بسم الله الرحمن الرحيم
مفهوم السلطة المحلية وعلاقته بالمفاهيم المشابهة
المقدمــــة:
السلطة المحلية أو اللامركزية الإدارية الإقليمية تعد أسلوباً من أساليب التنظيم الإداري التي تتبعها الدول عادة في أداء وظائفها لتقديم خدماتها للمواطنين، إذ بموجبه يناط بالسلطات المحلية ممارسة بعض وظائف السلطات المركزية بواسطة إشراك أجهزتها في أداء بعض الوظائف وتقديم الخدمات لمواطني الأقاليم المحلية.
لقد كان أداء الوظائف وتقديم الخدمات حكراً على السلطات الإدارية المركزية وحدها، غير أن التطورات الديمقراطية المتسارعة وتشعب الاختصاصات وتوسع الخدمات وتزايد الأعباء الملقاة على كاهل السلطات المركزية فرض عليها واقعاً جديداً تم بموجبه تنازل هذه السلطات عن بعض اختصاصاتها، وألقت ببعض أعبائها على المجالس في الوحدات الإدارية المحلية المنتخبة والمتخصصة على أساس إقليمي لتباشر ما يناط بها من اختصاصات تحت رقابة السلطات المركزية( ).
وقد تعاظم في الوقت الحاضر دور السلطات المحلية في إدارة شئون الوحدات الإدارية المحلية، فأصبح الأصل هو توزيع الوظيفة الإدارية وتقاسم أعبائها بين السلطات المركزية والسلطات المحلية، وإشراك الأخيرة في أداء بعض الخدمات التي كانت تقدمها السلطات المركزية للأقاليم المحلية.
وهكذا تم تقاسم الوظيفة العامة وتقديم الخدمات بين السلطة التنفيذية وهيئات عامة مستقلة، وبذلك نهضت شخصيات اعتبارية إقليمية مستقلة إلى جانب السلطة المركزية لأداء بعض الوظائف وتقديم الخدمات التي كانت تقدمها السلطة المركزية على مستوى الإقليم المحلي، إلاَّ أن ذلك لم يسلب السلطة المركزية سلطاتها وحقها بل ظلت الأهم على الإطلاق.
وهنا يتضح الفرق بين نظم الإدارة المركزية التي تقوم على وحدة الشخص الاعتباري الذي ينهض بكافة أعباء الأداء ممثلاً في السلطة المركزية، وبين نظم الإدارة اللامركزية التي تسمح بتعدد الأشخاص الاعتبارية العامة إلى جانب شخص السلطة المركزية( )، وتتجلى أهمية الأسلوب الإداري اللامركزي من خلال إشراك مواطني الأقاليم المحلية بإدارة أنفسهم بأنفسهم عن طريق مجالس محلية منتخبة من قبلهم، مما يسهل للمواطنين المحليين سرعة إنجاز معاملاتهم الإدارية التي كان يتطلب تدخل السلطات المركزية والتخفيف من المعاناة التي كان يعاني منها مواطني الأقاليم هذا من ناحية، وهو من ناحية أخرى يؤدي إلى التخفيف من أعباء السلطات الإدارية المركزية التي كانت ملقاة على كاهلها، فضلاً عن تنمية شعور المواطنين بأهميتهم عند إشراكهم في إدارة شئون إقليمهم، مما يعزز روح المواطنة وينمي الوعي الديمقراطي لديهم.
وبناء على ما تقدم فإننا في هذه الورقة سنعمل على تعريف السلطة المحلية وفقاً لما ورد في القانون اليمني( )، وتمييز هذا المصطلح عن غيره من المصطلحات المشابهة بشكل دقيق، نتيجة لما أثير من جدلٍ واسعٍ بين رجال الفقه حول تسمية الحكم المحلي والإدارة المحلية وغيرها من المصطلحات ذات العلاقة، مما أدى إلى طرح التساؤل حول مدى الخلاف بين المصطلحات، وهل هو خلاف في الجوهر. أم أن الأمر كله لا يعدو مجرد اختلاف في التعبير، مع الترادف في المعنى، بات من اللازم وضع حد له والاتفاق على اصطلاح موحد لتجنب الخلط الذي وقع فيه العديد من الباحثين والمهتمين في استخدام هذه المصطلحات في غير موضعها، أو للدلالة على مضامين ومصطلحات أخرى وهو ما أتبعته العديد من التشريعات العربية والأجنبية وذلك على النحو الآتي:
أولاً: تعريف السلطة المحلية( ):
تباينت آراء الباحثين وفقهاء القانون العام حول تعريف السلطة المحلية، ولم يتفقوا على تعريف موحد لها، فلكل منهم تعريف يُعبر عن رأيه ونظرته الخاصة وفقاً للنظام السياسي والاجتماعي الذي ينتمي إليه ويؤمن به.
وهذا الاختلاف والتباين حول تعريف السلطة المحلية يرجع إلى اختلاف وتباين النظم السياسية والاجتماعية التي نشأ في ظلها النظام الإداري من جهة، وإلى اختلاف وتباين وجهات نظر المفكرين وفقهاء القانون حول العناصر المكونة لها، والأهمية النسبية التي يخضعها المشرع على أي عنصر من هذه العناصر من جهة أخرى( ).
وسيتجلى ذلك الاختلاف والتباين من خلال استعراض تعريفات بعض الباحثين وفقهاء القانون للسلطة المحلية.
وقبل بيان تعريف الفقه العربي للسلطة المحلية نبدأ بإيراد تعريف الفقه الأوروبي لها وسنكتفي بالفقه الإنجليزي والفقه الفرنسي كأنموذجين لذلك.
فقد عرف بعض الفقهاء الإنجليز الحكم المحلي بأنه:" حكومة محلية تتولاها هيئات محلية منتخبة، مكلفة بمهام إدارية وتنفيذية تتعلق بالسكان المقيمين في نطاق محلي محدد، ولها الحق في إصدار القرارات واللوائح المحلية"( ).
ومن خلال التعريف يتضح بأنه أشار إلى بعض الخصائص الأساسية التي يقوم عليها نظام الإدارة المحلية "الحكم المحلي" وذلك من خلال تحديد طبيعة المسائل الإدارية والتنفيذية التي تضطلع بها الهيئات المحلية. كما أنه بين الوسائل القانونية التي من خلالها تمارس هذه الهيئات مهامها، وذلك بتخويلها سلطة إصدار القرارات واللوائح، كما أن التعريف أبرز عنصر الانتخاب باعتباره يمثل ضمانة من ضمانات استقلال هذه الهيئات، ومع ذلك يؤخذ على هذا التعريف أنه لم يشر إلى عنصر الرقابة والذي يعد أحد أركان الإدارة المحلية.
أما الفقيه الفرنسي أندريه دي لوبادير Andre de Laubadere ، فقد عرف اللامركزية المحلية بأنها:" هيئات محلية تمارس اختصاصات إدارية وتتمتع باستقلال ذاتي". كما عرف هذا الفقيه الفرنسي أيضاً اللامركزية الإقليمية مستقلة عن اللامركزية المرفقية، إذ عرفها بقوله:" أنها هيئات محلية لا مركزية، تمارس اختصاصات إدارية، وتتمتع باستقلال ذاتي"( ).
وهذا التعريف جاء مقتضباً ومقصوراً على اللامركزية الإقليمية دون المرفقية، إلاَّ أنه وضح طبيعة الاختصاصات التي تمارسها هذه الهيئات، كما أشار إلى ركن الاستقلال.
وإذا ما أجرينا مقارنة موجزة لتطبيقات التشريع الانجليزي والتشريع الفرنسي واللذان يمثلان قطبان رئيسيان لهذا النظام في أوربا لوجدنا بأن الموضوع كله لا يعدو كونه خلافاً في التسمية، دون أن تصل إلى مرحلة القول بأن النظام المحلي الإنجليزي هو درجة من درجات اللامركزية السياسية، حيث أن النظام الانجليزي لا يعرف نوعاً واحداً من الوحدات الإدارية المحلية، لا من حيث الشكل ولا من حيث التنظيم، وأهم هذه الوحدات: المحافظات، المدن التي في مرتبة المحافظات، المراكز الحضرية، المراكز الريفية، المدن المتوسطة، والمدن الصغيرة.
أما في فرنسا فتتميز الوحدات الإدارية المحلية بوحدة النمط، حيث تتماثل هذه الوحدات في مستويين هما المحافظات والبلديات. وهذا الفرق بين التنظيمين، يفسر بأن النظام الفرنسي في هذا المجال هو أبسط وأقل تعقيداً من النظام الانجليزي، ولكن مجالس المحافظات والمدن والقرى والمراكز في انجلترا ليست ولايات أو مقاطعات سياسية. فانجلترا دولة بسيطة لا مركبة، ومجالسها المحلية لم تصل لا دستورياً ولا عرفياً إلى المستوى الذي وصلت إليه الولايات المتحدة الأمريكية في ممارستها للوظائف السياسية أو القضائية أو الإدارية.
أما في الوطن العربي فقد اختلف الكثير من الفقهاء والشُرّاح والباحثين العرب حول تحديد مفهوم الإدارة المحلية، ولم يتفقوا على تعريف موحد إذ خلط البعض منهم بين مفهوم الإدارة المحلية ومفهوم اللامركزية الإدارية، وبين الإدارة المحلية الإقليمية والإدارة المرفقية، حيث عرَّف بعض الفقهاء الإدارة المحلية بأنها: " توزيع الوظيفة الإدارية بين الحكومة المركزية في العاصمة وبين هيئات محلية أو مصلحيه مستقلة، بحيث تمارس هذه الهيئات وظيفتها الإدارية تحت إشراف ورقابة الحكومة المركزية"( )، وتجدر الإشارة إلى أن هذا التعريف الذي حدد بتعبير منظم ودقيق معظم عناصر الإدارة اللامركزية، قد أهمل عنصر الانتخاب.
ومن الباحثين من عرف الإدارة المحلية بأنها " أسلوب من أساليب العمل الإداري الذي ينصب على توزيع اختصاصات الوظيفة بين السلطة المركزية وبين هيئات أو مجالس منتخبة أو مستقلة عن السلطة المركزية، ولكنها تباشر اختصاصاتها في هذا الشأن تحت إشراف ورقابة الدولة المتمثلة بسلطتها المركزية"( ).
ويعد هذا التعريف أكثر دقة للإدارة المحلية، حيث بين أهم الشروط التي يقوم عليها نظام الإدارة المحلية، إذ جاء مؤكداً على توزيع الاختصاصات بين الهيئات المركزية والهيئات المحلية المنتخبة، وهذا ما ذهب إليه الغالبية من الشُرَّاح، وأكد على انتخاب الهيئات المحلية لضمان الاستقلالية عن السلطة المركزية، بعكس بعض الشُرَّاح الذين استبعدوا ضرورة انتخاب الهيئات المحلية، مكتفين في تعريفهم بذكر الاستقلال الذي يعد النتيجة المنطقية للشخصية الاعتبارية أو المعنوية كما يسميها البعض.
وهناك بعض الكتاب والباحثين جسدوا مفهوم الإدارة المحلية من خلال تعريفاتهم لها، إذ عرفها بعضهم بأنها " أسلوب من أساليب التنظيم الإداري للدولة يقوم على فكرة توزيع السلطات والواجبات بين الأجهزة المركزية والمجالس المحلية، لغرض أن تتفرغ الأولى لرسم السياسة العامة للدولة إضافة إلى إدارة المرافق العامة في البلاد وأن تتمكن الأجهزة المحلية من تسيير مرافقها بكفاءة وتحقيق أغراضها المشروعة"( ).
ويلاحظ أنَّ هذا التعريف استهدف التحديد وتجنب الخلط بين الإدارة المحلية كمصطلح ونظام إداري، وبين ما يتشابه معه من مصطلحات وأنظمة إدارية أخرى، كما أنه ركز اهتمامه على غرض توزيع الاختصاصات والواجبات بين الأجهزة المركزية والإدارة المحلية، إلاَّ أنه أغفل طبيعة الوحدة الإدارية ونطاق اختصاصاتها.
وعرف البعض الأخر الإدارة المحلية " بأنها هيئات إقليمية أناط بها المشرع القيام بوظائف إدارية محددة تمارسها في النطاق الجغرافي المرسوم لها، مستقلة عن السلطة التنفيذية، وتحت رقابة السلطة المركزية"( ). ويتضح من هذا التعريف أنه أعطى معنى أكثر وضوحاً للإدارة المحلية، وأبرز بعض عناصرها مثل توزيع الوظائف الإدارية، والأخذ في الاعتبار عند توزيعها بالاتجاه القائل بأسلوب التحديد الحصري لتلك الوظائف، كما تضمن الاعتراف باستقلال الإدارة المحلية في إدارة شؤونها تحت رقابة السلطات المركزية.
ومن خلال التعريفات الفقهية السابقة للسلطة المحلية، نجد أنها في جوهرها متقاربة إلى حد كبير، وإن تباينت في الألفاظ وفي بعض الجزئيات، وهذا يرجع إلى أن بعض الفقهاء عند وضعه تعريفاً للسلطة المحلية قد أخذ بالمفهوم الواسع لها، والبعض الآخر أخذ بالمفهوم الضيق. نظراً لاختلاف النظام السياسي والاقتصادي الذي تعتنقه كل دولة عن الأخرى.
وبدورنا نعرف السلطة المحلية بأنها تعني " توزيع أعباء الوظيفة الإدارية للدولة بناءً على قانون بين الهيئات التنفيذية المركزية وبين الهيئات المحلية المنتخبة على مستوى الوحدات الإدارية المتمتعة بالشخصية الاعتبارية، وتمارس اختصاصاتها ومهامها وفقاً لمواردها المالية عن طريق المجالس المحلية وتحت إشراف ورقابة السلطة المركزية".
ونعتقد أن هذا التعريف يبرز الأسس والمقومات التي تنهض عليها السلطة المحلية، من حيث إناطة بعض الاختصاصات والمهام الإدارية للمجالس المحلية ذات الشخصية الاعتبارية المتمتعة بالاستقلال المالي والإداري في حدود القانون والتي تباشر مهامها واختصاصاتها بما يتفق وإمكانياتها المالية المحلية تحت إشراف ورقابة السلطة المركزية.
ثانياً: تمييز مصطلح السلطة المحلية عن غيره من المصطلحات المشابهة
تبين من خلال تعريف السلطة المحلية "الإدارة المحلية" عدم اتفاق فقهاء القانون والباحثين على معنى موحد واستخدامهم بعض المصطلحات التي تتشابه معها ولكنها تختلف عنها في المعنى والمضمون.
ولذلك فإن دراسة مفهوم السلطة المحلية يقتضي التمييز بينها وبين المصطلحات المشابهة لها، تجنباً للخلط.
إن نظام السلطة المحلية يتشابه مع نظام اللامركزية المصلحية أو المرفقية، ونظام عدم التركيز الإداري، ونظام الحكم المحلي، ونظام الحكم الذاتي، غير أن التشابه بينها وبين هذه النظم لا يعني عدم وجود اختلاف فيما بينها.
لذا ينبغي التمييز بين مصطلح السلطة المحلية والمصطلحات المشابهة له، وذلك على النحو الآتي:
1- السلطة المحلية واللامركزية المصلحية أو المرفقية.
2- السلطة المحلية وعدم التركيز الإداري.
3- السلطة المحلية والحكم الذاتي.
4- السلطة المحلية والحكم المحلي.
1- السلطة المحلية واللامركزية المصلحية أو المرفقية.
السلطة المحلية تعني من الناحية القانونية( ) " اللامركزية الإدارية والمالية". فاللامركزية الإدارية والمالية أصلاً تقوم على أساس توزيع المهام والاختصاصات بين السلطة المركزية في العاصمة والسلطة المحلية في الوحدات الإدارية الإقليمية ذات الشخصية الاعتبارية. وفي ظل هذا النظام يقسم إقليم الدولة إلى وحدات إدارية إقليمية محددة ذات شخصية اعتبارية ويتولى إدارة كل وحدة مجلس محلي منتخب بشكل كلي أو جزئي، ويمارس اختصاصاته تحت إشراف ورقابة السلطة المركزية.
وتختلف اللامركزية الإدارية والمالية عن اللامركزية المصلحية أو المرفقية من حيث أن نظام اللامركزية الإدارية يقصد به توزيع الوظيفة الإدارية على أساس إقليمي وتمارس اختصاصات الوظيفة الإدارية في إطار إقليم معين.
أما نظام اللامركزية " المصلحية أو المرفقية" فيقصد به توزيع الوظيفة الإدارية على أساس موضوعي. حيث يقوم على أساس إنشاء هيئات عامة مستقلة تحدد اختصاصاتها على أساس موضوعي، أو منح مرفق قومي الشخصية الاعتبارية والقدر المناسب من الاستقلال. وتمارس هذه الاختصاصات على مستوى كل أقاليم الدولة أو على مستوى إقليم واحد أو عدة أقاليم وهي التي تعرف بالهيئات العامة( ).
ومع ذلك فإذا كان النظامان السابقان يعتبر كل منهما مظهراً لمشكلة واحدة تتصل بتوزيع الوظيفة الإدارية بين هيئات مستقلة، إلا أنه لا يجوز الجمع بين الاصطلاحين كمترادفين، حيث يمكن أن تقوم اللامركزية الإدارية المصلحية في وحدات شاسعة لا تتوافر لسكان كل منها عناصر التجانس ووحدة الانتماء، في حين أنه يشترط لقيام اللامركزية الإدارية "الإقليمية" أن تضم كل وحدة من وحداتها الأساسية مجتمعاً متجانساً يجمع بين أفراده وحدة المصالح ووحدة الانتماء، كما أن الانتخاب لا يعتبر شرطاً لقيام اللامركزية الإدارية المصلحية بينما يعد شرطاً أساسياً في اللامركزية الإدارية الإقليمية( ).
بالإضافة إلى أنه يمكن التمييز بينهما على أساس أن اللامركزية الإدارية الإقليمية يظهر فيها الاعتماد على عنصر المكان بصفة رئيسية، بينما يكون عنصر الغرض هو أساس قيام اللامركزية الإدارية المصلحية، فإذا كانت اللامركزية الإدارية وفقاً للنطاق الجغرافي تتصف دائماً بالمحلية وهذه هي الصورة الأولى لها (اللامركزية الإدارية الإقليمية)، فإنها وفقاً للغرض من إنشائها تتصف دائماً بالتخصص الفني الذي لا يحجبه مدى اختصاصها الإقليمي وهذه هي الصورة الثانية لها (اللامركزية الإدارية المصلحية)، يضاف إلى ما تقدم أن الأشخاص المحلية تنشأ بتأثير عوامل سياسية أهمها انتشار الأفكار الديمقراطية ومبادئ الحرية السياسية التي تنادي بوجوب منح الجماعات حق حكم نفسها بنفسها، في حين أن الأشخاص المصلحية أو المرفقية تنشأ لأسباب وعوامل فنية هي الرغبة في إدارة المرافق العامة بطريقة فنية سليمة تكفل تحقيق أوفر إنتاج ممكن بأقل تكاليف ممكنة، ولذلك فإن الأشخاص المحلية تتمتع بحقوق وحريات أوسع مدى من التي تتمتع بها الأشخاص المصلحية أو المرفقية فيلاحظ مثلاً أن أعضاء المجالس المحلية أو معظمهم يختارون بطريق الانتخاب بواسطة سكان الإقليم أو المدينة بأنفسهم بينما يختار أعضاء الهيئات المصلحية أو المرفقية – كقاعدة عامة- بطريق التعيين بواسطة السلطة المركزية، كما أن الوصاية الإدارية التي تمارسها السلطة المركزية أشد وأقوى على الأشخاص المرفقية من التي تمارس على الأشخاص المحلية( ).
2- السلطة المحلية وعدم التركيز الإداري.
يخلط البعض بين نظام السلطة المحلية وبين نظام عدم التركيز الإداري رغم الاختلاف فيما بينهما، إذ كل منهما يختلف عن الآخر من عدة أوجه، فنظام عدم التركيز الإداري أو المركزية الوزارية هو في الأصل صورة من صور المركزية الإدارية، إذ يعتمد على أساس قيام الهيئات والأجهزة المركزية " الوزارات"– مثلاً- بتفويض بعض اختصاصاتها لفروعها في الأقاليم( )، بغرض تخفيف العبء عن كاهل الهيئات والأجهزة المركزية في العاصمة( ).
وفي ظل هذا النظام يكون توزيع الاختصاصات في نطاق السلطة المركزية، أي بين ديوان عام الوزارة وفروعها في الأقاليم مثلاً، بحيث يكون للرئيس في المركز الحق في تفويض مرؤوسيه في الفروع بعض اختصاصاته لمباشرتها في إدارة الفروع نيابة عنه في الحدود الممنوحة لهم بالتفويض( )، كما يحق للرئيس إلغاء التفويض أو سحب تلك الاختصاصات من مرؤوسيه ليمارسها بنفسه أو الحد منها أو زيادتها أو تقييدها على النحو الذي يراه( ).
أما نظام السلطة المحلية فإنه يقوم على أساس نقل السلطات والاختصاصات الإدارية المركزية وفقاً للقانون إلى هيئات محلية منتخبة ممثلة بالمجلس المحلي المنتخب. بمعنى أن الهيئات المحلية تمارس تلك السلطات والاختصاصات أصالة بقوة القانون وليس نيابة عن السلطات المركزية، وباستقلالية عنها في الحدود التي ينص عليها القانون.
وتجدر الإشارة إلى أن عدم التركيز الإداري يمكن أن يكون أسلوباً إدارياً في ظل نظام اللامركزية الإقليمية إذا كانت المحافظات تتمتع بالإدارة المحلية دون الوحدات الإدارية الأدنى مستوى، ففي هذه الحالة يكون لنظام عدم التركيز مكانة مهمة بين المحافظات والوحدات الإدارية الأدنى مستوى التي تخضع لها، ففي ظل هذا النظام يمنح رؤساء هذه الوحدات بعض صلاحيات المحافظين من خلال التفويض وفقاً للقانون( )، أما إذا كانت كل الوحدات الإدارية بمختلف مستوياتها قد توفرت فيها أسس ومقومات السلطة المحلية فلا مجال للأخذ بهذا الأسلوب فيما بين تلك المستويات الإدارية الإقليمية على أساس أن التفويض هو عبارة عن استثناء يرد على الأصل ولا يمكن للمفوض أن يفوض غيره( )، كما أن الاختصاصات الممنوحة بموجب التفويض يمكن سحبها أو تقييدها أو إلغاؤها أو الحد منها، أو إلغاء التفويض ذاته بقرار إداري. أما توزيع الصلاحيات والاختصاصات الإدارية في نظام السلطة المحلية فتمنح بقانون ولا يمكن الحد منها أو إلغاؤها أو سحبها إلاّ بقانون، وهذه هي أهم الفوارق بين نظام السلطة المحلية ونظام عدم التركيز الإداري.
3- السلطة المحلية والحكم الذاتي.
تباينت الآراء حول التفرقة بين السلطة المحلية والحكم الذاتي الذي يعد نموذجاً من نماذج اللامركزية الإقليمية فهو يقوم على الأسس نفسها التي يقوم عليها نظام السلطة المحلية( ).
إذ يرى بعض الشُرَّاح أن الحكم الذاتي من النظم اللامركزية التي لا يمكن أن ترتقي إلى اللامركزية السياسية في الدولة المركبة، ولا تهبط إلى اللامركزية الإدارية، فهو صيغة من صيغ الحكم والإدارة، ويحتل مكانة وسطى بين نظامي اللامركزية السياسية واللامركزية الإدارية.
وتجدر الإشارة إلى أن بعض الدول البسيطة قد تمنح إقليماً من أقاليمها - فضلاً عن الاستقلال الإداري- اختصاصاً تشريعياً، وحينئذ يجوز إطلاق اصطلاح الحكم المحلي أو الحكم الذاتي على هذا النظام، لأن الدولة وإن كانت بسيطة إلاًّ أنها تنتهي إلى نوع من اللامركزية السياسية بالنسبة إلى بعض الأقاليم لا جميعها( ).
وأبرز مثال على ذلك في الوطن العربي السودان والعراق، فالسودان خص إقليم الجنوب فضلاً عن الاستقلال الإداري بمجلس تشريعي، وذلك بمقتضى قانون الحكم الذاتي الصادر في 1972م، كما نشأ في العراق وضع شبيه بالوضع في السودان وذلك بمقتضى قانون الحكم الذاتي لمنطقة كردستان الصادر في سنة 1974م.
وإذا كان من الجائز إطلاق تعبير (حكم ذاتي) على النظامين السابقين لدخول العنصر التشريعي في نطاق الاختصاص المحلي، فإن ذلك لا يعني أن كلاً من الدولتين المذكورتين قد تحولتا من دولتين بسيطتين إلى دولتين مركبتين تعتنقان نظام الاتحاد الفدرالي أو المركزي، إذ إن كلا القانونين المذكورين قد حرصا على التأكيد على وحدة الدولة السياسية، وعلى وحدة الأرض والشعب.
كما أن الحكومة المركزية تظل هي صاحبة الاختصاص الأصيل في جميع المجالات التشريعية والتنفيذية والقضائية، والاختصاصات الممنوحة لإقليمي الحكم الذاتي أقرب إلى الاختصاصات المحلية في المجال الإداري، وإن كانت تتجاوزها إلى أكثر من ذلك( ).
إلى جانب ذلك فإن الكثير من الدول جمعت بين السلطة المحلية والحكم الذاتي وأكثرها نجاحاً إيطاليا الموزعة على تسعة عشر إقليماً منها أقاليم عدة متمتعة بالحكم الذاتي( ) لخصوصيتها أو لظروف خاصة كما هو كائن في العراق والسودان.
4- السلطة المحلية والحكم المحلي.
تباينت الآراء حول أسس التفرقة بين السلطة المحلية وبين الحكم المحلي والتي تستند إلى بعض الاعتبارات التاريخية، وقد استخدم البعض اصطلاح الحكم المحلي، ويقابلون بينه وبين اصطلاح السلطة المحلية "الإدارة المحلية".
واستخدم البعض مصطلح الحكم المحلي لمجرد الإيهام بضخامة الاختصاصات التي تمنحها السلطة المركزية للأجهزة المحلية، والتي تديرها ذاتياً وباستقلالية.
واصطلاح الحكم المحلي في واقع الأمر نشأ في بريطانيا، في ظروف تاريخية خاصة جعلت للهيئات الإقليمية اختصاصات أقوى من الاختصاصات التي تتمتع بها الهيئات الإقليمية في فرنسا( ).
وقد كان البعض من الشُرَّاح والباحثين يفرقون بين الإدارة المحلية والحكم المحلي على أساس الفروقات بين الحكم المحلي في بريطانيا والإدارة المحلية في فرنسا( )، إلاَّ أن تلك الآراء لم تكن علمية للتفريق على أساس الصلاحيات سواء أكانت اختصاصات محددة وتمارسها الهيئات المحلية في بريطانيا أم اختصاصات عامة تمارسها الهيئات المحلية في فرنسا، ومن ثم تم التخلي عن تلك الآراء وظهرت بعض الاتجاهات الفقهية للتفريق بين الإدارة المحلية والحكم المحلي على أساس أن الحكم المحلي هو نتيجة للامركزية السياسية ولا يطبق إلاّ في إطار الدولة المركبة، وهو عبارة عن جملة الصلاحيات التي تتمتع بها الدول أو الإمارات أو الولايات أو الكونتونات الداخلة في الاتحاد الفيدرالي والمنقولة لها من الحكومة الاتحادية( ).
والمعروف أن اللامركزية السياسية تعد شرطاً من شروط قيام الاتحاد الفيدرالي وليست منحة من البرلمان المركزي، وإنما تنازل من الدول أو الولايات المتحدة عن بعض وظائفها السياسية للحكومة الاتحادية مع احتفاظها بالبعض الآخر منها، فماذا يمكن أن نسمي ذلك؟ هل يمكن تسميته حكماً محلياً؟ للإجابة على هذا التساؤل يرى بعض الفقهاء أن الحكم المحلي في الدول البسيطة يتحقق عندما يتم نقل بعض صلاحيات التشريع إلى المجالس المحلية، والتي من خلالها يمكنها إصدار قرارات تشريعية تسهم في صنع السياسات المحلية، ولذلك يرى أصحاب هذا الرأي أن الإدارة المحلية تنحصر في نطاق الوظيفة الإدارية( ).
وفي تقديرنا أن أهم نقطة يدور حولها الخلاف في هذا المجال هي السلطات السياسية للهيئات المحلية في الدولة البسيطة، والتي يربطها الكثير من الشُرَّاح بمنح تلك الهيئات إمكانية إصدار قرارات تشريعية لها قوة القانون في نطاقها الإقليمي. ومن الأهمية بمكان أن نعلم أن اللامركزية السياسية هي تقاسم الوظيفة السياسية بين الحكومة الاتحادية والحكومات المتحدة، وتنحصر غالباً في الشئون الداخلية وتتضمنها قواعد دستورية على سبيل الحصر( ), بحيث لا تستطيع الحكومة الاتحادية أن تعدلها أو تلغيها بإراداتها المنفردة. ومع أن الوظيفة السياسية من أعمال السيادة، إلاَّ أنه من الصعوبة بمكان فصل الوظيفة الإدارية (الإدارة المحلية) عن الوظيفة السياسية (الحكم المحلي) وفقاً لما ذهب إليه بعض الشُرَّاح على النحو الذي تحدثنا عنه سلفاً.
وبناءً على ما تقدم لا نجد هناك أي مبرر للتفرقة بين الإدارة المحلية والحكم المحلي بحكم أن دراستهما تدخل في مجالات القانون الإداري، وللتفرقة بين الوظيفة السياسية والوظيفة الإدارية نجد أن الوظيفة السياسية تدخل في أعمال السيادة، وبذلك لا تخضع للرقابة القضائية( ) لما تكتسبه من أهمية بالغة في شئون الحكم، حيث تظل من اختصاصات الهيئات المركزية في الدولة.
على عكس ما ذهب إليه بعض الشُرَّاح الذين يربطون اللامركزية السياسية فقط بإمكانية التشريع على المستوى المحلي، أو الذين يحصرونها في الدول المركبة، مع أن الحالة الأولى نجدها في الدول البسيطة وفي ظل نظام السلطة المحلية، ففي العراق والسودان وإيطاليا مثلاً تتمتع الهيئات المحلية بحق إصدار قرارات تشريعية في مناطق الحكم الذاتي فيها( ) وفي ظل الوحدة الوطنية والسياسية للدولة، ولذلك فإن الحكم المحلي يعبر عن الإدارة المحلية ويمكن الأخذ به في الدولة المركبة والدولة البسيطة على حد سواء، ويعتمد ذلك على مدى الصلاحيات والمرونة في الاستقلالية التي يمنحها التشريع وفقاً للقناعة السياسية للهيئات المركزية، وهذه هي نقطة التباين في التطبيق بالرغم من الوحدة الموضوعية للنظامين.
كما أن اختلاف التسمية بين الإدارة المحلية والحكم المحلي لا تعكس معطيات موضوعية عن طبيعة كل منهما( ) أو طرق وأساليب تشكيل المجالس المحلية واختصاصاتها، بالإضافة إلى أن تلك التسمية لا تعكس أي معطيات تحدد نوعاً معيناً للعلاقة بين الهيئات المركزية والهيئات المحلية، ولا نجد فيهما ما يشير إلى صلاحية إحداهما لنظام حكم معين، أو لدولة بسيطة أو مركبة، متطورة أو نامية دون الأخرى، بينما الفيصل لكل هذه الأمور هو التشريع المنشئ لهذا النظام ومدى توافر المقومات الأساسية للأخذ به من بلد إلى آخر وطبيعة النظام السياسي القائم.
ومن ناحية أخرى فإنه لا يمكن اعتبار الحكم المحلي مرحلة متطورة للامركزية الإقليمية، فكلا الاصطلاحين يعبران عن أسلوب واحد، غير أن تسمية الحكم المحلي هو أكثر عراقة وانتشاراً للدلالة على اللامركزية الإقليمية أو الإدارة المحلية، والنظام المحلي الإنجليزي هو أول من عرف هذا المصطلح. وهو السبَّاق في الأخذ به وتطبيقه من بين النظم المحلية العالمية.
ونصل في نهاية هذه الورقة إلى القول مع غالبية الفقه، إن تسمية الإدارة المحلية أو "الحكم المحلي" في مجال اللامركزية الإدارية هي اختلاف في التعابير والاصطلاحات، وليس العبرة في تسمية قانون التنظيم الإداري بقانون الإدارة المحلية أو قانون الحكم المحلي( )، وإنما العبرة بطبيعة الاختصاصات التي يتضمنها القانون، وتوزيعها بين الحكومة المركزية والهيئات المحلية، ومدى حجم وطبيعة سلطة المحافظ باعتباره ممثل السلطة المركزية من جهة ورئيس الإدارات المحلية في بعض النظم الإدارية – ومنها مصر - من جهة أخرى.
النصوص القانونية لاشك في أهميتها، ولكن يجب تحليلها وبيان الاختصاصات الأصلية، وأهم من ذلك ما جرى العمل عليه من احترام للاختصاصات الموزعة طبقاً للدستور أو القانون، فإذا كانت النصوص القانونية ترجح كفة اللامركزية الإدارية في التنظيم الإداري، فإن السلطة التنفيذية "الحكومة المركزية" تملك وسائل وأساليب وأجهزة تفرغ هذه النصوص من مضمونها الديمقراطي، وبما أن تسمية الحكم المحلي قد تثير التباساً مع نظام اللامركزية السياسية، لذا بات من الأفضل اعتماد تسمية "الإدارة المحلية" كاصطلاح علمي وعملي للتعبير عن اللامركزية الإدارية الإقليمية والاستغناء عن استعمال تعبير "الحكم المحلي" أو أية تسمية أخرى قد تتعارض مع المفاهيم القانونية والإدارية التي أوضحنا ها.