصةً في ظل هذا الغياب بأن تختطف الإسلام لصالح أيديولوجيات تكفيرية وصفت بخوارج العصر في القرن الحادي والعشرين.
ويبدو أن ما أصاب الأزهر من تراجع لا يختلف عن الأزمات التي تُعاني منها قطاعات الفن، والثقافة، والتعليم، كأدوات ناعمة تحتاج إلى إعادة بعثها من جديد لدعم ريادية النموذج المصري في دوائره الحيوية.
2- التحدي التنموي: تمثل السياسة الخارجية امتدادًا للسياسة العامة للدولة، لذا فإن نجاح الدولة في تحقيق أهدافها الخارجية يرتبط في أحد جوانبه بمدى القدرة على خدمة أغراض التنمية الداخلية، وهو ما يُعرف "بدبلوماسية التنمية". وهنا تبرز قضية المساعدات الاقتصادية التي وعدت بتقديمها الدول والمنظمات الدولية والمستثمرون خلال مؤتمر مصر الاقتصادي الذي عُقد بشرم الشيخ في مارس 2015، والتي ستظل دومًا رهن الاعتبارات السياسية، واستمرار تحسن العلاقات، ووجود مصالح ومنافع متبادلة.
ومن ثم فإن دعم الرأسمالية الوطنية واستنفار الطاقات الكامنة داخل الاقتصاد المصري يظل المحدد الأهم لتحقيق التنمية المستدامة. صحيح أن المساعدات الدولية والمنح ساعدت دولا في تجاوز ظروف مرحلية، غير أن الاعتماد على الذات يظل هو المسار المؤثر في تحقيق التنمية المستدامة بأبعادها ومستوياتها المختلفة.
3- تحدي التنافس الإقليمي: تتبنى كلٌّ من تركيا وإيران مشاريع جيواستراتيجية تسعى كل منهما لجعلها أداة لتقسيم المنطقة على أسس مذهبية قوامها التنافس بين قوى الإسلام السني وقوى الإسلام الشيعي للتحكم في تفاعلات الإقليم، لا سيما أن التطرف والإرهاب الذي تم توظيفه من جانب الدولتين لتفتيت دول المنطقة هدف بالأساس إلى سهولة اختراقها، وإحكام السيطرة على مقدراتها، وتنفيذ أجنداتهما. وهو ما تجلى بشكل واضح في وجود ميليشيات إيرانية تحارب في سوريا ولبنان واليمن والعراق، فضلا عن تعاملات اقتصادية لتركيا مع تنظيم داعش الذي يقوم بتصدير النفط العراقي والسوري إلى المصافي التركية، والتي تقوم بدورها بتصديره للخارج بأسعار عالمية. وتتعارض هذه المشاريع بشكل جذري مع رؤية مصر لمستقبل المنطقة التي ترتكز بالأساس على حماية دولها من التشرذم والتفتيت، والحيلولة دون "مَذْهَبَة" الصراعات المتفجرة.
وإجمالا.. يُمكن القول إن الركائز الثلاث للسياسة الخارجية المصرية (وهي: عربية، إفريقية، مصرية) هي القاعدة التي حكمت توجهات الرئيس السيسي الخارجية في ظل تعاظم التحديات الخارجية، وتنوع مصادرها. وتبقى النتائج الملموسة لهذه السياسات على أرض الواقع رهنًا باعتبارات القدرة المصرية على تسوية صراعات المنطقة العربية التي تفجرت بعد اندلاع الربيع العربي، ومدى نجاحها في موازنة الضغوط الإقليمية والدولية على دول المنطقة، ووقف مشروعات التفتيت لصالح تيار الوحدة والاستقرار بما يقوض أفكار دعاة الفوضى لإطالة أمد الصراعات لخلق واقع جديد يخدم أهدافًا خارجية وأجندات دولية مأزومة. وهو الأمر الذي يتطلب الإسراع بتدشين القوات العربية المشتركة كآلية عربية خالصة لمواجهة كل هذه الضغوط والتحديات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق