أمينه المفتي - اشهر جاسوسه عربيه للموساد
( الجزء الثالث )
وقرب الظهر . . توقف أسفل مدخل الكهف سيارة جيب، ترجل منها ضابط برتبة مقدم وجنديان يحمل أحدهما حقيبة متوسطة الحجم، تحمل جهاز تسجيل متطور ذا سعة عالية. وضعها بعناية فوق قطعة صخرية مستوية بالقرب من أمينة، وانهمك الآخر في شد الأسلاك الكهربائية الى بطارية السيارة الجيب بينما وقف الضابط يقلب بعض الأوراق بين يديه، متجاهلاً الالتفات الى أمينة المفتي وسألها في صوت حاد أجش:
من هو رئيسك المباشر في الموساد؟ "ويطلق عليه ضابط الحالة". وبصوت كأنه همس الموت أجابت في وهن:
- سأموت عطشاً . . اسقني و . . .
وقبل أن تكمل الجملة رفع الضابط إصبعه، فهوى على ظهرها سوط ثقيل، ذات صداه وسط صراخها الشديد، وأجابت على الفور:
- أشيتوف . . إيرييل أشيتوف.
فقال وهو لا يزال ينظر الى الأوراق بين يديه: أين جهاز اللاسلكي ونوتة الشفرة؟
أجابته في سرعة مذهلة وهي ترمق الجندي ذي الكرباج بخوف:
- أمروني أن أضعه بصندوق القمامة أعلى شقتي ببيروت وأن أحرق أوراق الشفرة التي كانت بالمصحف.
كم تقاضيت من الموساد مقابل التجسس علينا؟
- لم آخذ سوى أربعة آلاف دولار، وكنت أنفق من أموالي الخاصة لأنهم صرفوا لي تعويضات زوجي المفقود.
هذه المرة التفت اليها الضابط وهو يصيح في انفعال: أتعودين الى الكذب ثانية أيتها المومس، وتدعين بأنك تنفقين من جيبك على الموساد؟
- صرخت أمينة في رعب: سيدي الضابط . . إنها قصة طويلة . . "أجهشت بالبكاء" وأنت لم تسألني عن البداية . . أرجوك . . اسقني وسوف أدلي باعترافي منذ بدأت القصة.
صاح فيها الضابط محتداً وهو يلوح ناحيتها بمسدسه: عندي أوامر صارمة بأن أقتلك فوراً بالرصاص، إن تأخرت في الإجابة على أسئلتي، فكوني حذرة في اختيار ألفاظك وإياك والكذب. أنبهك ثانية: إياك والكذب أيته العاهرة، فنحن نعرف عنك كل شيء. . كل شيء بالتفصيل منذ خدعك موشيه وتزوجك . . وهاجر الى إسرائيل تنفيذاً للخطة المرسومة، أفكنت تعتقدين بأنه أحبك حقاً؟ خرقاء أنت إن كنت صدقت ذلك فيهودي مثله لن يعاف حسان قومه ليقترن بدميمة مثلك.
هكذا كانت خطة الخداع الفلسطينية التي تعتمد على زرع الشك في صدر أمينة، والتلويح بوجود قصة كذب محبوكة جيداً وراء عملية تجنيدها . . ولكي يسيطر عليها الشك تماماً وهي في حالة الضعف تلك، مسلوبة الإرادة والتفكير النقي، استمر الضابط في سرد بعض التفاصيل المأخوذة عن مذكراتها.
لقد وقعت أيتها الغبية في شبكة خداع متقنة أوقعتك بها "سارة" التي هي في الأصل عميلة للموساد، واستطاع رجالنا الإجهاز عليها في فيينا، وفي إسرائيل خدعوك مرة ثانية، عندما ادعو بأن موشيه انفجرت به الطائرة فوق سوريا!
ولأنها كانت أضعف من أن تفكر . . أو تحلل ما قاله الضابط الغليظ القلب، شهقت شهقة المصدوم، وهزت بعنف رأسها المدلاة وهي تئن في غير وعي:
- مستحيل . . مستحيل أن يفعل موشيه ذلك. أنا لا أصدق . . "النفي هنا مشبع بالاستسلام والرفض معاً" كالدهر كانت تمر اللحظات القليلة، التي تذكرت أمينة أثناءها قصته منذ البداية مع سارة، وكيف شاركتها الشذوذ وجرتها الى حياة الهييبيز البوهيمية، حتى أخذتها معها الى وستندورف في زيارة لأسرتها بلا موعد.
فهناك التقت بشقيقها موشيه الضابط الطيار، فانجرفت معه بلا عقل في قصة حب مجنونة . .محرمة، تخللها الجنس الذي عشقته معه حتى أدمنته، وأسلمت اليه قياد نفسها طائعة . . بلا إكراه.
وتساءلت أمينة في نفسها، برغم رائحة الموت التي تزحف من حولها: ترى . . هل كان موشيه صادقاً في حبه . . أم أن القصة كلها مجرد خدعة لذيذة . . تقودها الى الاعدام. . ؟.
كان حديث الضابط الفلسطيني ذي الوجه الجامد يفتك بمجامع عقلها المنهك . . ويغوص بها في محيط لا آخر له من الشك. . والخيبة . . والاندحار . .ورددت في نفسها غاضبة . . "إذاً . .خدعتني سارة . . وأحكم موشيه حلقة الخداع حول رقبتي". هنا . . هنا فقط . . نجحت تماماً خطة أبي الهول في زعزعة ثقة العميلة في قصة حبها، وفقدت بذلك السيطرة على عقلها. كذلك فقدت الهدف الذي من أجله خانت وقتلت . . ودمرت، وباعت من أجله دينها ووطنها. وبضياع الهدف الرئيسي من وراء تجسسها، انقلب إيمانها بالانتقام من العرب الى هدأة رفض هي مزيج من الحسرة . . والندم. لكنها - فيما بعد - أوجدت مبررات أخرى لفعلتها، في محاولة لتسكين لسعة المرارة التي التصقت بعقلها.
رائحة العذاب والموت
كان الموقف عصيباً جداً عند أمينة المفتي. فقد أجاد العقيد أبو الهول التعامل معها بتدرج حتى أوصلها الى مرحلة الشك. . فالترنح . .وليس هناك من شيء بعد الترنح سوى السقوط. وعند السقوط يكون المرء في أقصى حالات ضعفه . . ويأسه . . وقهره . .فلا عقل لحظتئذ أو إرادة، إنما انصياع للآخرين يغلفه الخوار. وفي مذكراتها تصف أمينة بتلقائية شديدة تلك اللحظات الحاسمة من حياتها، التي عاشتها في كهف السعرانة، وجاء وصفها لتفاعلاتها الداخلية في سرد رائع صادق، يحمل كل صراعاتها من أجل الحياة. مذكرات حوتها صفحات طويلة لا يستوعبها مجلد ضخم. ضمنتها خلجات نفسها بصراحة، معتمدة على أسلوبها الشيق في الوصف والتحليل بلغة عربية بسيطة. ولنقرأ معاً ما كتبته عن مرحلة الترنح. تقول أمينة المفتي: "عشت أسوأ لحظات حياتي بعدما أطلقوا الرصاص على الفرنسية أمامي. كانت الفجيعة على عمري قاسية، والألم النازف أقصى . . وقلت في نفسي: هكذا يموت الخونة، وتصورت أنني سألقى ذات المصير، وكأنني كلب عقور لا ذكر لي . . ولا اعتبار. وتعجبت من الضابط الشرس - أبو الهول - الذي أرعبني اسمه، فهو لا يريد أن يسمع اعترافي. كان لا يثق بي بالطبع فزميله أبو داود ضج مني وفشل معي من قبل. لقد كان أبو داود طيباً ومريحاً . .أما أبو الهول فحروف كلماته طلقات رصاص. ارتعد بدني وأنا أستعيد ملامح وجهه، ووددت لو أنه جاء ثانية لاستجوابي بنفسه. فساعتئذ لن أنتظر منه سؤالاً واحداً، نعم . . قررت ألا أتركه يسألني، لأنني سأقول له كل شيء . . وبسرعة . . قبلما يثور فيأمر بإعدامي. لكن . . لم يجيء أبو الهول . . أرسل بدلاً منه ضابطاً آخر يماثله في الشراسة والقسوة. ضغط بعنف على اعصابي، أشعرني بتفاهتي . . وحقارتي ورأيت الموت يتربص بي بين أصابعه. بل كنت أراه متحفزاً في ماسورة مسدسه. كنت لا أنوي خداعه أبداً أو مراوغته، فلا حيلة أمام سهام الموت المصوبة تجاهي. لكنني . . تمنيت للحظة ألا أموت ويلقى بجسدي في العراء، وكان ذلك عندما اكتشفت أنني ضحية مؤامرة قذرة، بطلها زوجي موشيه . . وسارة والموساد. في تلك اللحظة تمنيت ألا يقتلونني . وتضرعت الى الله نعم . . الى ربي الذي عصيته وكفرت به - أن ينقذني . . لأرى موشيه - موشيه الرومانسي الرقيق الحنون الذي خدعني . . وأضاعني. كنت في حالة صراع قاسية. . صراع بين حبي لموشيه الذي بلا حدود وبين الحقيقة التي تفتك بي. واسترجعت شريط حياتي كلها في لحظة، ووقفت عند حكايتي مع موشيه. وتساءلت . . ماذا سأفعل معه لو أنه كان حياً بالفعل في إسرائيل . .؟ هل سأنتقم منه أم سأضعف أمامه وأصفح. . ؟!
سيطر الضابط المحقق على أمينة المفتي، فخضعت له في استسلام وقد خارت عزيمتها، وهوت صريعة الرعب في كهف موحش وسط الجبال . .تنبعث منه رائحة العذاب . . والموت. وفاجأها الضابط بسؤال صاعق:
- مع من مارستِ الجنس في لبنان . . ؟
بصوت مرتعش أجابت بعد لحظة تفكير قصيرة . .تسعة . . !
وكأنما أرادت تأكيد صدق إجابتها أضافت . . لبنانيان يعملان معي هما مارون الحايك ومراون عساف الموظف بشركة الهاتف، وضابط فلسطيني فشلت في تجنيده اسمه أبو ناصر وخمسة أجانب.
- هؤلاء ثمانية فقط، مَن التاسع؟
- أجابت بنبرة خجل شديدة . . خديجة زهران . . !! وهي أول من عرفت في لبنان وتملك محلاً للملابس اسمه اللوار L OIRE .
كانت تمطر دما
في كتابه الشيق "قبل الإفاقة" يقول ضابط سوفييتي اسمه ليونيد يوكوف، وهو خبير بشؤون المخابرات ومتخصص في استجواب الجواسيس والخونة.
عندما ينهار العميل المعتقل ويعترف بأول معلومة بعد جهاد، يكون كالكهل الذي يرتقي الجبل، ويجر خلفه سلسلة طويلة متصلة الحلقات تمتد بين الحصى والصخور، كلما جلس ليستريح دق بعض حلقاتها ليسهل عليه الجر.
وقد يعتقد البعض أن اعترافات أمينة المفتي التي أدلت بها لا تفي بالغرض. فالضابط الفلسطيني لم يسألها سوى خمسة أسئلة فقط. وأقول: لقد حملت إجاباتها اعترافاً صريحاً بالتعامل مع الموساد، وكذا أسماء شركائها في شبكة الجاسوسية، وعند هذا القدر الهائل من المعلومات في الاستجواب الأول. ظهر فريق من رجال المخابرات الفلسطينية يترأسهم العقيد أبو الهول، لمهمة مباشرة التحقيق مع الجاسوسة المنهارة، دون منحها فرصة واحدة للراحة أو لاسترداد أنفاسها، إنه التوقيت الذهبي لاستجلاء خفايا الأسرار التي يحملها الجاسوس المعتقل، حيث يكون واقعاً تحت ظروف نفسية وجسدية مرهقة. ومنحه فرصة - ولو قصيرة - للراحة، معناه خسارة فادحة لا تعوض، لأنه بذلك سيرتب أفكاره ويتحصن بالأكاذيب التي درب عليها واسترجعها لحظة عمل العقل المعطل.
وكان لوصول أبو الهول وقع الصدمة عند أمينة، فهو رجل بدا بلا قلب أمامها عندما أعدم الفتاة الفرنسية، وأمر برميها خلف الجبل وتحطيم رأسها بالصخور.
صرخت الواهنة المدلاة من سقف الكهوف عندما لمحت الرجل المتجهم يقترب منها، ويأمر أحد الجند بأن يعري ظهرها.
تأوهت المرأة ألماً والجندي يرخي سترتها، ولما انكشف الظهر بدت خطوط السياط الحمراء المتقاطعة في كثافة، فصرخ في جنوده بصوت جهوري أجش:
- أكنتم تدللونها يا أولاد الـ . . . ؟ أما زلتم في مرحلة الحضانة؟ .
وانهال ضرباً على الجنود الذين تناوبوا تعذيبها وهو يسبهم ويقول:
- كانت الفرنسية تمطر دماً . . أين دم هذه الـ . . . يا أوغاد؟.
ثم اتجه بوجهه ناحية الضابط الذي حقق معها وسأله:
- هل اعترفت بكل شيء؟
أجابه الضابط على الفور وهو يقف منتصباً في انتباه:
- لم تعترف بعد سيادة العقيد إنها كاذبة.
هنا . . أدركت أمينة أن النهاية قد قربت . . فاستجمعت ما بقي لديها من قوة وقالت للقائد في هلع ووهن: اعترفتُ . . اعترفتُ . . حتى بأسماء شركائي . . اسألوني وسأجيب بصراحة. لا أريد أن أموت . . أن أموت. فصمت أبو الهول للحظات مرت بطيئة . . مرعبة، ثم نطق آمراً في حسم:
أنزلوها. .
خوفاً من المطاردة
وبداخل كهف السعرانة، شرع العقيد أبو الهول في استجوابها.
ورصت عدة مقاعد خشبية على شكل نصف دائرة يتصدرها القائد، بينما جلست أمينة على الأرض بلا قيود في وضع القرفصاء، حيث بدأت تعترف بقصة جسقوطها في شرك الجاسوسية منذ البداية . . البداية الأولى في فيينا. وكانت خائرة تماماً لا تملك إلا قول الصدق . . كل الصدق أملاً في النجاة.
وجاء في ملف استجوابها أنه في يوم 12 أيلول "سبتمبر" 1975، الساعة الواحدة وخمس دقائق مساء، أُخضعت أمينة المفتي للتحقيق، وكان استجوابها برئاسة العقيد أبو الهول، وبإشراف القائد محمد داود عودة " أبو داود" كما يلي:
اسمك بالكامل. . ؟
أمينة داود محمد المفتي.?
جنسيتك . . ؟
أردنية.?
تاريخ ومحل ميلادك . . ؟
بكالوريوس علم النفس الطبي بجامعة فيينا عام 1963.?
والدكتوراة . . ؟
مزورة . . فأنا لم أكمل دراساتي العليا.?
أين ومتى تم تجنيدك في الموساد . . ؟
أنا لم أجند . لكنهم هددوني في فيينا في شهر مايو 1972.
كيف . ؟ نريد كل التفاصيل.
كنت أسعى للحصول على درجة الدكتوراة في فيينا. ولما? فشلت في ذلك تزوجت بطيار نمساوي يهودي اسمه موشيه بيراد، هو في الأصل الشقيق الأكبر لصديقتي النمساوية سارة، وكنا قد ارتبطنا معاً بعلاقة حب.
تتزوجين من يهودي وأنت المسلمة . . ؟
كانت ظروفي النفسية سيئة وتزوجته بإلحاح منه، ولم أكن أعلم أن ذلك حراماً لأنني غير متدينة.
ألم تشكين في نواياه وهو يلح في الزواج منك . . ؟
لا . . مطلقاً . . فهو كان يحبني جداً ويسعى لإسعادي? .
هل يعرف أهلك في الأردن بقصة زواجك من يهودي . . ؟
لا . . فقد عارضوني بشدة عندما أخبرتهم برغبتي في الزواج من نمساوي. وكنت قد كذبت عليهم وادعيت بأنه مسلم من جذور تركية. لذلك . . هربت مع موشيه الى إسرائيل خوفاً من أن تطاردني أسرتي.
وما هي قصة هروبكما هذه . . ؟
جائني موشيه ذات يوم - وكنا نعيش في وستندورف قبلما ننتقل الى فيينا - وبيده إحدى الصحف المحلية، وقال لي توجد بالصفحة التاسعة حكاية غريبة عن طبيب إيطالي، يغتصب مريضاته في حجرة العمليات بعد تخديرهن. ولما قرأت الصفحة لفت انتباهي إعلان بارز الى جوارها مباشرة، كان عن طلب طيارين عسكريين أوروبيين من اليهود للهجرة الى إسرائيل. وكانت المزايا المقدمة متعددة جداً ومثيرة، فتكلمت مع موشيه وناقشت الأمر معه لكنني فوجئت به لا يكترث. فغضبت منه لأنه يعرف مدى خوفي من مطاردات أهلي لي، وحالات التوتر التي لا تكف عن إرهاق أعصابي ليل نهار، وكلما وجدته كذلك ازددت إلحاحاً في مناقشة الفكرة معه، فقبلها بوقت ليس طويل كان قد حدثني عن رغبته في العمل كطيار مدني بإحدى الشركات الكبرى.
وبعدها بأيام انتقلنا الى شقتنا الجديدة بفيينا، إلا أنني كنت لازلت غاضبة ومكتئبة وخائفة. وكثيراً ما صحوت من نومي هلوعة مضطربة، وأجدني لا أهدأ إلا بعدما أبكي بحرقة، فكان حالي يؤرقه ويضايقه. ولما وافق على مناقشة فكرة الهجرة لإسرائيل، سألني عن قناعتي فأجبته بأن إسرائيل هي المكان الوحيد الذي سأحس فيه بالأمان لأن أهلي لن يتوصلوا الي. فقال إنه يخشى أن يرفضوا طلب الهجرة لأنني مسلمة . . وأردنية، فقلت له وكيف نضمن الموافقة؟
فقال بأن تتهودي . . ولما وافقت اصطحبني الى معبد شيمودت حيث تم تعميدي وأصبحت يهودية.
قد استدل عليه
هل كنت تكرهين كونك عربية . ؟
كنت أكره مظاهر التخلف في بلادي.?
هل عدم اكتراث موشيه بالإعلان الذي جاء بالصحيفة يوحي لك بشيء الآن. . ؟
ربما كان يدفعني لأن ألح أكثر فأكثر . . أو أنه كان? يرغب العمل كطيار مدني .
هل موشيه كان يهودياً متديناً . . ؟ وهل كان يحب إسرائيل. . ؟
لا . . لم يكن متديناً. فنادراً ما كان يذهب الى? المعبد. لكنه كان يحب إسرائيل ويفتخر بتلطف بتفوقها وتقدمها.
وسارة . . ؟
كانت مجنونة بإسرائيل، وتصطاف بها كل عام.?
هل استدعتك جهات أمنية في فيينا قبل هجرتكما لإسرائيل . . ؟
لا .?
نعم . اصطحبني ضابطان الى? وهل حدث ذلك في إسرائيل . . ؟ جهة أمنية لا أعرفها في تل أبيب.
ماذا حدث معك هناك . . ؟
برروا لي حروبهم مع العرب، وأنهم يدافعون عن وطنهم ولا يبغون عدواناً على أحد، وأنهم يسعون الى السلام.
هل اقتنعت . . ؟
كنت أقول لهم ذلك . . لكنني لم أكن مقتنعة بما يقولون. "كانت تكذب . . فهي نسيت عروبتها وتحولت الى يهودية قلباً وقالباً . . ".
كم مرة استدعيت لمكتب الأمن . . ؟
مرة واحدة . . لكن ضابطاً اسمه أبو يعقوب كان يزورنا دائماً ويجلس معي كثيراً ليؤكد تبريراته.
ما هو اسمك الرسمي في أوارقك الإسرائيلية . . ؟
آني . . آني موشيه بيراد.?
متى خبرت بسقوط طائرة زوجك موشيه بيراد . . ؟
في 11 أبريل 1972.?
من أخبرك . . ؟
أبو يعقوب.?
هل قال لك أنه مات . . ؟
لا . . أخبرني أن السوريين أسقطوا طائرته، ولم يعلنوا بعد عن أسره، بما يعني أنه ربما هرب.
هل طلبوا منك التوجه الى سوريا ولبنان للبحث عنه . . ؟
ليس صراحة . . لكنهم أوحوا إلي أنه ربما التجأ الى أحد الكهوف الجبلية بسوريا في انتظار النجدة، أو أن إحدى المنظمات الفلسطينية المنشقة عن منظمة التحرير تحتفظ به سراً للمساومة عليه. ولما أنبأوني بأنهم يبحثون عمن يتقصى أخباره، طلبت منهم أن أقوم بنفسي بالمهمة، وعلى ذلك سمحوا لي بمغادرة تل أبيب الى فيينا بجواز سفري الإسرائيلي، والسفر الى بيروت من هناك كأردنية.
هل دربت على كيفية تقصي المعلومات للبحث عن زوجك . . ؟
لا . . هم فقط طلبوا مني الاحتراس والحذر.?
وكيف جندت بعد ذلك . . ؟
أنا لم أجند . . فقد استدعوني الى فيينا وتقابلت مع ثلاثة إسرائيليين من جهاز المخابرات، أقنعوني بأنهم جاءوا لتسهيل إجراءات إرث زوجي والتعويض الذي تقرر له.
صرف تعويض يعني أنه مات بالفعل. فعلام كان سفرك إذن لبيروت . . ؟
لم أكن أعرف ذلك بالضبط . لكنهم نصحوني بتقصي أخبار المنظمات الفلسطينية في بيروت فقد أستدل عليه.
تستدلين عليه في بيروت أم في دمشق . . ؟
من خلال المنظمات الفلسطينية في بيروت.
ضمانات الولاء
وكيف تدربت للقيام بتلك المهمة. . ؟
لمدة شهر وأربعة أيام في فيينا علموني كيف أكتب الرسائل بالحبر السري، وأظهر الرسائل الواردة الي منهم، وأساليب التشفير والتصوير، وتلقط الأخبار والالتزام بالحس الأمني، وتحميض الأفلام والهرب من المراقبة، والتمييز بين الأسلحة وأساليب إثارة المتحدث ليفشي أسراره. واستقدموا لي من إسرائيل أحد الضباط المتخصصين في تقوية الذاكرة وتخزين المعلومات والأرقام والأسماء والصور "الاعتراف بالتجسس واضح جداً هنا . . ".
إذن كان المطلوب منك تقصي أخبار الفلسطينيين وليس تقصي أخبار زوجك . . ؟
تقصي أخبار الفلسطينيين بغرض تسقط المعلومات منهم عن موشيه. "وهنا كانت تحاول المراوغة".
هل حددوا لك مهام بعينها . . ؟
نعم . . طلبوا مني التحري عن مقار إقامة القادة الفلسطينيين، والتغلغل داخل رجال المقاومة لمعرفة أخبارهم.
ماذا كانوا يريدون بالضبط . . ؟
كانوا يريدون معرفة الطريق التي يسلكها الفدائيون للتسلل الى إسرائيل، وأعدادهم، وتدريبهم، وأسلحتهم، ومواعيد هجماتهم المرتقبة، وكذلك مخازن الأسلحة والإعاشة.
قلت إنهم هددوك في فيينا في مايو 1972 . . كيف . . ؟
قال لي أحدهم إنني الآن وحيدة لا حول لي، وأن المخابرات الأردنية تسعى ورائي، ولأنني أصبحت يهودية ومواطنة إسرائيلية، فهم سيعملون على حمايتي مهما كلفهم الأمر. فكان المطلوب مني أن أستغل هويتي الأردنية للسفر الى بيروت حيث لن يشك الفلسطينيون بي.
فوافقت على التعامل معهم من أجل حمايتك أم لإنهاء موضوع الإرث والتعويض . . ؟
من أجل حمايتي . . فقد كنت خائفة من المخابرات? الأردنية. "!!"
لذلك تسلمت أربعة آلاف دولار فقط من الموساد وتنفقين من جيبك كل تلك المدة . .؟
. . . . . (!!).?
أين تدربت على استعمال اللاسلكي . . ؟
في تل أبيب.?
متى . . ؟
في الفترة من 20 سبتمبر الى 3 أكتوبر 1973.?
من قام على تدريبك . . ؟
ضابط مهندس اسمه يوسف بن بورات.
هل 13 يوماً تكفي لتدريبك على استعمال اللاسلكي . . ؟
كان الجهاز تقنياً متقدماً جداً . . وبسيط في طريقة بثه وإرساله.
ما سر صفحات المصحف الناقصة . . ؟
كانت توجد مكانها أوراق الشفرة.?
كيف تعرفت بمارون ومانويل . . ؟
عرفتني عليهما خديجة زهران.
وكيف جندت الثلاثة لمعاونتك . . ؟
تعرفت أولاً بمانويل ثم جائني بمارون بعد ذلك . .?
هل مارسا الجنس معك . . ؟
نعم . . وكان ذلك قبل أن يعملا معي.?
هل نصحك ضباط الموساد بذلك . . ؟
لا . . فعلت ذلك لأضمن ولاءهما لي.
هل خديجة زهران شريكة لك منذ البداية . . ؟
لا . . لم تكن تعرف بمهمتي إلا منذ فترة وجيزة. لكنها ساعدتني قبل ذلك عن غير قصد.
كم أنفقت على شركائك الثلاثة من أموال . . ؟
لا أدري كم بالضبط. لكن مارون تسلم مني ما يزيد عن الثلاثة آلاف ليرة قبلما ينضم لي.
تقصدين قبل أن يكتشف أنه يعمل لصالح الموساد. وماذا قدم لك مارون . . ؟
عرفني بـ علي حسن سلامة، وجاءني بأرقام التليفونات السرية للزعماء الفلسطينيين.
كان يشاركه . وكان مارون مسؤولاً عنه.? ومانويل . . ؟
وما دور خديجة معك . . ؟
كانت تمدني ببعض المعلومات التي تجلبها من زوجات الضباط الفلسطينيين من المترددات على محلها.
امرأة بلا وطن
هل طلب منك رجال الموساد اغتياله . . ؟
لا . . مطلقاً. لم يطلبوا مني ذلك . لكنهم أمروني أن أوطد علاقتي به وأقوم بتصويره.
وهل فعلت ذلك . . ؟
نعم . . فهم كانوا يجهلون ملامحه وكانوا يلحون في ذلك.
كم تقاضى منك أبو ناصر . . ؟
أبو ناصر . . ؟ إنه لا يعرف أي شيء. كنا أصدقاء فقط.?
هل مارس معك الجنس . . ؟
ثلاث مرات فقط ثم اختفى وعلمت بعد ذلك أنه سافر للعمل في قبرص.
من هم الأجانب الخمسة الذين ضاجعتهم . . ؟
إنهم رجال من جنسيات مختلفة يعملون للموساد، وكانوا يجيئون إلي ليتسلموا الأفلام والخرائط التي بحوزتي.
هل تدلينا عليهم . . ؟
أنا لا أعرف أسمائهم الحقيقية، فهم يتعاملون معي بأسماء حركية، ويتصلون بي دون أن أعرف مكانهم.
وأين كانت تتم لقاءاتكم الجنسية . . ؟
في شقتي ببيروت.
هل بينهم عرب . . ؟
مغربي قال لي إن اسمه عازار وكان يعيش في تطوان.
هل زرعت أجهزة تنصت بمكتب ياسر عرفات . . ؟
كانوا يفكرون في ذلك عندما كنت بإسرائيل . . لكنني لم أفعل.
ما الدور الذي قمت به لمحاولة اغتيال القائد أبو إياد في أكتوبر 1973؟
أبلغت الموساد عن الموقع العسكري الذي كان يتفقده، وقد كنت أحمل يومئذ جهاز اللاسلكي بحقيبتي، وأتابع عن قرب الطائرات الإسرائيلية وهي تضرب الموقع. "أجهشت بالبكاء" سيدي أبو الهول . . كنت لم أزل بعد غبية حمقاء، أجرمت في حق وطني وعروبتي . . وديني. وارتكبت أفظع الجرائم لأنني كنت مهددة . . شريرة لا وطن لي. لقد صدقتهم وآمنت بما كانوا يقولونه دون أن أحترز أو أفكر . . وأتحسس الطريق الصواب، ولم يكن أمامي سوى الانصياع لأوامرهم خوفاً على حياتي. فهم زرعوا الخوف بداخلي من المخابرات الاردنية . . لا . . بل ومن أجهزة المخابرات العربية كلها التي تطاردني لتغتالني، ولم يكن لي مأوى سوى في إسرائيل. هكذا أوهموني وأخافوني . . وكنت مغيبة الوعي لا أدري أين هي الحقيقة، أو لأي طريق أقاد.
سيدي . . لقد كنت أمدهم بالمعلومات ليس حباً في إسرائيل أو كراهية بالعرب، بل لأجل أن أضمن وطناً يأويني ويحميني، بعدما ضيعت نفسي بغبائي . . ووقعت أسيرة مؤامرة أحبكت إسرائيل حولي شباكها بمساعدة سارة وموشيه. "أمينة هنا تحاول كسب عطف المحقق ليس إلا".
. . كان هذا ملخصاً شديداً ومختاراً لملف استجواب أمينة المفتي، الذي احتوى على اعترافات تفصيلية بعملياتها في بيروت، وبأسماء رؤسائها في الموساد، ودور كل منهم في إعدادها وتوجيهها، وكذلك عن دور أعضاء شبكتها المحليين الثلاثة الذين عاونوها في مهمتها التجسسية. حيث انتهى التحقيق المبدئي معها الذي استمر ستة عشرة ساعة متواصلة، قبل انتهاء المهلة المتفق عليها بين أبو إياد ووزير الداخلية اللبناني بواحد وعشرون ساعة.
وفي صفحة منفصلة بمستهل الملف كتب العقيد أبو الهول : "الجاسوسة أمينة المفتي أُخضعت تماماً لسيطرة كاملة وقانعة بوجود زوجها موشيه حياً، وأنه أقدم على خداعها قصداً خمة للموساد".
لسعة الخوف
حمل العقيد أبو الهول ملف استجواب أمينة المفتي الى قائده أبو داود، الذي خطط بمهارة للإيقاع بها، وبدوره وضع الملف الساخن أمام ياسر عرفات ومساعده الأول أبو إياد لتقرير مصيرها . . امتعض أبو إياد أسفاً وقال:
يا لها من امرأة شريرة، لم تكتف بما فعلتهبنا فأرادت قتلى.
وربت على كتف رئيس مخابراته - علي حسن سلامة - وهو يقول:
نشكر الله على أنك وفقت في كشفها، فوجود حية كهذه بيننا كان سيكلفنا الكثير.
أما ياسر عرفات - أبو عمار - فقد علق قائلاً:
لن تكف إسرائيل عن زرع الخونة بين صفوفنا، فلا تأمنوا كل متطوع وافد، ولا تغرنكم حماسة الغرباء ، وقبل أن يشرق صباح الثالث عشر من سبتمبر 1975، كانت هناك ثلاث سيارات إسعاف تخترق شوارع بيروت، بداخل كل منها خمسة مسلحين أشداء من رجال المخابرات الفلسطينية - رصد - في مهمة جد خطيرة. تتجه السيارة الأولى الى شارع الخرطوم حيث يقيم مارون الحايك، وتتجه الثانية الى شارع أرواد عند سوق الطويلة حيث مانويل عساف أما الثالثة فكانت تقصد منطقة باب إدريس لاعتقال خديجة زهران. لقد استقل المسلحون الخمسة عشر سيارات الإسعاف بغية إتمام مهامهم بسلام، في وقت كانت فيه بيروت أشبه بساحة حرب شاسعة، تشتعل بنيران الفتنة الطائفية كل بقعة فيها، إذ تحولت بيروت من الحب الى الحرب، وصار وطن الجميع مذبح الجميع. وامتلأ وجه المدينة الجميلة بالندوب والتشوهات والجماعات المسلحة، التي بلغ عددها ما يزيد عن 39 تنظيماً. ففي بيروت الشرقية يتواجد الكتائب، ونمور الأحرار، وحراس الأرز، والطاشناق، والمردة. . الخ
وفي بيروت الغربية هناك المرابطون، ونسور الثورة، وحركة التحرير، وحركة صلاح الدين ، و . . طابور طويل من القبضايات المسلحة. لقد بدا أن التعايش الطائفي لم يكن سوى نزاع مستمر وتراكم خفي للأحقاد، انفجر بشكل مذهل، وجرى التسابق بين الطوائف من أجل السيطرة السياسية للعائلات الروحية. واستمر الخلط بين السياسة والدين في ذهنية الفرد والجماعة، وتحولت لبنان الى مارونية عند الموارنة، وشيعية عند الشيعة، وسنية عند السنة، ودرزية عند الدروز، وحتى آخر طائفة صغيرة في لبنان. أما الفلسطينيون . . فقد ظلوا بعيداً عن رحى الحرب الأهلية، وتشغلهم المقاومة المسلحة ضد العدو الصهيوني، وتنظيم صفوفهم من أجل استمرار الكفاح، والبحث عن خونة استباحوا أسرارهم وباعوها لليهود.
وعندما وصلت السيارة الأولى لمنزل خديجة زهران، كانت هناك مفاجأة مدهشة تنتظر الرجال الخمسة، إذ عثروا عندها على مانويل عساف عارياً في فراشها، لم ينتبه لصوت فتح الباب بخفة ووقوفهم على رأسه، بينما كانت سيدة البيت في الحمام، شغلها انسكاب الماء المنهمر على جسدها في البانيو عن معرفة ما يدور وراء الباب. لقد انهار مانويل لمرأى الرجال الخمسة، وأدرك في الحال ما جاءوا لأجله، أما خديحة فقد صرخت عندما فوجئت بأربعة منهم يسحبونها من حمامها الدافئ، ويسترون الجسد العاري بشال أحدهم. ويأمرونها بارتداء ملابسها على عجل. انتهز مانويل عساف انشغال الأربعة، وعرقل زميلهم الخامس وجرى مسرعاً الى شباك الغرفة، وقبل أن يتمكن من الإمساك به قذف بنفسه من الطابق الخامس.
ووجد بجوار المنزل منكفئاً على بطنه، يرتدي روباً أحمر بلا أزرار . . وجورباً قطنياً (!!) هكذا نأى بنفسه عن المصير الذي كان ينتظره . أما رفيقة مارون الحايك فقد استسلم خائراً وهو يرتجف رعباً وهلعاً، واقتيد مع خديجة زهران الى الجنوب بعيداً عن الحرب الأهلية، حيث الجوع والعطش . . وصراخات الخوف والندم بكهف السعرانة الموحش . . الرهيب.
عالم غريب . . غريب
انكمشت أمينة المفتي في ذعر عندما علق رفيقاها في الخيانة - مارون وخديجة - بسقف الكهف على مقربة منها، تنهال على جسديهما الكرابيج كالمطر، فيملأ صراخهما جوف الكهف، ويتموج صداه في تداخل يصم الآذان. لقد كان تعذيبهما بشدة أمراً حتمياً لقتل إرادتيهما، وللنأي بهما عن الكذب والمراوغة عند الاستجواب. فالمطلوب منهما هو الإفصاح عما نقلاه الى أمينة من معلومات، والاعتراف على آخرين تعاونوا معهما. سواء أكان ذلك عفوياً، أم بنية القصد والتعامل بأجر. أما أمينة التي تهتك جسدها بفعل التعذيب، فقد رأى القائد أبو داود حرمانها من النوم والطعام، ومنحها قطرات قليلة من الماء تبلل بها حلقومها المتشقق، لتعترف خلال الاستجواب الثاني المفصل، بكل ما نفته من أسرار ومعلومات الى الموساد، ليتمكن الفلسطينيون من تعديل خططهم واستراتيجيتهم على ضوء ما تم نقله للإسرائيليين، وكذا . . تحليل نوايا العدو ومقاصده. فالمتعارف عليه أن أجهزة المخابرات في العالم أجمع، تعيد استجواب الخونة والمنشقين مرات ومرات، دون الاكتفاء بمرة واحدة، إذ إن القصد من ذلك عصر العملاء وتفريغ ما بعقولهم، اعتماداً على الإرهاق البدني والمعنوي. فالاستجواب المتكرر يميط اللثام عن الكثير من الأسرار والخبايا، ويظهر صدق الاعتراف من عدمه بتكرار الإجابات نفسها. فالعقل البشري مهما لقن من معلومات مكذوبة لن يستطيع ترديده مرات ومرات دون خطأ، لكن هناك حالات شاذة جداً لجواسيس استطاعوا التماسك، والإصرار على صدق ما ادعوه حتى النهاية.
أشهرهم على الإطلاق جاسوس الموساد في القاهرة "وولفجانج لوتز" الذي اعتقل عام 1965 هو وزوجته وأخضع لتعذيب مكثف بما فيه حرمانه من الإحساس وبلوغه حد الجنون، لكنه صمد وأصر على القول إنه ألماني، ولم تتكتشف حقيقته إلا بعدما عرضت إسرائيل مبادلته بأسرى مصريين عام 1967.
لقد كان من المهم إعادة استجواب أمينة المفتي، خاصة بعد إخضاع اعترافات مارون الحايك وخديجة زهران للتحليل الدقيق. فهي عميلة من نوع خاص، درست علم النفس وقرأت في فروع الفلسفة، بل وعشقت السوفسطائية ومحاورات سقراط التي كتبها أفلاطون، وتحفظ مقاطع كاملة من محاوره أقريطون، وضبطت لديها كتب لسارتر، وديكارت، وفريدريك نيتشه وآخرين غيرهم . . فكانت قراءاتها التي هي مزيج من الثقافات والاتجاهات، أداة طيعة للدفاع والتماسك وانتقاء الألفاظ. لكن "أبو داود" الذي استعد لها جيداً، لم يكن ليصدق أبداً بعد ذلك، أن عميلة الموساد المدربة، والأكثر ثقافة وقدرة على الإقناع والمحاورة، استحضرت كل ما بجعبتها، وقذفت به أمامه دفعة واحدة، دون أن تدخر وسعاً لإخفاء أي شيء ولو كان تافهاً. ذلك لأنه أجاد بدراسته لشخصيتها، واختياره للأسلوب الأمثل هو ورجاله في التعامل معها، ألا وهو أسلوب الاقتناص الذي يعرف في عالم المخابرات بالمباغتة، ويعتمد على دراسة علم الأسباب اعتماداً كلياً وهذا المنحى في خطط استجواب الخونة الذي اتبعه أبو داود ورجاله في المخابرات الفلسطينية، يدل دلالة قوية على عمق وعي رجال مخابراتنا العربية، وقدرتهم الفائقة على استغلال العلوم النفسية المعقدة في عملهم الشاق، للتعامل مع شتى أنواع الخونة، والعملاء المهرة الذين تدربوا في أكاديمية الموساد. وبينما كانت خديجة زهران تدلي باعترافاتها، تفجرت مفاجأة عجيبة أدهشت ضباط رصد، عندما وقفوا على سر سقوطها في شبكة أمينة التجسسية
نساء أوروبا
وجاء في محضر استجواب خديجة زهران
اسمك بالكامل .. وعمرك ..؟
خديجة عبد الله زهران 38 عاماً
جنسيتك ..؟
أردنية الأصل وأحمل هوية لبنانية. صاحبة محل لوار للملابس في بيروت.
كيف تعرفت بأمينة المفتي ..؟
تعرفت عليها عندما جاءت لتبتاع ملابس لها، ومن لهجتها عرفت أنها أردنية مثلي
كيف توطدت علاقتكما ..؟
كانت تزورني دائماً بالمحل وتحولنا الى أصدقاء
هل تعرفت من خلالك بالمدعو مارون الحايك ..؟
لا .. بل بمانويل عساف وهو الذي عرفها بالحايك.
وما سبب ذلك..؟
كانت بحاجة الى تليفون بشقتها، فطلبت من مانويل مساعدتها لأنه موظف بالمصلحة
هل كان مانويل عشيقاً لك وقتها ..؟
لا .. كانت زوجته زبونة لمحلي .. و كان يجيء معها أحياناً فتعرفت عليه.
وكيف تطورت بينكما العلاقة الى جنس ..؟
طلبت مني أمينة ذلك لإسكاته عنها.
كيف ذلك ..؟
كان يغار من الحايك ويغتاظ لأنها فضلته واتخذته عشيقاً.
هل كنت على علم بنشاط أمينة التجسسي منذ البداية ..؟
لا ..لم أكن أعرف ..و مانويل هو الذي أخبرني بذلك أثناء سكره
لماذا لم تبلغي السلطات الأمنية بالأمر ..؟
أردت استغلال أمينة مادياً لأنني كنت مدينة بمبلغ كبير للبنك.
وكيف حدثت المواجهة بينكما ..؟
كنا بشقتي عندما فاتحتها بما قاله مانويل، ولأنها تعلم جيداً بتعثراتي المالية .. أنكرت، وأخرجت دفتر الشيكات وأعطتني شيكاً بثلاثة آلاف ليرة على سبيل القرض.
كم كانت ديونك للبنك ..؟
حوالي ستة عشر ألفاً.
وهل ثلاثة آلاف ليرة تكفي لإسكاتك ..؟
وعدتني بخمسة آلاف أخرى، وعرضت علي الشراكة دون الإدارة.
قالت أمينة أنك مارست معها الجنس مرات كثيرة.
لا .. لا .. هي التي جرتني لأفعل معها ذلك لكي تضمن سكوتي.
كيف و لماذا..؟
قبلما أطلق من زوجي الثاني كنت أشكو لها عدم ارتياحي معه. و ذات يوم طلبت مني أن أزورها بشقتها، ولما ذهبت اليها تكلمنا عن الجنس، وأخذت تغريني بأن نفعل معاً كما تفعل النساء في أوروبا. و بعد عدة لقاءات في شقتها فوجئت بها تهددني بأفلام صورتها لي معها ومع مارون الحايك. و طلبت مني أن أعطيها عشرين ألف ليرة، وإلا فستفضحني أمام زوجي وأهلي.
ثم ماذا ..؟
قبلت قدميها أرجوها ألا تفعل، ولما أصرت هددتها بأن أخبر السلطات الأمنية عما ذكره مانويل، فسخرت مني وقالت: سأفضحك إن لم تجيئيني بالنقود مساء اليوم. لقد كانت تعرف أسرتي، وتعلم بأن والدي وأخويّ متدينون وسيقتلونني حتماً إذا ما رأوني في تلك الأوضاع المخلة. و لما عجزت عن إقناعها طلبت مني أن أعمل معها بأجر. و أن مهمتي تتلخص في مصادقة النساء المتزوجات من ضباط فلسطينيين، واستدراجهن للخوض في السياسة والأسرار العسكرية.
وهل وافقت هكذا بسهولة ..؟
لا .. ابتعدت عنها لعدة أيام لأفكر، وكنت على وشك إبلاغكم لكنها حاصرتني وهددتني بقسوة، فاضطررت الى إعلان موافقتي لإسكاتها.
جامبون
كيف بدأت العمل معها ..؟
شرحت لي طريقة التعرف بالنساء الفلسطينيات ومصادقتهن، ومكثت معي بالمحل عدة أيام لتراقبني.
كم زوجة فلسطينية تعرفت بها..؟
لست أدري .. ربما أكثر من أربع عشرة زوجة. "يوجد سرد طويل لأسماء ومعلومات مختلفة".
كم ليرة حصلت عليها لقاء عملك ..؟
سبعة آلاف ..أو ثمانية.
هل التقيت بأحد من أعوانها من الأجانب ..؟
مرة واحدة. جاء أحدهم ليتسلم مظروفاً كبيراً تركته أمينة.
ماذا كان به..؟
لا أدري .. فقد كان مغلقاً بالسوليتيب، ولم تخبرني أمينة عما به.
هل كان عربياً ..؟
لا .. إنه أجنبي ولهجته فرنسية.
ماذا قال لك..؟
قال لي كلمة السر المتفق عليها: جامبون. "و هو اسم شائع يطلق على لحم فخذ الخنزير المحفوظ".
وكيف تعرفت عليه ..؟
كان يدخن البايب وله شارب دوجلاس أصفر، وقد أخبرتني أمينة عن أوصافه مسبقاً.
هل تعرفين أبو ناصر ..؟
أعرف زوجته سندس ولم أره أبداً.
كيف نشأت علاقة أمينة به ..؟
جلبت لها رقم تليفونه في صيدا من زوجته.
ولماذا رغبت أمينة في التعرف اليه ..؟
لأن زوجته أخبرتني الكثير عن بطولاته وعملياته الفدائية في الجنوب، واهتمت أمينة بمصادقته.
متى أخبرتك أمينة بأن "أبو ناصر" ضالع معها في التجسس ..؟
لم تخبرتي عن ذلك، وإنما أكدت لي بأن الضابط الفلسطيني "وطني أكثر من اللازم".
هل صدقتها ..؟
نعم .. فقد كانت تكرهه، وتطلب مني دائماً استدراج زوجته في الحديث لمعرفة أخباره.
انتهت اعترافات خديجة زهران، حيث أدلت بأدق تفاصيل علاقتها بأمينة المفتي، وبزوجات الضباط الفلسطينيين في بيروت. أما مارون الحايك المذعور فقد أوضح الكثير عن ملابسات علاقته بأمينة، وعثر ببيته على قائمة طويلة تحوي الأرقام السرية لتليفونات قادة المنظمات الفلسطينية، إضافة الى ملف كبير يتضمن خلاصة تجسسه على تليفوناتهم خلال فترة اعتقال أمينة. فقد كان يود تقديمه لزعيمته عند عودتها لتمنحه آلاف الليرات، وتغرقه في بحر النشوة عدة ليال. أما الشيء العجيب حقاً فقد وقع بين أيدي رجال المخابرات الفلسطينية، وشريط تسجيل أخفاه مارون بجيب سري بإحدى الحقائب، لمحادثة تليفونية كاملة بين علي حسن سلامة وأبو داود، وفيها تفاصيل كثيرة عن أمينة المفتي المعتقلة آنذاك ببيروت، هذا الشريط لم يقم مارون بتفريغه أو الاستماع اليه، و لو أنه كان قد فعل ذلك لأدرك الخطر وهرب بجلده ومعه شريكاه. لكنه اعترف بأن هذا الشريط هو الوحيد الذي لم يفرغ وعندما قام بتسجيله كان منهمكاً في التنصت على مكالمة أخرى بين ياسر عرفات ونايف حواتمة.
وبانتهاء التحقيق مع خديجة زهران ومارون سلما الى السلطات اللبنانية لمحاكمتهما، طبقاً لقانون العقوبات الذي عُدل في 28 يناير 1975، وجاءت مواده الجنائية مائعة وغير رادعة.
أما أمينة المفتي .. فقد امتنع الفلسطينيون عن تسليمها للبنانيين، حيث قرروا لها مصيراً آخر، ولم يستجيبوا لضغوط وزير الداخلية اللبناني لمحكامتها. و أمام الرفض التام لذلك .. اضطر الوزير لنسيان الأمر برمته. فقد كان يدرك بأن هناك نهاية مأساوية تنتظر عميلة الموساد على أيدي الفلسطينيين. وعلى ذلك .. ظلت الجاسوسة العربية مقيدة بكهف السعرانة، يفتك بها الرعب ويغلفها الهلع..!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق