منذ تولّي الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي السلطة في حزيران/يونيو 2014، لم يدّخر النظام المدعوم من الجيش أي جهد، في سياق محاولته ضمان تحقيق انتعاش اقتصادي سريع، بعد أربع سنوات من معدّلات النمو المنخفضة، وارتفاع معدّلات البطالة، واتّساع العجز في الميزانية، وتضاؤل احتياطيات النقد الأجنبي.بحلول منتصف العام 2015، كانت ثمة دلائل على أن تلك الجهود بدأت تؤتي أكلها. غير أن الانتعاش الاقتصادي أصبح موضوعاً مسيّساً الى حدّ كبير في مصر، حيث يجادل أنصار النظام ومنتقدوه بأن هذا الازدهار هو الذي سيحدّد مستقبله السياسي.
بيد أن هذه الآراء تعلّق قدراً كبيراً من الأهمية على المسائل الاقتصادية، في حين تتجاهل العوامل الأخرى الاجتماعية والسياسية والهيكلية المهمة، التي تساعد في تحديد قدرة النظام على توطيد حكمه والحفاظ على الاستقرار. ثم، لاتكون العلاقة بين الانتعاش الاقتصادي والاستقرار السياسي مباشرة كما يوحي الجانبان.
يعتبر أنصار النظام أي بادرة على تحسّن الوضع الاقتصادي، دليلاً على أن سياسات السيسي تخطو إلى الأمام، وأنه ينبغي الإبقاء على الوضع السياسي الحالي الذي تسعى فيه الحكومة إلى إدخال إصلاحات من أعلى إلى أسفل لتحريك عجلة الاقتصاد، من دون السماح بقدر كبير من التعدّدية السياسية.
ويشعر معارضو النظام بالقلق من أن الانتعاش الاقتصادي، سيعزّز شعبية وشرعية نظام السيسي الذي يرونه سلطوياً وقمعياً، الأمر الذي سيساعده على ترسيخ سلطته. ويؤكدون أنه لايمكن للنمو والاستثمار أن يتعافيا تماماً، في خضمّ العنف المستشري والبيئة السياسية المقيّدة. ويرى العديد من معارضي النظام في الأزمة الاقتصادية المستمرة، وسيلة لانتزاع تنازلات سياسية في مجالات الحقوق الأساسية والحريات، ماقد يفسّر محاولة البعض عرقلة جهود النظام والتقليل من شأن أي دلائل على الانتعاش.
غير أنه لايبدو أن الانتعاش الاقتصادي يرتبط تلقائياً بتوطيد السلطة. وفي حين قد يساعد الانتعاش السيسي على إحكام قبضته على الدولة، فإنه يمكن أن يؤدّي أيضاً إلى تفاقم العديد من المشاكل السياسية والاجتماعية التي تواجه النظام. والواقع أن استمرار التدهور الاقتصادي، أي غياب الانتعاش، يمكن أيضاً أن يعمّق الأزمات السياسية التي يواجهها النظام. ومن المفارقات أن الظروف الاقتصادية السيّئة والصراع الاجتماعي والاضطرابات الأهلية المتفاقمة، يمكن أن تساعد النظام أيضاً على توطيد سلطته، إذا تمّ اعتبارها الخيار الوحيد في مواجهة المزيد من عدم الاستقرار والفوضى.
وجهتا نظر في الانتعاش الاقتصادي
اعتبر أنصار النظام المصري الانتعاش الاقتصادي أحد أهم الشروط الأساسية لتوطيد السلطة في مصر. وهو ماتذهب إليه المؤسّسات المالية الدولية وحلفاء النظام في الخليج، إذ يتفق الجميع على أن الانتعاش الاقتصادي هو مفتاح تحقيق الاستقرار الاجتماعي والتمكين السياسي.
فطبقاً للنظام الحاكم وحلفائه المحلّيين والإقليميين، يثبت الانتعاش أن السيسي وحكومته قد تمكّنا من تقديم الإصلاحات الضرورية. فمن شأن معدلات النمو الأعلى والمزيد من فرص العمل أن يؤديا إلى مستويات معيشة أفضل، والحيلولة دون العودة إلى الاضطرابات الاجتماعية وتجدّد الاحتجاجات.
يتّفق الخصوم السياسيون للنظام، وخاصة جماعة الإخوان المسلمين وحلفاؤها، على أنه ستكون للانتعاش الاقتصادي آثار سياسية مهمة. فهم يخشون من أنه إذا ما ارتفعت معدلات النمو وعادت الاستثمارات إلى التدفّق في الاقتصاد، وتحسّنت مؤشرات الاقتصاد الكلي، فإن قبضة السيسي على السلطة ستشتدّ. وعلى النقيض من ذلك، فإن عدم القدرة على تحقيق الانتعاش الاقتصادي سيُترجَم إلى مزيد من عدم الرضا وخيبة الأمل تجاه نظام السيسي، مايمهّد السبيل لبروز قاعدة أوسع من الاحتجاج السياسي والاجتماعي، ويمهّد وصفة لعدم الاستقرار في المستقبل.
ولذلك فإن هؤلاء المعارضين مهتمون كثيراً في عرقلة الانتعاش الاقتصادي الناشئ في البلاد. فقد نظّمت جماعة الإخوان المسلمين وحلفاؤها الإسلاميون احتجاجات مستمرة، وأطلقوا حملات إعلامية مناهضة للنظام. وفي المقابل اتهمت الحكومة ووسائل الإعلام المؤيّدة للنظام جماعة الإخوان وبعض الجماعات المرتبطة بها بممارسة أعمال التخريب، مشيرة إلى تفجيرات متفرّقة في المدن الكبرى مثل القاهرة والإسكندرية، كدليل على جهد منظّم لمواجهة جهود الإنعاش التي يقوم بها النظام.
حالة الاقتصاد
على الرغم من جهود الحكومة فإن الانتعاش الاقتصادي، كما يلُاحَظ في ارتفاع معدّلات النمو، وتحسّن أداء الاستثمار، وإعادة بناء احتياطيات النقد الأجنبي، قد يحدث في الواقع بحلول العام 2017 أو 2018.
في نيسان/أبريل 2015، زاد صندوق النقد الدولي المعدّل المتوقّع لنمو الاقتصاد المصري إلى 4 في المئة في العام 2015، ارتفاعاً من تقديرٍ يعود إلى تشرين الأول/أكتوبر 2014 ويبلغ 3.5 في المئة. كما تحسّن التصنيف الائتماني لمصر باطّراد في أواخر العام 2014 والنصف الأول من العام 2015. علاوةً على ذلك، جرى تقديم وعود باستثمارات ومساعدات أجنبية كبيرة، تقدَّر بحوالى 36 مليار دولار وفقاً لمسؤولين حكوميين، إلى مصر في مؤتمر الاستثمار الدولي الذي استضافته الحكومة في أواخر آذار/مارس 2015.
ومع ذلك، من المستبعد أن يحلّ هذا التحسّن المشاكل البنيوية طويلة الأمد التي ابتلي بها الاقتصاد المصري، وأدّت إلى تآكل التأييد للرئيس السابق حسني مبارك، الذي أُطيح في العام 2011.
والواقع أنه تم إلى حدّ كبير، في ظل حكم السيسي، إحياء النموذج الاقتصادي نفسه الذي كان سائداً في عهد مبارك. فقد مالت التغييرات التي طالت سياسة النظام الجديد تحديداً، إلى صالح الشركات الكبيرة والمستثمرين الأجانب، أي العرب الخليجيين. وفي الوقت نفسه، تم خفض الدعم المقدّم إلى السكان، من دون موازنة السياسات الاجتماعية للتخفيف من تأثير ارتفاع الأسعار الذي يواجه المصريين البسطاء الآن. وقد أظهر النظام عجزاً عامّاً أو عدم استعداد للأخذ بفرض ضرائب تصاعدية على أصحاب العقارات ورؤوس الأموال، والتي ستجعل من الممكن إعادة توزيع الدخل وتحسين نوعية الخدمات العامة في مجالات مثل الرعاية الصحية والتعليم.
مع ذلك، يُعاد الآن إنتاج أنماط التهميش الاجتماعي والاقتصادي نفسها التي كانت قائمة قبل ثورة العام 2011. ففي حين نما الاقتصاد المصري بمعدّل مثير للإعجاب خلال السنوات الأخيرة من حكم مبارك، لم ينتقل سوى القليل من آثار ذلك إلى القاعدة العريضة من السكان. فقد ارتفعت معدّلات البطالة، وأدّى التضخّم إلى تآكل الأجور الحقيقية للطبقات المتوسطة والفقيرة في المناطق الحضرية. كل هذه العوامل أدّت إلى زيادة حدّة الصراع الاجتماعي في مصر، ومفاقمة الأزمة السياسية التي واجهت مبارك.
من المؤكّد أن النظام المصري المدعوم من الجيش يواجه أيضاً مشاكل لاترتبط مباشرة بالوضع الاقتصادي في البلاد، بل بالجهود الجارية لإقامة نظام سياسي فعّال لديه القدرة على تمثيل المصالح المجتمعية المختلفة، وخلق طبقة سياسية وسيطة لاحتلال مقاعد البرلمان والمحليات، واحتواء قوى الإسلام السياسي. وما من شكّ في أن الأوضاع الاقتصادية ستؤثّر على الخيارات المتاحة للنظام في التعاطي مع هذه التحدّيات. ومع ذلك، فإن النظر إلى هذه التحدّيات باعتبارها قضايا اقتصادية، يشكّل تبسيطاً واختزالاً لها ضمن أبعاد اقتصادية فقط.
سيناريو بديل
ثمة مؤشرات تفيد بأنه حتى لو تدهور الاقتصاد المصري بدرجة كبيرة، سيظل في مقدور السيسي إحكام قبضته على السلطة. ففي ظل غياب الانتعاش الاقتصادي، ستنخفض مستويات المعيشة بالنسبة إلى غالبية المصريين. ولأن المجال السياسي مغلق تقريباً، من المرجّح أن يأخذ السخط الشعبي تجاه النظام شكل صراع اجتماعي قوي، يترافق مع انحلال اجتماعي وازدياد في مستويات العنف الإجرامي والاغتراب والاضطرابات.
لن تؤدّي هذه الأوضاع إلّا إلى تفاقم انعدام الأمن الذي تشعر به بالفعل الطبقات المتوسطة في مصر. ومن شأن مثل هذا السيناريو الكابوسي إضعاف قدرة تلك الطبقات على المساومة في مواجهة النظام، ودفعها إلى القبول بالاستبداد والانتهاكات الممنهجة لحقوق الإنسان التي ترتكبها الشرطة.
هذا التغيير في المواقف العامة يحدث بالفعل في مصر. فقد أدّى إضراب غير معلن من جانب الشرطة بين العامَين 2011 و2013، إلى ارتفاع واضح في معدّلات النشاط الإجرامي في صورة أعمال سطو وسرقة واختطاف. كما أن انعدام الأمن الشخصي جعل المصريين من أبناء الطبقة المتوسطة أكثر تسامحاً، لابل أيضاً "متواطئين"، تجاه الفظائع التي ترتكبها الشرطة في القضايا غير السياسية، والتي عادةً ماتكون ضد الفقراء في المناطق الحضرية. وقد اعتبر هذا التحوّل، إلى حدّ بعيد، الثمن الذي ينبغي دفعه للعودة إلى الأمن والنظام.
منذ العام 2011، ازداد عدد الأشخاص الذين قُتِلوا في مراكز الشرطة والسجون في قضايا جنائية عادية بمعدّل ينذر بالخطر، عادةً بسبب التعذيب وسوء المعاملة. ومن المثير للاهتمام، للأسف، أن هذا الأمر لم يعد مثار جدل بالنسبة إلى أبناء الطبقات المتوسطة في مصر. وبينما أطلقت انتهاكات سابقة مثل قتل خالد سعيد في العام 2010، الشاب الذي تعرّض إلى الضرب حتى الموت على أيدي اثنين من رجال الشرطة السرية، العنان لموجة غضب شعبية ضد قوات مبارك، إلا أنها لم تعد سبباً للاحتجاج.
إن المزيد من الانحلال الاجتماعي والاقتصادي، قد يضعف موقف الطبقات المتوسطة في مايتعلّق بحكامها المستبدّين، ويدفعها إلى قبول انتهاكات حقوق الإنسان وغياب الحريات والحقوق الأساسية، باعتبار ذلك ثمناً لحكومة تحافظ على النظام في البلاد. وبالفعل، تم خفض التوقّعات إلى حدّ كبير، بعد ثلاث سنوات من الانتقال السياسي الفاشل بين العامَين 2011 و2013. فقد جاء السيسي إلى السلطة، ولم يقدّم سوى القليل من الوعود، باستثناء إنقاذ الدولة، والحفاظ على النظام الاجتماعي من الفوضى.
النظر إلى ماهو أبعد من الاقتصاد
اليوم، لايبدو أن هناك صلة تلقائية بين الانتعاش الاقتصادي وبين توطيد السلطة في مصر. إذ أن قوة النظام ستتأثّر بالعديد من العوامل التي لاعلاقة لها مباشرة بالوضع الاقتصادي العام في البلاد. وتشمل هذه العوامل ديناميكيات النظام السياسي نفسه، وقدرة النظام على تكوين طبقة سياسية يمكنها أن تلعب دور الوسيط بين الرئيس المدعوم من الجيش وبقية المجتمع. أما العوامل الأخرى فهي بنيوية، مثل انعدام الأمن الذي قد تشعر به الطبقات الوسطى إزاء التحوّل السياسي والاجتماعي، والآمال التي ربما تعقدها الفئات المجتمعية المختلفة على النظام السياسي.
يتطلّب الاستقرار السياسي في مصر ماهو أكثر بكثير من ارتفاع معدّلات النمو والاستثمار في المدى القريب. كما أن وجود نظام سياسي مستقرّ وفعّال يوفّر، على الأقل، الحدّ الأدنى من التمثيل للفئات الاجتماعية المختلفة في مصر، أمر ضروري. في الوقت نفسه، يجب أن تتصدّى السياسات الاقتصادية المستقبلية والتغييرات المؤسّسية إلى المشاكل البنيوية في توزيع وإعادة توزيع الدخل. فالتحدّي الحقيقي في مصر يتمثّل أساساً في ضمان الإدماج السياسي والاقتصادي لأوسع مجموعة ممكنة من الفئات والطبقات الاجتماعية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق