أخطر جاسوسة في تاريخ العرب أمينة المفتي
أحبت يهوديا ... فباعت الوطن ..!
الجزء الثاني
أسفرت عملية تجنيد مارون الحايك عن فائدة عظيمة لإسرائيل . . إذ أن التجسس المستمر على مكالمات القادة وزعماء الجبهات الفلسطينية، كشف نواياهم تجاه الدولة العبرية، وخططهم الفدائية للضرب داخل الأراضي المحتلة. ولم تكن الأحاديث التليفونية المتداولة من خلال التليفونات السرية أحاديثاً مكشوفة تماماً، يستطيع المتنتصت عليها إدراك مضامينها بسهولة، إنما اعتمدت على أسلوب التمويه والشفرة الكلامية التي تتطلب مهارة عبقرية لفهمها. وثقة في اللبنانيين، كان زعماء الجبهات أحياناً كثيرة ينسون أنفسهم ويتحدثون علانية فيما بينهم صراحة، أو مع مساعديهم ظناً منهم - وهذا خطأ كبير - أن التجسس على محادثاتهم أمر مستحيل. فالدوائر التليفونية المغلقة كانت محددة بكل منظمة، والاتصال بالمنظمات الأخرى في بيروت نفسها يتم بواسطة خطوط شبكة المدينة. وكذا الاتصال بخارج المدينة، وكانت السرية خاضعة للخدش عن طريق زرع أجهزة التنصت . . أو استراق السمع بأسلوب مارون الحايك، من خلال الغرفة السرية التي أقامتها الميليشيا المسيحية في لبنان للتجسس على المسلمين . . وعلى الفلسطينيين أيضاً الذين اتخذوا من حي الفكهاني مقراً لهم، فكان بمثابة عاصمة فلسطينية وسط بيروت وجنوبها. فبالحي الذي يقع بالقرب من مخيمي صبرا وشاتيلا، أعدت منظمة التحرير مكاتبها بطريقة عشوائية حول مبنى جامعة الدول العربية. وأقام قادتها في مبان مجهولة تحت حراسات مشددة. فالمنظمة التي أسسها عرفات - خريج هندسة القاهرة 1956 - أكثر من مجرد مقاومة شعبية . . بل جيش مسلح مدرب، يتربص بإسرائيل لضربها في الأعماق.
كانت أمينة المفتي تدرك ذلك جيداً . . وترى بنفسها الرقابة القوية الصارمة التي تفرضها كبرى المنظمات الفلسطينية - فتح - على منشآتها في حي الفكهاني. . والحراسة المكثفة التي حول مقر عرفات كلما ذهبت لمقابلته. وعندما اتصل بها مارون الحايك قبل الفجر بقليل، فتحت على الفور جهاز اللاسلكي صباح يوم 23 مايو 1974، وبثت الى الموساد رسالتها الخطيرة: (آر. كيو. آر. بعد 37 دقيقة من الآن - سيهاجم ثمانية من الفدائيين المتسللين مستعمرة زرعيت . . تسليحهم رشاشات كلاشن وقنابل 57 ملم/ م.د. نفيه شالوم) وبالفعل . . صدقت المعلومة تماماً . . وأطبق الاسرائيليون على الفدائيين الثمانية، فقتلوا ستة منهم وأسروا اثنين. وعندما كانت أمينة المفتي تتجسس بنفسها على مكالمات القادة الفلسطينيين، اقتحمت الخط السري الخاص بمكتب جورج حبش (1). لاحظت بعد عدة مكالمات له، أن هناك ترتيبات عسكرية يتم إعدادها بشكل سري، حتى انفجر الحوار ساخناً جداً بينه وبين أحد مساعديه في صيدا. حيث بدا جورج حبش منفعلاً أشد الانفعال، وهو يأمر مساعده بإتمام العملية يوم 13 يونيو. وفي غمرة انفعاله نطق اسم كيبوتز شامير (2) سهواً. لم تهمل عميلة الموساد الأمر. وأبلغت رؤسائها على الفور بما سمعته. وبعد ثلاثة أيام كان هناك خمسة من الفدائيين القتلى على مشارف قرية كيبوتز شامير، بوغتوا قبلما يستعملوا رشاشاتهم الآلية. وفي 27 يونيو 1974 - لقى ثلاثة فدائيين آخرين مصرعهم، بعدما قتلوا أربعة من الجنود الإسرائيليين في نهاريا.
لقد كانت الطائرات الاسرائيلية ترد بوحشية إثر كل عملية فدائية. فتدك المواقع الفلسطينية في الجنوب، من معسكرات ومخيمات ومحطات تموين ومراقبة. وتضرب كل ما هو فلسطيني على أرض لبنان. وكانت المعلومات التي أمدت بها أمينة الموساد، تلك التي تكشفتها من خلال غرفة السنترال السرية، هي بلا شك معلومات حيوية للغاية، لا تحتمل التأويل أو الشك. . تجيء عبر أحاديث صاعنعي القرار أنفسهم . . من أعلى مستويات القيادة الفلسطينية. إنها سلسلة طويلة من التبليغات التي أودت بحياة العشرات من الشباب الفدائي المكافح أشعرت أمينة بأهمية دورها . . وقوة مركزها، دون إحساس ولو ضئيل بالندم . . بل ازدياد مستمر في حدة الغضب . . لضراوة الثأر لفقد زوجها الحبيب موشيه.
الأصدقاء الجدد
كانت الحكومة الاسرائيلية مصممة على تدمير البنية العسكرية الفلسطينية في جنوب لبنان، وكانت جهودها لمتابعة مصالحها في لبنان تشمل دبلوماسية سرية. فقد حدث اتصال وثيق بين الموساد وميليشيات لبنان المسيحية - الكتائب - منذ ذلك العام - 1974 - حين كان الزعماء المسيحيون يخشون فقدان السيطرة التي يتمتعون بها، عندما شكل منافسوهم المسلمون اللبنانيون ائتلافاً مع الفلسطينيين الكثيرين في لبنان، فزادوا بذلك قوة . . ونفوذاً. وبدأوا يطالبون بنصيب أكبر في الفطيرة السياسية. لكن السياسيين المسيحيين رفضوا أية إصلاحات في نظام يناسبهم كثيراً . من هنا .. تم إقناع زعيمي الميليشيا المسيحية، كميل شمعون وبيار الجميل، بالدخول في اتصالات سرية مع الدولة اليهودية. وقد عقد شمعون - الذي كان رئيس جمهورية سابق، والجميل - وكان وزيراً - محادثات سرية مطولة مع إسحاق رابين رئيس وزراء إسرائيل، بغية الحصول على مساعدات عسكرية وتدريبية لميليشيات الكتائب، للوقوف أمام قوة المسلمين والفلسطينيين.
ومنذ منتصف ذلك العام - 1974 - دعمت الموساد الاتصالات مع الكتائب على اعتقاد بأنها ستوفر مزايا هامة لإسرائيل، أهمها إسكات المقاومة الفلسطينية في جنوب لبنان، والتجسس على الجيش السوري. لذلك .. كانت صفوف طويلة من عملاء الموساد تعمل في لبنان باطمئنان، وبلا خوف من السلطات اللبنانية. لكن الخوف كان منبعه جهاز المخابرات الفلسطيني برئاسة علي حسن سلامة، الذي استطاع بنفسه كشف أكثر من عشرين عميلاً للموساد بين صفوف المقاومة . . أعدمهم بنفسه، وأحاط كل غريب بدوائر من الشكوك والريب.
وقد كان من الطبيعي أن يصبح زعماء الميليشيا المسيحية في لبنان أصدقاء إسرائيل، وذراعها القوية لضرب الفلسطينيين بعد ذلك . . وارتكاب أبشع المذابح بحق الشعب المقهور.
انتهزت أمينة المفتي هذا التقارب اللبناني / الإسرائيلي، وسعت خلف بشير الجميل - ابن بيار - الذي كان محامياً في بلد لا قانون فيها، فجمعت عنه حصيلة هامة من المعلومات أمدت بها الموساد.
وعرف عن بشير أنه جريء . . وماكر . . وإجرامي. فرغم كونه أصغر ستة أبناء لبيار، تقدم بسرعة . . ولم يبد أي تردد في قتل حلفائه المسيحيين - أفراد أسرتي شمعون وفرنجية - حتى أصبح مسؤولاً عن أكبر ميليشيا مسيحية في لبنان.
رأس الحية
وفي الأول من أكتوبر 1974 عندما كانت بغرفة المراقبة السرية بالسنترال، صعقت وهي تستمع الى حوار ساخن بين علي حسن سلامة وأحد مساعديه، وأدركت أنها النهاية المؤكدة للملك حسين. بل ولمؤتمر القمة العربي في الرباط. ولنقرأ معاً ما كتبته في مذكراتها عن أحداث ذلك اليوم. تقول أمينة:
(كنت بالغرفة السرية منهمكة في عملي، تمتد أسلاك جهاز التسجيل الى جواري، وعلى كرسيه يقبع خلفي مارون الحايك، تلفح جسدي نيران نظراته برغم هواء الغرفة المكيف اللطيف. كان الغرفة الواسعة ذات بابين، أحدهما مغلق دائماً ولا يفتح إلا بإذن خاص وهو يؤدي الى الممر الرئيسي، أما الباب الآخر فسري ويشكل جزءاً من دولاب حائط كبير، ويتصل بسلم خلفي صاعد. كنت أنصت الى حوار هادئ بين عبد الوهاب الكيالي زعيم جبهة التحرير العربية التي ترتبط بحزب البعث العراقي، وأحمد جبريل زعيم جبهة التحرير الشعبية التي نفذت عملية فدائية ناجحة في إسرائيل منذ فترة وجيزة. وأصابني الملل لتفاهة الحوار بينهما، فالتفت الى مارون الذي انتبه اليّ وسألته عمن يعرف سر هذه الحجرة المثيرة، فأجابني بأنهم نفر قليل، وإجراءات دخولها تخضع لتعقيدات وقيود كثيرة. وأنه لولا الأربعين ليرة التي دفعها للحارس الخاص للغرفة، ما استطاعا الدخول أبداً. كان مارون يحدثني بنبرة مليئة بالثقة بما يدل على أنه قام بعمل بطولي لأجلي، لذلك ترك مقعده واقترب مني مبتسماً، فقبلته . . وأحسست وهو يخاصرني بأنه هدأ كثيراً من ناحيتي .. ويريد مني الكثير فنهرته بلطف، واقتحمت خطوط عرفات وحواتمة وأبو إياد فوجدتها مغلقة. وحينما فكرت في إيقاف جهاز التسجيل طرأة ببالي فكرة التجسس على تليفون سلامة.
لقد كان الوقت قبل منتصف الليل بقليل، وسلامة يتحدث مع أحد رفقائه ويدعى أبو نضال . ضغطت على زر التسجيل وأحكمت السماعتين فوق أذني وانتبهت للحوار بينهما. كان مارون ما يزال ملتصقاً بي من الخلف يثيرني بقبلاته المجنونة حول رقبتي، عندما اقشعر بدني كله وبدأ شعر رأسي كأنه يتصلب . . وينتصب، وأنا أستمع الى سلامة يقول في ثورة (التل وحده لا يكفي . علينا برأس الحية صديق اليهود، ومؤتمر الرباط فرصتنا الأكيدة فلنكن حذرين . . وشجعان . الله معك يا أبو نضال). هناك إذن تخطيط لاغتيال الملك حسين في الرباط . . وتبنت العملية منظمة أيلول الأسود.
وحين نزعت الأسلاك كانت رأسي تدور وتدور يد مارون المثار حول مؤخرتي، فسألته أن يؤمن الطريق لأخرج. وفي شقتي لم أقو على الانتظار لأبدل ملابسي، فأرسلت على الفور برسالتي الخطيرة الى الموساد. وبعد ست وثلاثين دقيقة جاءتني رسالة تطلب مني إعادة البث. فأيقنت أن القلق ركب رؤوس القيادة في إسرائيل، خوفاً على صديقهم العربي الأوحد. . الملك حسين. . ومرت ثلث الساعة إلا دقيقة واحدة، وجاءتني رسالة أخرى تحمل أمراً هو غاية في العجب. . والدهشة. إذ أمرت بالبحث عن وسيلة لدخول شقة علي حسن سلامة بحجة تطبيب عياله. فحتى تلك اللحظة. . لم أكن أعلم أن لسلامة أولاد . . وزوجة أخرى تمت بصلة قرابى لمفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني. وقلت في نفسي: أترضى ملكة جمال الكون - جورجينا رزق - بدور الزوجة الثانية؟؟ يا لسلامة المحظوظ . . الهانئ . . السعيد. . !!
شبكة الأربعة
لم تكن فكرة اغتيال الملك حسين ناشئة من فراغ. فالفلسطينيون رأوا منه أكثر مما تصوروا. . فمنذ عام 1970 وهو مرتبط بعلاقات وثيقة بالإسرائيليين خوفاً على عرشه. واجتمع بموشي ديان لمرات عديدة في محادثات سرية، في ذلك الوقت كان اللاجئون الفلسطينيون يشكلون نحن نصف سكان مملكته، ويشكلون أيضاً مصدر إزعاج متزايد له، بقيامهم بعمليات فدائية داخل الضفة الغربية انطلاقاً من الأردن، يرد عليها الإسرائيليون بالمثل، ويضغطون على الملك لوقف تلك العمليات، بتوجيه ضربة للفلسطينيين تفتت قوتهم وقواتهم.
وقد كان . . ومات عشرات الآلاف من الأبرياء فيما سمي بأيلول الأسود عام 1970. وهو الاسم الحركي للفرقة السرية الخاصة التابعة لعرفات، والتي يترأس عملياتها علي حسن سلامة الذي نفذ أولى عملياتها باغتيال وصفي التل، ثم توالت العمليات في عواصم أوروبا ضد الإسرائيليين. وبعد حرب أكتوبر توصل العرب في الجزائر الى صيغة رسمية وهي أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. وشكل هذا الأمر خلافاً جوهرياً مع الملك حسين، الذي كان يدعي لنفسه هذا الحق. حتى جاء شهر يوليو 1974، ومعه خطوة هامة، عندما اتفق الملك حسين والسادات على صيغة أخرى تحفظ ماء وجه الملك. وهي أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي للفلسطينيين، باستثناء الفلسطينيين الذين يعيشون في المملكة الهاشمية. فأثار البيان منظمة التحرير، وفكر سلامة جدياً في ضرورة التخلص من الملك حسين.
وحالف الحظ الملك، عندما تمكنت السلطات المغربية من إلقاء القبض على وحدتي كوماندوز فلسطينيتين، وصلتا من أسبانيا لاغتياله، وتم التعتيم على الأمر خاصة وقد حضر عرفات المؤتمر، وحقق نجاحاً كبيراً في الحصول على أكبر دعم عربي لشرعية منظمة التحرير. وبموجب مقررات مؤتمر الرباط، أصبحت المنظمة مسؤولة عن وضع الاستراتيجية التي تراها كفيلة باستعادة الحقوق المشروعة للفلسطينيين، أي أن المنظمة مطالبة باتخاذ مواقف محددة وواضحة: هل هي تريد تحرير فلسطين كلها أم جزء منها تقام عليه الدولة الفلسطينية. . ؟
وفي هذه الحالة . . كيف تستطيع إعداد الوسائل التي تمكنها من الوصول الى هذا الهدف؟. وهل هي تريد الوصول اليها بجهدها الخاص أو بالتنسيق بين استراتيجيتها والاستراتيجية العربية، وعلى وجه التحديد بين استراتيجيتها واستراتيجية مصر وسوريا - اللتين تعملان تحت قيادة عسكرية موحدة - باعتبارهما أقوى دول المواجهة في المنظمة. أو هل تريد المنظمة العودة الى قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة عام 1948؟ . . أو تريد إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة؟ . . وفي هذه الحالة . . هل هي مستعدة للاعتراف بقرار مجلس الأمن رقم 242 إذا ما عدلت الفقرة التي تتحدث عن "اللاجئين الفلسطينيين" الى "الشعب الفلسطيني"؟ . . وفي هذه الحالة . . هل هي مستعدة للذهاب الى مؤتمر جنيف؟ . . وإذا ما قررت الذهاب الى جنيف كيف يمكن حل مشكلة اعترافها بالوجود الإسرائيلي في فلسطين؟ . . او باعتراف إسرائيل بها؟. . أي الاعترافين يجب أن يسبق الآخر؟ . . عشرات الأسئلة طولبت أمينة المفتي بالتجسس على أعضاء اللجنة التنفيذية العشرة لتكشف نواياهم. والأعضاء هم خليط لكافة التيارات الفلسطينية، فهناك التيارات اليمينية المتطرفة، واليسارية والمحايدة، والمتعصبة، بعضهم شيوعيون وآخرون معارضون لهم وللماركسيين، وهناك ديموقراطيون و . . و . . الخ.
كل هذه التيارات المختلفة، متفقة فيما بينها على الاستراتيجية العامة. فالهدف - هو تحرير فلسطين، وإن كان هناك اختلاف في التكتيك طلب منها أيضاً معرفة المصادر المالية للمنظمة ومخازن السلاح في سوريا، ورأي القيادة العليا في مسألة القدس (1) لذلك . . انشغلت أمينة بشكل لم يسبق له مثيل. . وساعدها مارون ومانويل في نوبات التنصت على تليفونات القيادات الفلسطينية، بل إنها استطاعت تجنيد صديقتها خديجة زهران التي طُلقت من زوجها اللبناني، فتزوجت بغيره وطلقت منه أيضاً، وسقطت في شبكة أمينة المفتي في أحلك لحظات ضعفها وحاجتها الى النسيان . . والمغامرة. . والثراء. رباعي عجيب انطلق في مهام تجسسية صعبة، لإمداد الموساد بأخطر المعلومات عن الفلسطينيين الذين كانوا يستشعرون وجود مؤامرات لبنانية لتصفيتهم، وقالوا للبنانيين: إنكم لن تستطيعوا تصفيتنا لأنكم لا تملكون القوة الكافية لذلك. ونحن لا نريد منكم إلا تمهيد الطريق لنا الى فلسطين. والطريق الى فلسطين يمر بعينطورة وجونية، وهما منطقتان لبنانيتان مسيحيتان، إحداهما في الجبل والثانية على الساحل. فتساءل اللبنانيون: ماذا يفعل الفلسطينيون في الجبل وهو يبعد عن طريق فلسطين بأكثر من مائة كيلو متر؟ . . والحقيقة. . أن الطرفين كانا على حق. وتلك كانت مقدمة للحرب الأهلية اللبنانية.
الخطأ المدمر
وفي يوم 22 نوفمبر 1974، دخل ياسر عرفات لأول مرة مبنى الأمم المتحدة في نيويورك، مطالباً بإلغاء دولة إسرائيل، وإقامة دولة ديموقراطية تتكون من العقائد الدينية الثلاثة - الاسلام والمسيحية واليهودية، والا فليس أمامهم سوى الكفاح المسلح. ويخرج وفد إسرائيل غاضباً ليصرح السفير الاسرائيلي بأن عرفات الذي قتل الأطفال اليهود، يحاول أن يقهر الدولة اليهودية بحجة فلسطين الديموقراطية.
وبعد أسبوع من لقاء نيويورك، بثت أمينة المفتي رسالة خطيرة الى الموساد، تتضمن هجوماً فلسطينياً مسلحاً سيتم بعد عدة ساعات على إحدى مدن الشمال. وقبلما تتخذ السلطات الاسرائيلية التدابير الأمنية الكافية كان ثلاثة من فدائي الجبهة الديموقراطية قد هاجموا مدينة بيت شين BET SHEAN انطلاقاً من الأراضي الأردنية على غير المتوقع، وقتلوا أربعة إسرائيليين ثم جزوا رؤوسهم تماماً وكتبوا بدمائهم: "فليرحل أبناؤكم قبلما يلقوا مصيرنا. وبعد يومين تسلق أربعة فدائيين سور مطار دبي الدولي، وفتحوا نيران مدافعهم على الطائرة البريطانية التي كانت تتزود بالوقود في طريقها الى كلكتا وسنغافورة، فأصابوا أحد الهنود واحتجزوا 47 شخصاً كرهائن وصاروا بهم الى تونس، في ذات الوقت الذي أقر فيه السكرتير العام للأمم المتحدة حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم والعودة الى وطنهم، والموافقة على اختيار منظمة التحرير مراقباً في الأمم المتحدة.
وفي نهاية شهر يناير 1975 قال أبو إياد - مساعد عرفات - في تصريح له كالقنبلة: "إنني أعد بأن هذه الحادثة العارضة ستكون الأخيرة". وبهذا التصريح، لم يعد هناك وجود لمنظمة أيلول الأسود. إذ غطت الحرب الأهلية اللبنانية على كل شيء. وأصبح مقاتلو أيلول الاسود يكرسون جهودهم لمهام أخرى. وعندما طلبت أمينة الإذن بمغادرة بيروت الى تل أبيب، أعيد تذكيرها بإيجاد فرصة مناسبة لدخول شقة علي حسن سلامة ومحاولة الحصول على القوائم السرية لرجال مخابراته في أوروبا، وخطط العمليات المستقبلية المطروحة. وعلى ذلك انتهزت أمينة فرصة لقائها بسلامة في الكورال بيتش كالمعتاد، وسألته في خطأ فادح عن أولاده. فدهش الرجل الذي لم يحدثها عنهم من قبل مطلقاً. وبحاسته الأمنية العالية ملأه الشك تجاهها، وقرر البحث عن ماضيها وطلب من رجاله في عمان إعادة موافاته ببيانات عن الطبيبة الأردنية أمينة داود المفتي، التي يعيش اهلها بحي صويلح أرقى وأروع أحياء عمان.
فجاءه الرد بأنها بالفعل طبيبة أردنية، غادرت وطنها الى النمسا للدراسة، ولمشاحنات مع أهلها قررت ألا تعيش بعمان. اطمأن سلامة لتحريات رجاله. . وتجددت ثقته بأمينة، لكن بلاغاً سرياً من أوروبا وصل الى مكتب المخابرات، قلب الأمور كلها رأساً على عقب.
الرسالة الأخيرة
أفاد البلاغ أن شاباً فلسطينياً في فرانكفورت، صرح لأحد المصادر السرية بأنه تقابل مع أحد الفلسطينيين في فيينا، وبعد عدة لقاءات بينهما في حانات المدينة ومقاهيها، أخبره بأن له صديقة نمساوية يهودية، ماتت إثر تعاطيها جرعة زائدة من عقار مخدر، تزوج شقيقها الطيار من فتاة عربية مسلمة، وهربت معه الى إسرائيل خوفاً من اكتشاف أمرها وملاحقة أجهزة المخابرات العربية لها. وأن الفتاة كانت تدرس الطب في النمسا، وانتقلت الى لبنان بعدما أسقط السوريون طائرة زوجها، الذي اعتبر مفقوداً.
كان البلاغ يحمل نبرة عالية من الشك، فلو أن الأمر صحيح إذن فهناك جاسوسة عربية بين الفلسطينيين. وطلب سلامة إعادة استجواب الشاب في فرانكفورت، ولو اضطروا لأخذه الى النمسا ليدلهم على الفلسطيني الآخر. وذيل سلامة أوامره بضرورة السرعة، والى حين تصله معلومات آخرى، طلب حصر كل الطبيبات العربيات المتطوعات في المستشفيات الفلسطينية. . واللبنانية أيضاً.
واكتسب في الجامعة سمة الزعيم السياسي، حيث جمع من حوله الطلبة وألقى فيهم الخطب الثورية، وكان تأثيره يتزايد بينهم بعدما عرف لدى الجميع أن والده مات بين الإسرائيليين.
وكان يقول دائماً "لقد نسونا وإذا لم نفعل شيئاً سنبقى دائماً في الطين والوحل . . أذلاء. . بلا وطن". وتخرج من الجامعة مهندساً ليلتقي بياسر عرفات الذي كان قد أسس منظمة التحرير الفلسطينية، وبعد هذا اللقاء تبدلت حياته كلها، إذ شغل منصب قائد القوة 17، ثم رئيس المخابرات الفلسطينية - رصد - ورئيس العمليات بمنظمة أيلول الأسود التي دوخت إسرائيل بعملياتها الفدائية المذهلة.
استغل علي حسن سلامة ذكاءه الشديد في تعقب الخونة والجواسيس، الذين يتم زرعهم بين صفوف المقاومة وتمكن من كشف عشرين منهم خلال فترة وجيزة، وحصل على دورات تدريبية على أيدي رجال المخابرات المصرية. إذ استهواه العمل الفدائي والكفاح، وعشق مطاردة عملاء الموساد أينما كانوا. وأفلت مرات ومرات من محاولات فاشلة لاغتياله، حيث كان يجيد التخفي . . ماكر كالثعلب. . جسور كالأسد. . صلب كالفولاذ. وبعدما جاءه البلاغ عن وجود طبيبة عربية متطوعة تعمل لصالح الموساد في بيروت، اكنت أمامه بعد ثلاثة أيام قائمة طويلة تضم أسماء 37 طبيبة. . أربعة منهن فقط حصلن على شهاداتهن العلمية من جامعات النمسا. وكن جميعاً آنسات . . إحداهن بالطبع كانت أمينة داود المفتي.
خبراء المخابرات دائماً يشفقون على العميل الخائف، خاصة إن كان مزروعاً ببلاد الأعداء. ويدركون جيداً حجم المعاناة النفسية الرهيبة التي تغشى تفكيره، وقد تقود مسلكه الى نقطة النهاية والسقوط، بسب وقوعه في حالة ضعف تدمر أعصابه، وتعصف بجرأته وبثباته. وهم في تلك الحالات يفضلون أن يفر عميلهم بحياته وبأي ثمن. لذلك ردوا على أمينة بعد أقل من نصف الساعة: (ضعي الجهاز بسلة قمامة الشقة العلوية. إحرقي الشفرة. غادري بيروت بهدوء الى دمشق بطريق البر. ستجدين رسالة بمقهى "الشام".). تنفست أمينة الصعداء، وشرعت فوراً في تنفيذ أوامر رؤسائها.
لقد كان عليها ألا تلتقي بأحد أفراد شبكتها. . لكن يجب تحذيرهم من السعي اليها. لذلك اتصلت من الشارع بخديجة زهران وأخبرتها أنها في طريقها الى دمشق للسياحة.
ألقت بظلالها
يعصف بها الخوف والهلع، حملت أمينة حقيبة يدها الصغيرة وغادرت شقتها، لتدور بعدها في شوارع بيروت أشرس عملية هروب ومطاردة بين الجاسوسة الخائفة ومطارديها. وفي موقف السيارات المتجهة الى دمشق اعتقدت بأنها أفلتت من المراقبة، حتى إذا ما صعدت الى الباص واطمأنت في مقعدها، فوجئت برجلي أمن يقفان الى جوارها، فألجمها الخوف وانخرست . . واعتقدت بأنها النهاية الحتمية لمشوار خيانتها، فقررت بألا تموت على أيدي الفلسطينيين. وبلا وعي . . انطلقت أصابعها في لحظة كالبرق، تبحث عن كبسولة سم السبانيد بين خصلات شعرها. لكن أيدي رجلا الأمن كانت الأسرع، إذا انقضت عليها كما تنقض حية الكوبرا على فريستها، واقتيدت الى سيارة بيجو استيشن مفتوحة الأبواب كانت تنتظر خلف الباص، يقف الى جوارها رجلان آخران جامدي الملامح. وقبلما تبلغ أمينة البيجو فشلت ساقاها عن حملها، فاضطر الرجلان الى رفعها عن الأرض رفعاً، وألقيا بها الى داخل السيارة التي انطلقت كالريح الى حي الفكهاني، تسبقها سيارة أودي - 80 - إل إس نقل أربعة رجال مدججين بالسلاح.
وأمام أحد المباني بالقرب من المدينة الرياضية، سحب الرجال العميلة المغماة الى الداخل، حيث أودعت في غرفة ضيقة تحت الأرض، تكبل يديها من الخلف سلسلة حديدية طويلة ربطت الى الحائط. لم يكن لدى المخابرات الفلسطينية - رصد - حتى وهم يراقبونها دليل واحد ضدها. فالتقرير لم يصل بعد من أوروبا ليؤكد براءتها من عدمه. لكن حينما أمسك رجال الأمن بها كانت ملامحها كلها تنطق بالخوف وتضج بالرعب، ولأنهم اعتادوا تلك الملامح التي ترسم عادة على وجوه الخونة، أيقنوا بأن الأمر جد خطير . . خطير جداً. وأن الطبيبة المتطوعة متورطة في جرم ثم خاصة . . بعدما تعرضت المادة السائلة بالكبسولة للتحليل، واتضح أنها سم السبانيد الذي تكفي نقطة واحدة منه لقتل فيل بالغ.
لقد كان لا بد من تركها هكذا لعدة أيام بدون استجواب، حتى تنهار إرادتها الى الحضيض من ناحية، ولمحاولة امتلاك أدلة مادية من ناحية أخرى. وعلى ذلك . . قام فريق متخصص بتفتيش شقتها تفتيشاً غاية في الدقة. . ولعدة مرات فشل في العثور على دليل واحد يدينها، فالعميلة المدربة . . وبرغم خوفها الشديد، وجدت أمامها الفرصة الطويلة لإزالة أي آثار أو أدلة قد تقودها الى الموت. ولم تترك خلفها سوى المصحف الشريف وقد انتزعت من منتصفه عدة صفحات، هي في مجملها كل سورة "بني إسرائيل"، وصفحة ونصف من سورة "الكهف" وكان هذا الأمر يمثل لغزا محيراً لرجال رصد، الذين فشلوا في "رصد" العميلة دون أن تلقي بظلالها عليهم .
كان جهاز الأمن والمخابرات - رصد - يعمل في تلك الفترة تحت قيادة أبو إياد "صلاح خلف" الأب الروحي للمخابرات الفلسطينية ولمنظمة أيلول الأسود، برئاسة علي حسن سلامة رئيس العمليات والدينامو المحرك والعبقري الفذ. ويعد الجهاز أكثر العناصر المكونة سرية داخل منظمة التحرير الفلسطيني، فهو جهاز الاستخبارات الأولية، وعمليات مكافحة الجاسوسية، وبه وحدة سرية لعمليات الخاصة، وله مكاتب في كل من لبنان ومصر والأردن والمملكة العربية السعودية والكويت وسوريا. ويصعب تقدير عدد أعضائه على وجه الدقة. وأبو إياد (1) هو معلم الجواسيس الأول في منظمة التحرير الفلسطينية، والمسؤول عن أمنها وجهازها السري، وهو أيضاً حلقة الاتصال الرئيسية بينها وبين الجبهات المعارضة، وأحد العناصر الضالعة في تخطيط وتنفيذ عملية ميونيخ، وكان هو الذي أمر في 1973 بالاستيلاء على السفارة السعودية في الخرطوم وقتل السفير الأميركي ونائبه، كما لعب دوراً رئيسياً في حادث مقتل السفير الأمريكي فرانسيس ميلوي في بيروت عام 1976، وكذلك في عشرات العمليات المسلحة الأخرى. وما إن وضع أمام أبو أياد تقرير كامل عن أمينة المفتي، حتى ذم شفتيه ملقياً برأسه الى مسند كرسيه، ينظر الى حلقات دخان سجائره المتشابكة في صمت طويل . . وقال لسلامة في وجوم: يجب ألا نعاقب امرأة عربية دون أدلة قطعية قوية تؤكد إدانتها. فلننتظر تقرير رجالنا في أوروبا. وحتى يصل التقرير فلا عقاب ولا استجواب.
هكذا قبعت أمينة في زنزانتها المظلمة بباطن الأرض تترقب الموت ببطء، وتنسل من عروقها نبضات القوة رويداً رويداً، حتى استحالت الدقائق عندها الى جحيم ما بعده جحيم . وانقلب الانتظار الى وحش مسعور يفتك بعقلها . . وبوجدانها.
وكأنه العواء
كان رجال المخابرات الفلسطينية في أوروبا يلهثون خلف الشاب الفلسطيني العابث، يرفقهم الشاب الآخر صاحب البلاغ، والذي استقدموه من فرانكفورت رأساً الى فيينا. فهو الوحيد الذي يمكنه التعرف عليه بسهولة. هكذا جابوا شوارع فيينا وحدائقها ومواخيرها دون جدوى، وكأنما انشقت الأرض وابتلعته. ولم يكن أمام الرجال إلا طريقة واحدة - غاية في الخطورة - لاستجلاء الحقيقة من مصادرها الرسمية، وهي البحث عن سجلات مكتب "الزواج من أجانب". وكان الخوف كل الخوف من لفت انتباه رجال الموساد في النمسا الى ما ينقبون عنه، لذلك كانت عملية البحث تتم تحت ستار كثيف من السرية . . والتكتم . وبواسطة خطاب مزور صادر عن السفارة الأردنية في فيينا، يخاطب إدارة مكتب الزواج من أجانب، أمكن الوصول الى عنوان شقتها والى حقيقة الزواج المحرم. وفي الحال طار أحد الضباط الى بيروت يحمل صورة رسمية من عقد الزواج، في ذات الوقت الذي اقتحم فيها رجال رصد شقة أمينة المفتي بفيينا، حيث عثروا على أجندة متوسطة الحجم، سجلت بها أمينة مذكراتها وتفاصيل عمليها في بيروت قبل رحلتها التدريبية الأولى لإسرائيل.
هكذا انكشف الأمر دون أن يلاحظ رجال الموساد المنتشرون في النمسا أي شيء، أو يخطر ببالهم أن رجالاً يفوقونهم ذكاء ينقبون عن ماض غامض لعميلتهم المدربة. تجمعت كل الأدلة على مكتب أبو إياد الداهية، ولم يكن أمامه سوى محاصرة أمينة والسيطرة عليها، لتكشف النقاب عما أبلغته للموساد، ودورها الحقيقي في ترصد حركة المقاومة، خاصة بعد فشل عدة عمليات فدائية كان وراءها جاسوس خفي، وأيضاً. . لترشد عن بقية أعضاء شبكتها في بيروت أو خارجها.
كانت هناك خطط عديدة لاستجواب الخونة والجواسيس يتبعها رجال المخابرات الفلسطينية. أما والحالة هنا لامرأة عربية خائنة فالوضع يختلف. إنها إحدى الحالات النادرة التي تواجه أبو إياد ورجاله. لذلك، اقترح علي حسن سلامة الاعتماد على خطة جديدة تناسب الحالة، تقوم على إيهامها بأن زوجها موشيه كان أسيراً لدى السوريين، وقد أُطلق سراحه منذ أيام ضمن فريق من الأسرى في عملية مبادلة نشرت عنها الصحف. وكان الغرض من كل ذلك إشعار الجاسوسة بعقدة الذنب، لتحس بالندم الشديد على ما ارتكبته فتعترف بلا إكراه أو تعذيب. وعلى ذلك . . . سربوا اليها إحدى الصحف اليومية وقد تصدرت صفحتها الأولى صورة زوجها الأسير وسط العديد من زملائه، قبلما يغادرون سوريا الى اسرائيل برفقة رجال الصليب الأحمر. كانت هناك بالطبع نسخة وحيدة لتلك الصحيفة طبعت خصيصاً لأجل المهمة المحددة. وما إن قرأت أمينة الخبر، حتى لفها صمت غمس بالذهول، وقد جحظت عيناها لهول الصدمة والمفاجأة، وانطلق من جوفها صوت نحيب رتيب كأنه العواء. وليس هناك أبلغ مما كتبته بنفسها عن تلك اللحظة الخطيرة من حياتها:
الأشباح في الزنزانة
تقول أمينة في مذكراتها (وفي السادس من سبتمبر عام 1975 (!!!)، كنت أحاول أن ألملم ذاتي المبعثرة داخل زنزانة ضيقة حقيرة، مقيدة بالجنازير الى الحائط، عندما انفتح الباب في الصباح، ودخل الحارس المسلح ذو الشارب الكثيف يحمل فطوري المكون من رغيف وشريحة جبن مطبوخ، وجلس أمامي كالمعتاد يتصفح جريدته، ويناولني قضمة بعد قضمة، عندما لمحت الخبر بالصفحة الأولى:
يا الهي . . إنه موشيه . . نعم موشيه . . صورته تتصدر الصفحة ومن تحتها اسمه كاملاً. خيل ألي انني أحلم . . أطير الى الأفق وأكبو - حلقومي يتشقق ورأسي تتأرجح غصباً عني. وكأنني أفيق من غيبوبة الموت، رجوت الحارس أن يقرأ على ما كتب فنهرني ساخراً . . لحظتئذ . . صرخت متوسلة اليه أن يقرأ. فأغلق فمي بالرغيف ولطمني بقسوة على وجهي وهو يردد: مالك والصحيفة أيتها المومس الحقيرة. . ؟ لفظت الرغيف وابتهلت اليه فبسط الصفحة أمامي على الأرض. . فانحنيت أقرأ لا أصدق، حتى انكفأت على وجهه كالمنومة، أعض البلاط . . وألعق الحسرة . . والفرحة، وألعن عمراً ذاب في الإرهاق والغضب.
لست أدري بالضبط كنه تلك الأحاسيس الجياشة التي اجتاحتني، خليط عجيب من المشاعر تكاد تعصف بي، وتفتك برأسي. كم كنت في شوق لأن أصرخ . . وأصرخ . . وأصرخ . . وأمزق وجهي بأظافري حتى يدمى، لكن يداي مشدودتان بالسلاسل، ولا قبل لي إلا بالصراخ، فصرخت . . صرخت من أعماق شراييني وأنسجتي، وجذبت قوة صرخاتي من قلبي وأعصابي، إذ جثم على صدري حمل ثقيل من الندم . . ينزف منهم الدم في فورة كالبركان، وينزلق على أرض الغرفة فأحس به ساخناً لزجاً، يا إلهي . . إنها أشباح عشرات الضحايا الذين قتلتهم بغبائي . . وقذارتي. تطوف الأشباح من حولي في حلان مرعب، ينبعث منها صوت هدير مخيف، فأضحك . . ثم أصرخ. . وأضرب رأسي في الهواء لأصرف الأشباح عني، وأفيق على موشيه الحبيب . . جاء لينقذني من عذاباتي . . وانحناءات عمري القاتلة).
مدرسة أبو داود
وفي الثامن من ستبمبر 1975، بعد تسعة أيام من اعتقالها، اقتيدت امينة داود المفتي الى مكتب أبو داود (1) حيث جرى استجوابها بذات الأسلوب الذي استخدمه جهاز المخابرات الألماني - الجستابو - مع الأسرى والجواسيس أيام الحرب العالمية الثانية. وهو أسلوب يعتمد على التوسل بعلم النفس في كسر حدة الخوف لدى الجاسوس، دون اللجوء الى أي وسيلة من وسائل الضغط أو التعذيب، مع محاصرته بوابل من المعلومات التي تم جمعها عنه وعن رؤسائه، فيضطر مذعناً الى الاعتراف بكل ما لديه حيث يرى أنه لا ضرورة للإنكار، طالما انكشفت كل الأسرار التي كان يعتقد أنها مجهولة. ولكي نشرح أسلوب أبو داوود في استجواب العميلة، علينا أن نقرأ الشهادة الرسمية التي أداها الملازم "سكراف" من المخابرات الألمانية، أمام هيئات التحقيق الأميركية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وهزيمة ألمانيا. فقد شكلت في أمريكا هيئة للتحقيق مع بضع مئات من الطيارين الأمريكيين الذين أسروا في ألمانيا النازية، وكانوا متهمين بالخيانة وإفشاء الأسرار الحربية عقب أسرهم، ولكنهم نفوا جميعاً أنهم تفوهوا بأي سر، كما أكدوا أن أحداً لم يضربهم أو يمتهنهم، وبالتالي لم يحاول أي إنسان أن يرغمهم على الإدلاء بأي أقوال، وقد استدعى الأمر إحضار سكراف للمثول أمام إحدى هيئات التحقيق الأميركية، لاستجوابه في شأن التقارير التي كان يرفعها بعد استجوابه لكل طيار أسير.
وقد كان لشهادته هذه أكبر الأثر في تبرئة ساحة هؤلاء الطيارين. يقول سكراف:
خلال سني الحرب الطويلة المريرة، قمت منتصباً في وضع الانتباه ضارباً كعبي أكثر من خمسمائة مرة، مؤدياً التحية العسكرية في أصح أوضاعها لضابط طيار أميركي، شاء حظه أن يقع أسيراً في أيدي قواتنا. وكنت أقدم نفسي للأسير قائلاً في أدب وبشاشة: سيدي . . أنا الملازم سكراف . . وأنا مكلف بسؤالكم بضع أسئلة، هل لسيدي أن يجلس؟ . . من واجبي أن أذكرك بحقوقك التي تكفلتها لك اتفاقية جنيف لمعاملة أسرى الحرب، فلك أن تجيب على الأسئلة الثلاثة : اسمك . . ورقمك . . ورتبتك فقط ولا شيء خلاف ذلك . . سيجارة سيدي. . ؟ ويضيف الضابط الألماني: مر على مكتبي جميع طياري المقاتلات الأميركية والبريطانية الأسرى، وكالمعتاد فقد أجابوا على الأسئلة الثلاثة عند بدء أسرهم، ثم أرسلوا الى بعد ذلك للحصول منهم على المعلومات اللازمة، وأستيطع أن أقرر أن كل فرد من الخمسمائة ضابط الذين مروا بغرفتي، قد أدلى بكل المعلومات التي طلب مني أن أحصل عليها منهم، دون إهانة أو تعذيب، ذلك أنهم لقنوا عن الطريقة التي يتصرفون بها إذا ما وقعوا في الأسر، واحتمال التعذيب الشديد حتى يرغموا على الكلام. لكن . .غاب عنهم الحالة النفسية التي يكون عليها الأسير بعد اكتسابه لهذه الصفة، لمجرد شعور المرء بأنه أسير تتولد عنده ضغوط شديدة تشعره بعدم راحة الضمير كأنه المذنب، حتى ولو كان أسره خارجاً كلية عن إرادته، فيظل موطناً نفسه على مقاومة كل وسيلة لاستجوابه، وكان علينا أن نستغل هذه الحالة في عملنا، بأن نتصرف في معاملة الأسير على العكس تماماً مما يتوقع.
الحية الناعمة
كان أبو داود ضابطاً من ضباط المخابرات الفلسطينية القلائل الذين تميزوا بأسلوب المهادنة في استجواب الجواسيس، وكان يرى أن تلك الطريقة هي الأنسب لمعاملة هؤلاء الخونة لإشعارهم بمدى فداحة الجرم الذي ارتكبوه. ومن خلال المعاملة الحسنة، بدلاً من التعذيب الذي يتوقعونه، يمتلكهم الإحساس بالذنب فيعترفوا. لكن يبدو أن فلسفة الألمان أيام الحرب العالمية الثانية، لم تكن ذات نفع مع جاسوسة محترفة مثل أمينة المفتي، التي دربت على كيفية مواجهة المواقف الصعبة، وترتيب الأفكار بحيث لا تخطئ إذا ما اضطرت الى سرد رواية ما مرتين.
وكانت تمارين الذاكرة التي أجادتها تماماً خير وسيلة لها للتمسك بأقوالها دون تغيير، وبرغم نفاذ صبر أبو داود الذي واجهها بمذكراتها التي كتبتها بخطها وخبأتها في شقتها في فيينا، إلا أن الجاسوسة أنكرت كل شيء. وعللت كتابة مذكراتها بما تحويه من تفاصيل غاية في الدقة، بأنها مريضة بالتوهم Delusion وبأحلام اليقظة، وقد تخيلت نفسها بالفعل عميلة إسرائيلية في بيروت نظراً لخيالها الخصب الجامح، ولتأثرها الشديد بقصة حياة الجاسوسة الهولندية الشهيرة مارجريت جيرترود "ماتا هاري"، وابنتها الجاسوسة باندا ماكلويد. هذا فضلاً عن رغبتها في الانتقام من العرب لفقد زوجها موشيه، وعجزها عن تحقيق ذلك، مع شعورها المتزايد بالغربة والكآبة، وإحساسها بالاضطهاد Persecution . كانت إجابتها المرتبة، وبكاؤها المستمر وتشجنات عضلات وجهها، أمر يدعو الى الاحساس بالأسف، فهي تخرج من مأزق تلو الآخر وكأنما أيام الاعتقال الانفرادي التسعة، كانت بالنسبة لها الفرصة الذهبية لترتيب الأفكار استعداداً للمواجهة المصيرية . لذلك . . كانت شكلاً - في غاية الثبات أمام المحقق. .
أما بالداخل . . فهناك عمليات عقلية معقدة تتفاعل . . وتحلل . . وتستنبط . . وتختزن . . وتتوهج. فتطلب المزيد من الماء بالسكر لتمنح بدنها المزيد من القوة Energy واليقظة. لكن ضابطاً كفئاً مثل أبو داود لم يكن من السهل أن يقنع بصدق إجابتها، فهو رجل حاد الذكاء عظيم الخبرة في تخصصه، حصل على دورات تدريبية عديدة على أيدي رجال المخابرات المصرية في تعقب الجواسيس، وقرأ كثيراً في علوم النفس والمنطق والطب العقلي، وتصنيفات الأمراض النفسية، وبرع في كيفية التعامل مع مرضى الخيانة والكذب، واستخلاص النتائج بعد تحليل دقيق للألفاظ والمدلولات، حتى اشتهر عنه امتلاكه لحاسة شم قوية تجاه الجواسيس، وقدرته الخارقة على اختراقهم والحصول على اعترافاتهم بسهولة، وإن اضطر في بعض الأحيان الى تغيير منهجه في الاستجواب، بما يتناسب وثقافة المتهم وذكائه وقدرته على المقاومة. فهو يستطيع أن يلعب بكل الكرات في تناسق وتتابع كأنه فريق كامل في ملعب شاسع.
هكذا تدرب أبو داود وأجاد . . وكان عليه أن يحاصر أمينة بأسرع ما يمكن، لكي لا يحس أعضاء شبكتها باختفائها الغامض فيفرون الى خارج البلاد. لكنه وقف حائراً أمام تلك المرأة الماكرة، التي استجمعت كل قواها دفعة واحدة وقاومته بشراسة لم يعهدها. . كانت تدافع عن مصيرها باستماتة من يوشك على الغرق. فهي تعلم في قرارة نفسها أن مستجوبها أشد منها ذكاءً وحدة . . وأشرس منها صلابة وقوة. ندان متضادان كل منهما يسعى الى هدف مغاير للآخر. ثمانية عشرة ساعة متصلة وأمينة لا زالت كما هي . . لم تضعف أو تنهار. . أو حتى تبدل كلمة واحدة من أقوالها. . وأبو داود يسألها السؤال نفسه عشرات المرات في دهاء وحنكة، وهي تجيب في مراوغة واستبسال. فكانت إجاباتها كلها متناسقة ماعدا نقطة واحدة لم تكن أبداً مقنعة، ألا وهي سم السيانيد، حيث بررت وجوده معها بأنها مصابة بالجنون الدوري Cyclothynia ، وهذا الأمر يسبب لها مضايقات وتشنجات تدفعها للتفكير بالانتحار.
ولما كان سم السيانيد غير متواجد بالأسواق أصلاً، وتستخدمه فقط أجهزة المخابرات للتخلص من ضحاياها، فقد كان الأمر مثيراً للشك ولا يقبل تأويلاً هشاً كالذي جاء على لسان أمينة. ومن هنا . . لم تكن أمام أبو داود سوى أساليب الاستجواب المعتادة، بعدما فشل في انتهاج نظرية الجستابو معها، وهي اللجوء الى العنف والتعذيب، وقد كان كارهاً لذلك جداً إلا أنه اضطر الى ذلك غصباً عنه، فهو كما قال يتعامل مع حية ناعمة الملمس. . كلما حاول الإمساك بها انزلقت من بين أصابعه هاربة. وأناب عنه زميله "أبو الهول" للتحقيق معها.
قنبلة من الغضب
كان رجال الموساد في غاية القلق والتوتر، فأمينة اختفت في بيروت قبل أن تتمكن من الهرب الى دمشق. لقد كانت غارقة في الذعر والهلع، وهو الأمر الذي يجعل الجاسوس في قمة حالات ضعفه وتفككه، فتسهل بذلك السيطرة عليه أثناء التحقيق، ومهما حاول التماسك واستجماع جرأته، فهو حتماً سينهار في النهاية ويعترف بكل شيء، ويرشد بسهولة عن أعضاء شبكته. وعندما أكد عملاؤهم في بيروت أن مانويل ومارون وخديجة طلقاء ولم يتم اعتقالهم، كان الأمر بالنسبة اليهم يعني إما أنها لم تعترف بعد، أو ان الثلاثة تركوا كشرك لاصطياد كل من يحاول الاتصال بهم. وربما كان الأمر برمته مجرد خطة خداعية متعددة الأطراف.
هكذا وقع رجال الموساد في تل أبيب في حيرة بالغة، وأمروا عيونهم في بيروت بالابتعاد تماماً عن الثلاثة الطلقاء مهما كان السبب. فهم يعلمون مدى شراسة المخابرات الفلسطينية في معاملة الجواسيس الأجانب حين استجوابهم، فما بالك والحالة هنا لجاسوسة أردنية خدعتهم وامتزجت بقادتهم، وتجولت بكل الأماكن العسكرية المحظورة في لبنان؟؟
كانت المشكلة عند الموساد أكبر بكثير من مجرد سقوط إحدى عميلاتها، المشكلة الحقيقة تكمن في حالة الهلع التي ستصيب بقية عملائهم في لبنان إذا ما نشر الخبر في الصحف، ساعتئذ فقط قد ينكشف آخرون أفلت منهم زمام الجرأة وانكسرت صلابتهم. . وباتوا عرضة لهدم شبكات إسرائيلية عديدة في بيروت تعمل في امان بعيداً عن الخوف . . الذي هو داء الشجاعة وقاتها. إذ عادة ما تكون الشجاعة التي يتحلى بها الجواسيس شجاعة هشة مصطنعة لا أرض صلبة لها أو جدران. تماماً هي كالسراب الذي تراه أيام القيظ في الصحراء . . مجرد وهم خادع. (!!).
أما أمينة المفتي . . فيالها من امرأة عجيبة . . متماسكة. فبرغم ابتلاعها طعم بقاء موشيه حياً ومبادلته بأسرى سوريين، إلا أن إحساسها بالذنب لم يطغ عليها أو يفتك بضميرها. لقد تقمصت شخصية أخرى أمام المحقق، وبدت بريئة مريضة بالوهم، وما كانت في حقيقتها إلا متخمة بالخيلاء Conceit والعظمة، فسيطرت عليها أوهام الانتصار، وترقبت مظاهر البطولة التي تنتظرها في إسرائيل، وستراها جلية في عيني زوجها العائد من الأسر. كانت تريد أن تؤكد له أنها امرأة أحبت . . وزوجة أدمنت العشق حتى الثمالة . . ومزقها غيابه الى ألف قطعة، تحولت كل واحدة منها الى قنبلة من الغضب . . ستنفجر حتماً في جسد العرب. أما قلبها . . فكان بركان ينفث حممه في وجه البشر . . وصراخ لوعتها عليه يصم أسماع الكون ويمزق سكونه.
وفي حبسها الانفرادي كانت تستعد للمعركة القادمة . . وتشحن ذاتها بكل ما تبقى لديها من قوة ومناورة، وتعيد تنظيم خطوط دفاعها أملاً في الإفلات. فقد كانت تعلم بأن أدلة إثبات خيانتها هشة ومن السهل تفنيدها. كذلك لم يضبط بعد أحد أعضاء شبكتها فيعترف عليها. لذلك وطنت نفسها على المقاومة والاستبسال في الإنكار والدفاع. فحتماً . . سيضيقون بها ولن يكون أمامهم سوى طردها خارج بيروت. لكن المفاجأة التي لم يتوقعها أحد مطلقاً، أن سلطات الأمن اللبنانية تدخلت، وأجبرت الفلسطينيين على الإفراج عن المعتقلة لتقوم هي بالتحقيق معها.
لقاء في عالية
هكذا خرجت أمينة المفتي - وكما توقعت - منتصرة من حبسها، وتتسلمها السلطات اللبنانية التي رأت أنها بريئة، وأن الشكوك التي طالتها باطلة مجحفة. وأنها طبيبة عربية مخلصة لوطنها العربي أيما إخلاص. وكان أن خيرتها ما بين البقاء في بيروت أو مغادرة لبنان مع وافر الشكر ، فاختارت أمينة أن تغادر الى فيينا، وطالبت بوثيقة سفرها التي احتجزها الفلسطينيون.
لقد رأى أبو إياد وعلي حسن سلامة وأبو داود، أن يسلموا أمينة للبنانيين احتراماً لسيادة الدولة اللبنانية، لكي لا تزداد الخلافات حدة، وتتصاعد في وقت كانت فيه الحرب الأهلية مشتعلة وفي طريقها لأن تدمر العلاقات الطائفية تماماً. لكن . . كانت لقاءات عديدة ومطولة قد تمت في عالية بين أبو إياد والشيخ بهيج تقي الدين وزير الداخلية اللبناني، لمحاولة الاتفاق على التعاون الأمني بينهما للحد من جيوش الجواسيس التي تجوب لبنان دون خوف. وفي اللقاء الأخير كان الوزير يجلس على الأرجوحة في حديقة منزله الصيفي وبيديه مسبحة طويلة يلعب بحباتها في هدوء، وهو يستمع بانتباه كبير الى ما يقوله أبو إياد:
إذا لم نتعاون يا شيخ بهيج فهناك خطر يهددنا ويهددكم معنا. إن التنسيق بين أجهزة الأمن اللبنانية وأجهزة أمن المقاومة أصبح أكثر من ضرورة . . لقد أصبح واجباً وطنياً.
ويوافق الوزير على كلام القائد الفلسطيني . . ويتابع القائد:
- نحن على استعداد يا شيخ بهيج أن نضع معلوماتنا بتصرفكم. إن أجهزة رصدنا في الخارج وخاصة في أوروبا قوية، ونستطيع إذا تعاونا معاً أن نفسد أكثر من مخطط. فنحن لا نستطيع أن نعمل بمفردنا في لبنان، وأنتم لا تستطيعون العمل بمفردكم. علينا أن نتعاون.
ويوافق الشيخ بهيج مرة أخرى ويتابع أبو إياد:
- أعذرني على صراحتي سيادة الوزير، فالقضية خطيرة . . خطيرة جداً وأخطر مما تتصور. فنحن عندما قبضنا بعد عملية فردان 1973، على الفرنسي إيف رينيه دي توريس صاحب مطعم - إيف لي ميشو - كانت معلوماتنا تؤكد بأنه ضالع في العملية، وأنه يعمل لحساب إسرائيل في لبنان. وبالصدفة . . كان ببيروت مخرج جزائري من المتعاطفين مع حركة المقاومة اسمه محمد بوضياء. ولأن بوضياء يتقن الفرنسية فقد طلبنا منه أن يساعدنا في التحقيق مع الفرنسي. وبعد أن كاد الفرنسي أن يعترف قامت علينا القيامة، واشتد الضغط واتهمنا بأننا نمارس سلطات الدولة اللبنانية. فاضطررنا الى إطلاق سراحه، وسلمناه الى السلطات اللبنانية مع ملفه الكامل لكي تتابع التحقيق معه، لكننا فوجئنا بإطلاق سراحه بعد 24 ساعة من تسليمه، وبالسماح له بمغادرة لبنان الى فرنسا. وبعد شهر واحد . . تسلمنا رسالة من بوضياء يقول فيها بالحرف الواحد (ليس من قبيل الصدفة أن أصطدم بالفرنسي دي توريس الذي حققت معه في بيروت، في كل مكان أذهب اليه في باريس . . ). وبعد يومين من تسلمنا الرسالة، أغتيل بوضياء في باريس بعبوة ناسفة في سيارته. وقبل أيام . . ألقينا القبض على طبيبة أردنية تؤكد معلوماتنا أنها تتعامل مع الموساد، ومن جديد . . قامت القيامة فسلمناها مع ملفها الى السلطات اللبنانية، ومن جديد . . سمح لها بمغادرة بيروت الى فيينا. لكننا . . سيادة الوزير الموقر. . . . نطلب منكم مهلة للتحقيق معها مرة أخرى. . مهلة بسيطة لن تستغرق أكثر من ثلاثة أيام سنطلعكم بعدها على ما انتهينا اليه.
لقد كان هناك رجل يحمل الأوراق المغربية، اعترف لنا اعترافات كاملة بأنه عميل لإسرائيل وجاء للبنان أكثر من مرة للتجسس على أخبار المقاومة. ولدينا ملفات عن أكثر من عشرين عميلاً يحضرون الى لبنان وينزلون في أفخم الفنادق على أنهم رجال أعمال، نحن نعرفهم واحداً واحداً، واسماً اسماً، ونعرف أنهم عملاء، ولا نطلب منكم أن تعتقلوهم أو تحققوا معهم، ولكن نطلب فقط منعهم من دخول البلاد. إنه إجراء بسيط سيدي الوزير، فنحن أيضاً لا نريد اعتقالهم حرصاً على السيادة اللبنانية، ولكننا في الوقت نفسه لا نستطيع أن نقف مكتوفي الأيدي وحياتنا مهددة بالخطر.
كان الشيخ بهيج تقي الدين يستمع الى أبو إياد في ذهول. وما أن أنهى القائد الفلسطيني كلامه حتى وافق الوزير فوراً على مطلبه لخاص باعتقال أمينة المفتي مرة ثانية، والبحث في أمر العملاء الآخرين تمهيداً لمنعهم من دخول لبنان.
وهكذا . . عادت أمينة داود المفتي الى الجانب الفلسطيني، دون تدخل لبناني تحت أية ظروف في التحقيق.
كهف السعرانة
حبست أمينة مقيدة بالجنازير داخل زنزانتها الأولى بباطن الأرض، تمهيداً لاستجوابها بأسولب مغاير، يدفعها لأن تعترف بالحقيقة كاملة، وترشد عن شركائها في شبكة الجاسوية. لكن . . كانت هناك رؤية أمنية تحبذ نقلها الى خارج بيروت، بعيداً عن رحى الحرب الأهلية المشتعلة، وتحسباً لأية نوايا إسرائيلية خاصة بعد عملية فردان المشؤومة، واستغرق التفكير في مكان حجزها ساعات طويلة من الليل، ضمت أبو إياد، وعلي حسن سلامة، وأبو داود، وأبو الزعيم - في اجتماع خطير لتحديد مصير العميلة الاسرائيلية. لقد جلس أبو إياد صامتاً كعادته يشعل سيجارة من أخرى، تنتقل عيناه بين الرجال الثلاثة وهم يتجادلون، ويستعرضون الأماكن التي تصلح لإخفاء العميلة الماكرة. كان علي حسن سلامة يرى أن إبقاءها في المكان نفسه هو الأصوب، حيث تحيط بالمبنى الأسوار العالية، ومباني منظمة التحرير الفلسطينية في حي الفكهاني، لكن أبو الزعيم تشكك في كون المكان آمناً بالدرجة الكافية، فقد تخطط الموساد لاختطاف أمينة لرفع معنويات جواسيسها في لبنان، وللانتقام من علي حسن سلامة - الأمير الأحمر الذي أمرت جولدا مائير بإعدامه ثأراً لعملية ميونيخ، وأيضاً . . لاغتيال الفدائيين الثلاثة - عدنان وجمال الجاشي، وأبو العيسى - أبطال مذبحة ميونيخ الذين بقوا على قيد الحياة، ويقيمون تحت حراسة مشددة بمقر الجبهة الديموقراطية المحاور. أما أبو داود فقد اقترح أن يتم نقلها فوراً الى وادي البقاع حيث لن تستطيع الموساد التوصل الى مكانها، ويكون الأمر محاطاً بالسرية المطلقة تحسباً للوشايات، وبعيداً عن الخونة الذين يضعفون أمام الاغراءات الاسرائيلية من بين صفوف الفلسطينيين أنفسهم. وعند هذا الحد من الحديث نطق أخيراً أبو زياد وقال إن الأمر لا يستدعي كل هذا الخلاف، فعملية نقل أمينة من حسبها الآمن في بيروت الى مكان آخر ليس الغرض منه الخوف من الاسرائيليين، فهم لن يجرأوا على القيام بعملية كوماندوز أخرى مشابهة لفردان، لعلمهم بأننا اتخذنا شتى التدابير الأمنية لحماية منشآتنا ومقار إقاماتنا، وعيونهم التي تجوب شوارع بيروت بمختلف الجنسيات تنقل اليهم تلك الحقيقة وتؤكدها. إنما التفكير في عملية نقل أمينة لجهة أخرى يرجع الى كونها امرأة استشعرت الأمان في محبسها الحالي، ووضعت خطط دفاعها أمام مستجوبيها، ونقلها لمكان آخر أمر في حد ذاته محير بالنسبة لها: وسيشعرها بالخوف لأنها تجهل ما سيحدث معها وطالما هي خافت فقد فقدت تركيزها. وأرى أنه للوصول الى اعترافات سريعة منها، يجب نقلها الى مكان موحش وليكن كهف من كهوف الجنوب، فالتمسك بالحياة حتماً يدفع المرء لأن يضحي بكل ثمين. واعترافها بالتجسس لصالح الاسرائيليين لن يكون أبداً أثمن عندها من حياتها. ففكروا معاً في أي كهف ستأخذونها اليه.
عندئذ . . تهللت الوجوه استحساناً لرأي القائد، وجيء بخارطة كبيرة للجنوب اللبناني انكبوا عليها يفحصون عدة مواقع، الى أن انتهوا الى موقع كهف يقع الى الشرق من جسر القاسمية بين صيدا وصور، يبعد عن ساحل البحر المتوسط حوالي تسعة عشر كيلو متراً. أطلق عليه سكان المنطقة اسم "كهف السعرانة"، وتقع بالقرب منه بعض معسكرات منظمة التحرير الفلسطينية.
مقابل شربة ماء . . !!
لمسافة ثمانين كيلو متراً أو يزيد، انطلقت في الليل السيارة الجيب التي تقل أمينة المفتي الى محبسها الجديد. كانت الأسيرة المغماة متهالكة تماماً لحرمانها من الطعام طوال يوم كامل، وما إن غادرت السيارة يتأبطها جنديان مفتولا العضلات، أحست بقشعريرة مخيفة تسري بأوصالها. فالمكان شبه خاو بلا حركات، صوت الأقدام الصاعدة وهي ترتطم بالصخور والحصى يزيدها هلعاً. قالت في وهن أنها جائعة فقيل لها أن لا طعام لديهم. كان الصعود شاقاً والأعصاب مرهقة تنبض بالتوتر، ونادراً ما تنامت الى مسامعها أصوات غريبة.
لكن هيئ لها أن هناك أياد أخرى عديدة ساعدت في صعودها الى المرتفع. حتى إذا ما وصلت الى نقطة ما. . أزالوا الكيس الأسود عن وجهها، لتصطدم بعدد جرار من الضباط والجنود واقفين في جمود وامتعاض تتدلى الرشاشات من أكتفاهم. وعندما اقتادوها الى الداخل أدركت رغم الإضاءة الباهتة أنها بداخل إحدى المغارات. لكنها فشلت في تخمين موقعها . . أفي الشمال هي أم بالوسط أو بالجنوب؟ كانت تحس بدوار عنيف كمن فقد اتجاهه واتزانه، واستسلمت للأيدي التي تدفعها بقسوة الى عمق الكهف الممتد بباطن الجبل تتدلى صخوره كالأشباح المعلقة، وتبدو نتوءاته في ظلال الضوء المتحرك كجنيات الأساطير المرعبة. . وفجأة . . شق الصمت القاتل المحيد بوقع الأقدام صراخاً مريراً. . كأن هناك من يقد اللحم من جسد حي. وكلما اقترب مصدر الصراخ ابتعدت إرادة الأسيرة وذهب عقلها. فتصبب منها العرق المالح . . وارتعد الجسد الناعم المنهك السخي بالأنوثة . . ففقدت الى الأبد بصيص أمل في النجاة، وبينما يتشقق حلقومها الجاف المر الرضاب، انطلق بولها غصباً عنها ساخناً يزيد الجسد جفافاً وانطفاء، ويولد لديها أقصى مشاعر الرعب والهلع، عندما وقفت أمام مشهد مروع أطلقت المرأة صرخة سحبتها من جذور أظافر أصابعها حتى شعر رأسها. مشهد هو بحق أفظع من وصف مذبحة بشرية حية. فقد رأت أمينة المفتي فتاة علقت من ساقيها الى الحائط، تمتد خيوط الدم من كل موضع في جسدها لتتجمع في النهاية في بقعة متجلطة أسفل رأسها، وشعرها الطويل المدلى يصل حتى لقرب البقعة تفور منه صنابير الدماء المتفجرة. . وأفاقت أمينة على صوت القائد كأنه الصاعقة:
- أيتها العاهرة . . ارتدي البنطلون والسترة. "هكذا ترتدي النساء المعتقلات، لكي لا تظهر عوراتهن أثناء التعذيب" وأشار الى أحد الجنود: حل قيودها حتى تبدل ملابسها.
سخرت أمينة في حسرة من نفسها . . فقد كان جسدها العاري لوقت قريب يذيب العقول. الآن تقف عارية وعشرات الأعين ترقبها، لكنها تنظر اليها باختلاف عما اعتادته هي من نظرات الجوعى. يالكم من رجال أغبياء لا تدركون لسع أنوثتي . . وجحيمها. لو أنكم مائة رجل لأسلمت لكم نفسي . . طواعية . . طواعية . . مقابل شربة ماء. . وشريحة خبز صخري أسود". هكذا قالت في داخلها . . وهي تقف مسلوبة الإرادة بالملابس العسكرية التي ارتدتها، ترمقهم في انكسار وهم يدقون الحلقات الحديدية بالجدار ليعلقوها كزميلتها. لكن القائد الصارم الوجه قال بحسم:
- كبلوا يديها ورجليها على خلاف حتى يجيء أبو الهول " ضابط مخابرات فلسطيني محترف ترأس بعد ذلك مخابرات فتح".
هكذا ربطت أمينة بالجنازير الى الحائط، وحمل الجندي في تأفف ملابسها الداخلية المبتلة، في ذات الوقت الذي وصل فيه الطبيب لتضميد جروح زميلتها. وما هي إلا دقائق حتى انصرف الجميع، وخيم الصمت والظلال على المكان الموحش فازداد وحشة. وكان أنين الفتاة الأخرى هو مرآة الرعب بعينيها، وصدى الخوف في كهف السعرانة الذي تحال من حوله قصص خرافية، عن امرأة عقرها كلب مسعور فطفقت تجوب الوديان والجبال مسعورة، يطاردها الناس بالعصى والحجارة حتى التجأت الى الكهف الذي سُمي باسمها ووجدت به ميتة.
الحلقة السابعـة: السقوط في الفخ
كان الوقت قرب الفجر عندما أفاقت الفتاة، وأخذت تهذي باللغة الفرنسية التي كانت أمينة تجيدها فانتبهت الأسيرة اليها وقد خرجت عن محيط الهلع الذي غلفها، لقد حاولت أمينة طوال ساعتين أن تتحدث مع الفتاة دون جدوى. وما إن نطقت الأخيرة ببضع كلمات حتى صاحت أمينة بالفرنسية.
- أو . . يا عزيزتي . . حسبتك عربية مثلي.
كان الظلام شديداً جداً بداخل الكهف. وبرغم ذلك كانت أمينة تتجه بوجهها ناحية الفتاة وتبحلق في انتباه، وجاءها صوت ضعيف واهن تمتزج به حشرجة تتأرجح على اللسان في صعوبة:
أأنت عربية. . ؟
- نعم . . من الأردن . . لماذا يفعلون بك ذلك . . ؟
حظي المشؤوم يا عزيزتي . . حظي هو الذي جاء بي الى? هنا.
- فرنسية أنت؟
من شيربورج على بحر المانش.
- لماذا أنت هنا. . ؟
قصة طويلة لن أستطيع سردها. كل ما أطلبه منك أن تحفظي هذا الرقم جيداً، ولا تنسيه أبداً إن أطلقوا سراحك. إنه تليفون أمي في فرنسا.
- أولن يطلقوا سراحك؟
لا أظن . . فهم أناس متوحشون لا يعرفون الرحمة.
- أرجوك . . ساعديني وقصي علي حكايتك قبلما يجيئون . . ما اسمك أولاً يا أختاه . . ؟
سيمون . . سيمون دوابرفيه . . وأنت . .؟
- أنا أمينة . . أمينة المفتي. طبيبة متطوعة في لبنان. اعتقلوني بتهمة التجسس لحساب الموساد.
أوه . . يالحظك السيىء . .هل فعلوا معك مثلي؟
- من . . ؟
رجال الموساد هؤلاء الأوغاد الأغبياء. طلبوا مني أثناء سياحتي في إسرائيل أن أصور لهم ميناء صيدا ومخيمات اللاجئين، ومنحوني خمسمائة دولار مقدماً وكاميرا تلسكوبية. وبينما أقوم بمهمتي اعتقلني الفلسطينيون وعذبوني لأرشدهم عن بقية أعواني في لبنان مقابل إطلاق سراحي.
- أوأرشدتهم. . ؟
أقسمت لهم ألف مرة بأنني لا أعرف أحداً بلبنان لكنهم لا يصدقون. عشرة أيام هنا في الكهف اغتصبني أثناءها ثلاثون كلباً منهم، وماذقت سوى الخبز الجاف والماء العطن. لقد ضيعت نفسي بغبائي وحماقتي وحتماً سيقتلونني هنا. "انفجرت في بكاء هستيري" - أرجوك . . أمي ستموت حزناً لأنني وحيدتها . . اتصلي بها واخبريها بما حدث لي "وذكرت رقم الهاتف".
- أنا لا أضمن لك ذلك "بيأس" فمصيري أنا الأخرى مجهول. . ومظلم كهذا الكهف الكريه.
هل يشكون بك أيضاً. . ؟ إنهم أناس مرضى بالشك.
- نعم. . يشكون بي ولا دليل واحد لديهم.
بهمس . . أخدعك رجال الموساد مثلي. . ؟ لقد أقنعوني بأن الفلسطينيين أغبياء . . وفي حالة انكشافي فلن يتركوني بين أيديهم أبداً، وسيخطفونني كما خطفوا إيخمان النازي من الأرجنتين.
- هم قالوا لي أكثر من ذلك "هكذا سقطت أمينة في الفخ" ووعدوني بألا يمسني أحد مهما كانت ظروف اعتقالي .
بهمس: لا تعترفي بأي شيء لهم فكلما اعترفت طلبوا المزيد ...والمزيد واطلقوا كلابهم تفتك بك في ضراوة .
- أخشى ألا يرحموني.
سيعدونك بإطلاق سراحك: لأنك أجنبية، إذ أرشدتهم عن شركائك. لكنهم لن يفوا بوعدهم . . لن يفوا أبداً.
أوه . . يا الهي . . لقد جاءوا ليقتلوني.
فجر الحياة
قطع الحوار بينهما وقع أقدام ثقيلة تقترب، وسرعان ما ظهر ثلاثة ضباط يتبعهم عدد من الجنود يحملون الكشافات المبهرة، تجاهلوا أمينة واتجهوا الى الفتاة الفرنسية على بعد أربعة خطوات منها، وكانت المسكينة ترتجف في رعب، تلهث عيناها الزائغتين بحثاً عن شعاع أمل لإنقاذها، لكن الضابط الكبير الذي كان يبدو متبرماً عجولاً، أمر أحد مرافقيه أن يسألها لآخر مرة عن أعوانها في لبنان، ولما أجابت بالنفي أشار بيده في حركة ذات مغزى، فاصطف أربعة جنود يحملون بنادقهم الآلية، واتخذوا وضع الاستعداد وقد جذبوا أجزاء الرشاشات. وانطلقت الرصاصات الى صدر الفتاة فافترشت الأرض كومة من حطام. وامتد صراخ أمينة يشرخ جدران الكهف الصخرية، ويتموج ملتاعاً في جوف الليل الى عنان الفضاء، صراخ هيستيري متواصل يحمل أبشع مشاعرها رعباً وهي التي تعودت التوحش والسادية، وانتزعت ما بداخلها من نبضات رحمة وحنان. عندئذ قال أحد الضباط لقائده:
- سيادة العقيد أبو الهول . . ألا نعدمها هي الأخرى؟
أجاب أبو الهول على الفور:
- لو لم تتكلم قبل منتصف النهار، فلن نجد حلاً آخر.
ومشيراً الى الجنود في قرف:
- إرموا الجثة خلف الجبل، ودقوا رأسها بالصخور.
غمرت الكشافات جثة الفتاة الغارقة في دمها، وهنا . . هنا فقط . . عندما سحبوها من ذراعيها الى الخارج، ووقعت عينا أمينة على المشهد المروع، انهارت تماماً . . وفقدت آخر قلاع دفاعاتها، وصرخت في ذلك وضعف تستغيث:
- سأتكلم . . سأقول لكم كل شيء . . أخرجوني من هنا لأنني خائفة من الدم . . أخرجوني لأتكلم.
وبصوت أجش صاح فيها أبو الهول:
- أنت كاذبة . . ومخادعة . . وستضيعين وقتنا هراء.
وبحسم قال آمراً:
- علقوها من ساقيها واضربوها بالكرباج. وتحرم من الماء والطعام حتى أعود قبل الظهر.
وعند مدخل الكهف. . كانت الفتاة الفرنسية تقف في زهو، وقد علت وجهها ابتسامة رقيقة تتخلل الدم المستعار، وعندما أدركها أبو الهول ، ربت على كتفها وقال وهو ينظر بعيداً حيث الفجر الوليد:
- انظروا الى صديقتنا فرانسواز (*) . . إنها حقاً قامت بمعجزة. ونحن جميعاً نجلها لإخلاصها لنا. إنه إخلاص نقي بريء. . يشبه الفجر . . فجر الحياة . ونطقها بالفرنسية L’autre de la vie .
طريق الخلاص
وبينما يغادر العقيد أبو الهول كهف السعرانة ترافقه فرانسواز كاستيمان، كان صراخ أمينة لا يزال يتردد عالياً عبر الجنبات موشم بالهلع: أخرجوني . . سأتكلم . . سأعترف.
لكن الجنود كانوا قد شرعوا في تنفيذ أوامر قائدهم، إذ كبلوا قدميها بحزام عريض من الجلد، وعلقوها كالشاه الى سقف الكهف بواسطة سلسلة حديدية، وانهالوا على جسدها ضرباً بالكرابيج.
هكذا رسم الضابط الذكي خطته المحبكة لانتزاع اعترافاتها بأسرع ما يمكن، معتمداً أولاً على المتطوعة الفرنسية المخلصة في بث الرعب بقلب أمينة لتطويعها، واللجوء الى التعذيب الشديد ثانياً لتخور تماماً . . وفي خلال ساعات معدودة. فقد كان هناك وعد، أبو اياد لوزير الداخلية اللبناني الشيخ بهيج تقي الدين: بإنهاء التحقيق مع أمينة خلال ثلاثة أيام فقط، تسلم بعدها الى السلطات اللبنانية، وها هي الساعات الحرجة تمر سراعاً، ولم يتبق من المهلة سوى خمسين ساعة، بعدها لن يسمح بإبقائها رهن التحقيق لحظة واحدة، إذا لم يكن هناك اعتراف منها صريح، وواضح . . وعندئذ . . ستغادر لبنان في بجاحة المنتصر وهي تخرج لسانها للفلسطينيين.
لذلك . . عمد أبو الهول الى تجاهل رغبتها في أن تعترف، فهو يدرك لسابق خبراته الطويلة، أنها ستلف وتدور وتحيك الأكاذيب إذا ما أنصت اليها فوراً. . ولكي لا يضيع الوقت هباء . . رأى أن التعذيب بتلك الوسيلة سيختصر المسافة والوقت، خاصة وأنها تنطلق بشدة الى قمة لحظات الضعف الانساني، خوفاً من الاعدام. وهي المتمسكة والراغبة في الحياة، لقد كان الاقتتال عنيفاً مع عقارب الزمن، ومع تلك المرأة الخائنة الذكية، التي دربت في الموساد على المراوغة والدفاع. لذا فالتعذيب المؤلم سيصيب إرادتها بالشلل، ويقضي على تفاعلات عقلها وشحنات المقاومة به، بل إنه سيجتث فيها الكذب والخباثة، ويحيلها الى مجرد امرأة لا تفكر سوى في إنقاذ حياتها، مهما كانت التضحيات والخسائر، متجاهلة كل وعود الموساد بحمايتها، فالألم المصحوب بالهلع طريق سهل أحياناً للسيطرة على نوعية معينة من الجواسيس، إذا ما اغلقت أمامهم أبواب النجاة والأمل، والعقيد أبو الهول لم يعتمد على هذين الأسلوبين فقط، بل نشط في استغلال كافة ما لديه من معلومات ، حصل عليها رجال رصد في فيينا، لإخضاع العميلة إخضاعاً تاماً لا شك فيه ، وظهر ذلك جلياً في أسلوب الاستجواب المعقد الذي انتهجه بعد ذلك.
كانت الدقائق تمر رهيبة الوقع على العميلة الاسرائيلية، التي آمنت من قبل بأكذوبة الموساد الأسطورية، بأن الفلسطينيين لن يكشفوها أبداً، لأنهم رتبوا كل شيء لحمايتها في حالة كشفها، فرجال الكوماندوز الإسرائيليين، خاصة فريق العمليات الخاصة المعروف باسم السايريت ماتاكال سيعثرون عليها وسيخطفونها الى إسرائيل بالقوة، كما فعلوا مع النازي أدولف إيخمان الذي خطفوه من الأرجنتين عام 1960 وأعدموه في تل أبيب، ومع الطفل يوسيل شوماخر الذي اختطف من إسرائيل عام 1959 وعثرت عليه الموساد في نيويورك عام 1962 لكن العميلة الواهمة وقد أفاقت على الحقيقة المؤلمة، لفظت إيمانها العميق بالموساد، وآمنت - لحظة صراخها أمام مشهد الاعدام - بأن الاعتراف بصدق هو طريق الخلاص الوحيد من النهاية المرعبة. أما وقد علقوها الى السقف وتناوبوا ضربها بالسياط، فقد اشتد إصرارها على الاعتراف ليكف الجنود عن تمزيق جسدها، لكن الجند لم يرحموها . . واستمروا في تعذيبها دون اكتراث بصراخها، أو الى حقيقة أنهم يضربون امرأة . . كانت عربية !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق