ويكيليكس هي منظمة دولية غير ربحية تنشر تقارير وسائل الإعلام الخاصة والسرية من مصادر صحفية وتسريبات أخبارية مجهولة. بدأ موقعها على الإنترنت سنة 2006 تحت مسمى منظمة سن شاين الصحفية
أظهر بحث المركز العالمي لمراقبة اللغة، أن كلمة ويكيليكس ظهرت لأول مرة في وسائل الإعلام العالمية عام 2006، واستخدمت الكلمة حتى الآن أكثر من 300 مليون مرة، والمعيار الذي يضعه المركز يقضي باستخدام الكلمة على الأقل 25 ألف مرة في وسائل الإعلام التي تستخدم الإنكليزية. WikiLeak وهي كلمة مركبة من كلمة "ويكي" Wiki و تعني الباص المتنقل مثل المكوك من وإلى مكان معين، وكلمة Leaks"ليكس" وتعني بالإنكليزية "التسريبات". وويكيليكس نافذة إلكترونية لنشر وثائق سرية عن فساد الحكومات والشركات المتعددة الأطراف والأنظمة التي تمارسها على حساب الشعوب من أجل إطلاع الرأي العام.
التأسيس:
انطلق الموقع بداية من خلال حوار بين مجموعة من الناشطين على الإنترنت من أنحاء متفرقة من العالم مدفوعين بحرصهم على احترام وحماية حقوق الإنسان ومعاناته، بدءاً من قلة توفر الغذاء والرعاية الصحية والتعليم والقضايا الأساسية الأخرى.
ومن هذا المنطلق، رأى القائمون على الموقع أن أفضل طريقة لوقف هذه الانتهاكات هي كشفها وتسليط الضوء عليها على المستوى الشعبي، فقد قامت فكرة موقع ويكيليكس على مبدأ تحدي محاولات السلطات لكتمان المعلومات، وهي بهذا المفهوم تصبح جهازاً إعلامياً متخصصاً في التسريب. ويعمل الموقع على إتاحة المجال لمالكي المعلومات، وهم في الغالب موظفون حكوميون لهم أجندتهم السياسية أو الأخلاقية، لإيصال المعلومات للموقع دون كشف هويتهم. ويتولى الموقع بعد ذلك التحقق من المعلومات، ويقوم بنشر فحواها وإتاحة الوثائق نفسها على الموقع. وعملياً يؤرخ لتأسيس الموقع في أيلول 2006 حيث بدأ منذ ذلك الحين بالعمل على نشر المعلومات، وخوض الصراعات والمعارك القضائية والسياسية من أجل حماية المبادئ التي قام عليها، وأولها "مصداقية وشفافية المعلومات والوثائق التاريخية وحق الناس في خلق تاريخ جديد. وقد بنى قاعدة بيانات تتضمن أكثر من 1.2 مليون وثيقة، ينشرها بشتى اللغات ومنها اللغة العربية لأنها غالباً ما تكون غير قانونية أو غير أخلاقية. وقد دفعت مثل هذه الأوضاع مجموعة من المتطوعين إلى البحث عن وسيلة للكشف عن هذه الممارسات وإطلاع الرأي العام عليها.
يعتبر جوليان أسينج أحد أهم مؤسسيها، وهو يرى أن الحديث عن الفساد الذي تمارسه الأنظمة بكافة أجهزتها السلطوية لابدّ من كشفه، ويرى أن الصحافة والنشر الإلكتروني، اللذين غيّرا من الطرق التقليدية للصحافة مثل الفيزياء والرياضيات يجب أن يقوما على أسس ومعايير علمية، وأن يقترنا بالوثائق والبراهين، وربما جاء ذلك من خلال دراسته للرياضيات والفيزياء قبل ممارسته العمل الصحفي.
فازت ويكيليكس بعدد من الجوائز أهمها جائزة وسائل الإعلام الجديدة في 2008، وفي حزيران 2009 فازت المؤسسة وجوليان أسينج بجائزة منظمة العفو الدولية للإعلام ( فئة الإعلام الجديد) في المملكة المتحدة لنشره وثائق سرية كينية حول عمليات اغتيال تمت خارج نطاق القضاء أُطلق عليها " صرخة الدم " the Cry Of Blood في تقرير صادر عن المفوضية الدولية لحقوق الإنسان الكينية، وذلك بالكشف عن عمليات قتل قامت بها الشرطة الكينية. وفي أيار 2010 صنّفت نيويورك ديلي نيوز "ويكيليكس " في قائمة المواقع الإلكترونية التي يمكنها تغيير الأخبار .
وفي نيسان 2010 أرسلت "ويكيليكس" شريط فيديو يُصور حادثة قتل عراقيين مدنيين في شوارع العراق على أيدي القوات الأمريكية غير عابئين بهم على موقع الإنترنت يسمى (القتل المضمون) Collateral Murder ، وفي تموز 2010 نشرت ويكيليكس وثائق سرية تحت عنوان " يوميات الحرب السرية على أفغانستان" "Afghan War Diary"، وقد استطاعت تجميع ما يقرب من 76.900 وثيقة عن الحرب في أفغانستان غير متوفرة للرأي العام العالمي.
أسينج مدير مؤسسة ويكيليكس مطارد من قبل الأمريكان، وقد وصف بأنه يشكل خطراً على الأمن القومي الأمريكي، لما يمكن أن يسربه من أخبار عن طريق علاقاته بأمريكان وأفغان والتي يمكن أن تكشف خططاً أمريكية مستقبلية. وقد وصفت الوثائق التي يسربها الموقع عن الحرب في العراق أو أفغانستان بأنها من أكثر وأدق التفاصيل التي تكشف عن حرب أو نزاع مسلح عبر التاريخ.
موقع ويكيليكس نقطة تحوّل:
في كل عصر جديد هناك نقاط تحول أساسية، وتسريبات ويكيليكس 2010 تعتبر نقطة التحوّل الكبرى، التي كسرت هيمنة شبكات الأخبار العالمية وقلبت موازين القوى السياسية لصالح الأغلبية و ضدّ الشبكات الإخبارية العالمية التي كانت تسيطر على تدفق المعلومات وتوجهها حسب مصالحها الشخصية لآلاف السنين. وإذا اعتبرنا أن السيطرة على المعلومات والمعرفة هي القوة التي يمكن التلاعب بها من قبل الفئات المسيطرة، ولأكثر من عقد من الزمان، وجدنا أن وعود شبكة "الأنترنت" لابدّ أن تلعب دورها في تقويض وإضعاف الاستمرار الإيديولوجي للطبقات الحاكمة على المجتمع، مما سيؤدي بالضرورة إلى تحطم علاقات القوى السائدة، التي ظلت حكراً على الطوباويين التكنوقراطيين.
إن النمو المتسارع لأجهزة الاتصالات مهّد الطريق لإعادة تنشيط المنظمات الحرة القديمة وخلق أشكالٍ جديدة من الاتحاد بين الناس. ومع تسريبات الويكيليكس يشهد العالم ولادة مجتمع جديد من أولئك الذين يرغبون في الدفاع عن مستويات معيشتهم مما سيساهم بتغيير مسار السياسة، وخلق ثقافة مجتمعية جديدة لخدمة مصالح واحتياجات الغالبية. على مدى العقد الماضي تمّ تنظيم الكثير من الاحتجاجات والمظاهرات العالمية باستخدام الأنترنت، وقد بلغ هذا التصعيد الجديد في الأشهر الأخيرة من سنة 2010 حده الأقصى منهياً بذلك عصر هيمنة السرية في مجال الدبلوماسية والسياسة والشؤون العسكرية والشركات، مشكلاً يقظة عالمية للطبقات العاملة في أوروبا وأمريكا أمام الأزمات الاقتصادية التي وضعت الأنظمة السياسية شعوبها فيها من خلال سيطرة السياسة على الاقتصاد، ويمكن اعتبار التسريبات الأخيرة بداية أيقظت حس المعرفة والاطلاع على كل ما يدور في الشركات العابرة للقارات، والقواعد العسكرية المنتشرة في بقاع شتى من العالم، وفي سلاسل البنوك العالمية المتوزعة في القارات الخمس، وفي هياكل البنوك الأممية، والبرلمانات والقصور الرئاسية على وجه الأرض، ويمكن اعتبارها أيضاً تغييراً في الطريقة التي سترى بها الشعوب العالم وربما تساعدهم في بناء وحدة جديدة، لأن تلك الوثائق كشفت عن سجلات الولايات المتحدة من المحادثات والأحداث، التي تكشف أحلك الفترات من العمل الدبلوماسي الأمريكي، الذي اتسم بقواعد التعامل المزدوج، والذي غلبت عليه مظاهر التحايل والخداع والخيانة، متخذاً من الإجرام والإرهاب والفساد المستشري أحد أهم أدواته. وهذا يؤكد أن تلك التسريبات دمرت منهج النزاهة والاحترام والمصداقية الذي قام عليه العمل الدبلوماسي بين الدول، والتي وضعت من قبل النخب الحاكمة لعدة قرون.
تسريبات 2010 كانت اختراقاً للسائد والمألوف عبر تبنّيها لفكرة تسريب المعلومات وإذاعتها على الملأ، مما أكسبها بالتالي صفة البطولة التي تلبّستها، وبدت للكثير من الشعوب في أنحاء كثيرة من العالم بمثابة منبر لكل شخص يريد أن يجعل المعلومات السرية متاحة للجميع. وقد حدت تلك التسريبات الشعور الإنساني العالمي لدى كثير من المواطنين في الدول الديمقراطية بأن الحكومات تسيئ استخدام قوانين السرية لإخفاء معلومات لا مبرر لإخفائها، إما لأن الدولة ككل تتآمر على المواطنين، أو لأن بعض المسؤولين يريدون التستر على أخطائهم أو فضائحهم وجرائمهم. ذلك أن الدولة الديمقراطية مطالبة بقدر معقول من الشفافية في قراراتها، وإلا انتفت عنها صفة الديمقراطية وجوهرها القائم على مسؤولية الحكومة أمام الشعب. ولا يعني هذا أن على الحكومة أن تذيع كل أسرارها، ولكن هناك آليات للتعامل حتى مع أدق المعلومات السرية عبر أدوات المساءلة البرلمانية. وفي هذه الحالة يمارس نواب البرلمان ولجانهم المختصة الرقابة على الحكومة نيابة عن الشعب، ويحقّ لهم في بعض الأحيان الاطلاع على الوثائق السرية ومساءلة الوزراء وكبار الموظفين حول ما يريدون التحقق منه.
فوق ذلك يعتبر الإعلام الحرّ أحد أهم أدوات الرقابة والمساءلة في الدولة الديمقراطية، حيث يستخدم المسؤولون الإعلام لشرح سياساتهم وتبريرها، كما يسعى الصحافيون للاستقصاء عن بعض ما يجهد السياسيون لإخفائه، ويفرضون على النخبة السياسية درجة من الشفافية أكبر بكثير مما كانت هذه النخبة تفضله. وعليه فهناك شد وجذب مستمرين بين الحكومة من جهة والصحافة من جهة أخرى، حول حدود وطبيعة ما يجوز وما لا يجوز نشره. الأولون يستخدمون منطق الأمن القومي ومصالح الدولة العليا لحفظ الأسرار، والآخرون يؤكدون على حق الشعب في الاطلاع على أكبر قدر من تصرفات وممارسات الحاكمين باسمه.
وهنا لعبت التسريبات دوراً محورياً في هذا الصراع، فالتسريب يأتي في الأصل من داخل المؤسسة المعنية، حكومية كانت أم غير حكومية، ويستند على مبررات أخلاقية ومبدئية. فالموظف أو المسؤول الذي يتولى تسريب المعلومات ينطلق في الغالب من اكتشافه لممارسة إجرامية أو لا أخلاقية داخل المؤسسة التي يعمل بها، ومن إيمانه بأن المسؤولين تعمّدوا إخفاء هذه المعلومات عن الشعب لغرض غير نبيل، واستغلوا غطاء السرية القانونية لأهداف تخالف القانون روحاً أو نصاً. من هذا القبيل نجد التسريبات المتعلقة بقضية ووترغيت في عهد نيكسون نتيجة لشعور بعض المسؤولين بأن الرئيس نيكسون كان ضليعاً في التستر على محاولة السطو على مقر مؤتمر الحزب الديمقراطي.
هناك دوافع إشكالية تتعلق بمثل هذه التسريبات، كما حدث فيما يتعلق بدراسة أعدها البنتاغون عن حرب فيتنام، وكشفت أن الحكومة الأمريكية كانت تكذب على الشعب والكونغرس حول حقيقة التدخل الأمريكي هناك. والشيء نفسه يمكن أن يقال عن تسريب موظف بريطاني في عام 1984 لمعلومات تكشف أن الطيران البريطاني كان قد قصف سفينة أرجنتينية أثناء حرب الفولكلاند عام 1982 وهي خارج نطاق الحظر الذي فرضه سلاح الطيران الملكي حول الجزيرة، وعن قيام موظفة أخرى بكشف معلومات عن وصول نشرة نووية أمريكية سراً في بريطانيا في عام 1983. فنحن هنا أمام كشف أسرار عسكرية مما يوقع الفاعل تحت طائلة قوانين التجسس. ولكن هذا الأمر تمّ في إطار وجود رأي عام عريض معارض للحرب في فيتنام، أو لنشر الأسلحة الذرية في أوروبا في قمة الحرب الباردة، أو حرب الفولكلاند.
فعمليات التسريب الآنفة الذكر تستند إلى ضرورة الموازنة بين احترام القانون وحق المواطن في معرفة الحقيقة، وهي المبادئ نفسها التي ينادي بها الإعلاميون عموماً. وفي هذا المجال فإن الموظفين الذين يقومون بتسريب المعلومات يعلنون أنهم على استعداد لتحمل مسؤولية ما يقومون به، بما في ذلك الاعتقال والمحاكمة ودخول السجن والفصل من العمل. ولكنهم بالطبع يجتهدون أول الأمر في إخفاء هويتهم وتجنّب المساءلة. وبالمقابل فإن وسائل الإعلام التي تقوم بنشر المعلومات المسربة لا تتعرض للمساءلة إن ثبتت صحة المعلومات التي تنشر، إلا إذا أثبتت الحكومة أن تلك المعلومات تضر بالأمن القومي. وغالباً ما تتجنّب السلطات ملاحقة الإعلام والمسربين معاً إذا كانت المواد محرجة للغاية، كما حدث عندما سرّب بعض موظفي البرلمان البريطاني تفاصيل مصروفات النواب. فقد تعرّض البرلمانيون لهجمة إعلامية كانت من الشراسة بحيث أن محاولاتهم لفتح تحقيق في هوية من كشف المعلومات ومساعيهم لمنع نشرها بدت مخجلة إلى حدٍّ كبير، وعوملت من قبل الرأي العام على أنها من باب التمادي في الإثم، فتخلوا عنها بسرعة. ومن جانبهم فإن الإعلاميين يجتهدون في إخفاء وحماية مصادرهم، ويعتبرون هذا من حقوقهم غير القابلة للمساومة.
ولكي تكون لهذه التسريبات قيمة فلا بدّ أن تكون انتقائية، إذ لا فائدة تُرجى من تسريب كل شيء. فالحكومات، مثل الأسرة، لا يمكن أن تعيش في بيت من زجاج، لأن هناك وظائف لا بدّ أن تتم في الخفاء. ويستند التفسير الرسمي لضرورة حفظ الأسرار الرسمية بموجبات الأمن الوطني وضمان خصوصية المعاملات، لأن البديل هو انهيار الدولة وفشلها في أداء مهامها وانكشافها أمام الأعداء والمتربصين. وأما في حالة تسريبات ويكيليكس المتعلقة بالحرب على العراق وأفغانستان فيمكن تصنيفها ضمن مقولة (التفسير التآمري) الذي يرى في الدولة الرأسمالية حلقة تآمرية تقضي ليلها ونهارها في خداع الشعب والعالم وتسويق الأوهام للعوام. ويعتبر أبرز المروجين لهذه الرؤية البروفيسور نعوم تشومسكي في كتابه المشهور "صناعة الإجماع" (1988) الذي اتهم فيه الإعلام بالتواطؤ مع النخب السياسية والاقتصادية في تضليل الرأي العام بصورة منهجية وإخفاء الحقائق عنه من أجل الدفاع عن مصالح النخبة الرأسمالية. وكثير من الكتّاب اعتمدوا في كتاباتهم على وثائق سرية كما حدث مع نعوم تشومسكي في مقالة بالاعتماد على "وثيقة سريّة للغاية " يعود تاريخها إلى سنة 1979، وتمّ العثور عليها سنة 1986 عن طريق الصدفة, و تحمل عنوانا مثيراً "الأسلحة الصّامتة لخوض حرب هادئة", وهي عبارة عن كتيّب أو دليل للتحكّم في البشر وتدجين المجتمعات والسيطرة على المقدّرات, ويرجّح المختصّون على أنّها تعود إلى بعض دوائر النفوذ العالمي التي تجمع عادة كبار الساسة والرأسماليين والخبراء في مختلف المجالات.
كان للمقال وقتها أثر كبير لما فيه من فضح لخطط مفزعة يمكن تلمّس تطبيقاتها العينيّة بوضوح في السياسة الدولية, وحتّى المحليّة, وفي الخيارات الاقتصادية والتعليميّة أيضاً وبأن تلك الدول تحاول توجيه سلوك الناس والسيطرة على أفعالهم وتفكيرهم في مختلف بلدان العالم، عبر تحويل انتباه الرأي العام عن القضايا الهامة، والتغيرات التي تقررها النخب السياسية والاقتصادية، مع إغراق النّاس بوابل متواصل من وسائل الترفيه, مقابل شحّ المعلومات وندرتها. وهي استراتيجية ضرورية أيضاً لمنع العامة من الوصول إلى المعرفة الأساسية في مجالات العلوم والاقتصاد وعلم النفس وعلم الأعصاب، وعلم التحكم الآلي. حيث يحاول المتحكمون بالسياسة العالمية حسب الوثيقة "حافظوا على اهتمام الرأي العام بعيداً عن المشكلات الاجتماعية الحقيقية، اجعلوه مفتوناً بمسائل لا أهمية حقيقية لها. أبقوا الجمهور مشغولاً، مشغولاً، مشغولاً، لا وقت لديه للتفكير، وعليه العودة إلى المزرعة مع غيره من الحيوانات" .
ولا شك أن الدولة الحديثة ذات طبيعة تآمرية في جوهرها، خاصة فيما يتعلق بتعاملها مع الخارج. فالمجتمع الدولي ما يزال يسود فيه قانون الغاب رغم وجود المنظمات الأممية والمواثيق الدولية. وفي هذه الأدغال يسود منطق القوة، والمعلومات هي أكبر مصدر للقوة. ولهذا يُعتبر التجسس أحد أهم وسائل الدولة الحديثة، وبالقدر نفسه فإن الدولة القومية تتعامل بقسوة مع جواسيس الأعداء ومع المتهمين بالخيانة والتواطؤ مع العدو. ولكن الإشكال ينبع من أن الدولة الديمقراطية الحديثة مطالبة بالشفافية واحترام القانون في التعامل مع مواطنيها، وهناك إغراء للتلاعب بهذا الدور المزدوج لإخفاء معلومات قد تكون محرجة للحكومة والمسؤولين بدعوى حماية الأمن القومي، وهو تكتيك يلجأ إليه السياسيون والمسؤولون بكثرة، مما يستوجب يقظة الإعلام ووسائل الرقابة الأخرى لكشف مثل هذه الخدع.
يقدم نعوم تشومسكي في كتابه الجديد "السيطرة على الإعلام"، رؤية نقدية للدور السياسي للإعلام الأمريكي في التحكم في الرأي العام، ومسؤولية شركات العلاقات العامة التي تتعاقد معها الإدارات الأمريكية في بناء تصورات متحيزة حول كثير من القضايا والشؤون العامة التي تهمّ الإنسان الأمريكي في مجال سياسات الحكومة الداخلية والخارجية.
وإذا كان عدد من الكتاب والباحثين قد تناول قبل تشومسكي الدور الخطير للإعلام الأمريكي في تعليب الرأي العام وفق معطيات معينة تساهم في توجيهه بما يخدم الإدارات الأمريكية ويساعدها على تنفيذ سياساتها، فإن الجديد في كتاب تشومسكي الذي يثري به القارئ هو تحليل الفلسفة السياسية التي يستند عليها عدد من المثقفين والسياسيين الأمريكيين في تبرير دور الإعلام والدعاية في تحديد دور الجماهير في السياق الذي يتوافق مع توجهات الإدارات الأمريكية. كما أن تشومكي – في هذا الكتاب – يعود بنا في التاريخ ليبين لنا أن دور الإعلام الأمريكي في اختلاق الحقائق وتزييف التاريخ والتحيز السياسي الفاضح ليس وليد سياسة المحافظين الجدد – وإن كانوا قد أبدعوا في هذا المجال – وإنما يعود إلى عقود طويلة سابقة.
وفيما يتعلق بتسريبات ويكيليكس الأخيرة، فإن هناك عوامل عدة أعطتها وضعاً خاصاً بين التسريبات الإعلامية. فهي من جهة تسريبات بالجملة، يصعب تبريرها بحجة واحدة تغلب الدافع الأخلاقي، وهذا بدوره يعكس تطور أوضاع تداول المعلومات وتخزينها. ففي الماضي كان الحصول على وثيقة واحدة يفرض على طلابها أمثال جيمس بوند اجتراح المعجزات للدخول إلى عرين الأسد من رئاسة أجهزة مخابرات العدو أو مقر الخارجية. أما الآن فإن نقرة على فأرة الكمبيوتر يمكن أن تؤمن لك كل وثائق وكالة المخابرات الأمريكية وأنت جالس في عقر دارك، إن كانت لديك المفاتيح. وهناك أخيراً مسألة أن المنظمة التي تولّت التسريبات هي منظمة أجنبية، مما قد يوقعها تحت طائلة تهمة التجسس، بخلاف ما لو كانت المنظمة وطنية، عندها قد تتعرض لاتهامات أخرى.
الدولة الحديثة هي بلا شك في أحد جوانبها، حلقة تآمرية، ولكن هناك تباين حول الجهات التي تتآمر ضدها الدولة. فالدولة الديمقراطية تتآمر أكثر ضدّ الخارج وتكون أقل تآمراً على شعبها، بينما الحال هو العكس في الدول الدكتاتورية التي تتآمر أكثر على شعبها، غالباً بتواطؤ من الخارج. وهناك أوجه تشابه مهمة بين الدولة وعصابات المافيا، بحسب رأي عالم السياسة الأمريكي الشهير تشارلز تيلي. فكلاهما يتاجر بالحماية، ويزجي بضاعة لن تكون الحاجة ماسة إليها لولا ما يتسبّب هو فيه من مشكلات. وحين يعلن أحدهم الحرب على عصابة مافيا، فإنه لا بدّ أن يكون غاية في الحذر. يرى الكتّاب والمحللون أن تسريب وثائق "ويكيليكس" هو "انهيار للنظام المعلوماتي لدولة كبيرة هي الولايات المتحدة"، لم نشهد مثله، وأن الوثائق كشفت عن حجم الكذب والنفاق، لكن الحكومات التي أقلقتها التسريبات ستباشر من الآن عملها لتضمن ألا يتسرب المزيد من الوثائق والأسرار المحرجة،. وبالتأكيد سيؤدي هذا العمل إلى الشك في الدبلوماسية وهو أمر خطير، لأن نشر الشك في وظيفة الدبلوماسية كآلية للتواصل السياسي في العالم أمر شديد الخطورة والحساسية، وهو ما قال عنه وزير الخارجية السويدي كارل بيلدت في تعليقه على نشر الموقع للوثائق الأمريكية: "إنه يضعف الدبلوماسية".
ويكليكس أداة لكشف الحقيقة:
أكد مؤسس موقع ويكليكس في جلسة برلمانية علنية في مبنى البرلمان الأوروبي في بروكسل في 21 حزيران 2010 بأن الهدف الحقيقي وراء نشر مؤسسته للوثائق السرية بالدرجة الأولى هو هدف إنساني يبين أن الشعوب الأوروبية كشعب غربي لهم مواقف ضدّ الحرب الأمريكية على أية بقعة من العالم، وهذا ما عكسه موقعهم من خلال عملهم في الإعلام والاستفادة القصوى من التكنولوجيا المتاحة حالياً، هذه التكنولوجيا التي يمكنها الآن فضح الممارسات العدوانية للأنظمة ضدّ الشعوب الآمنة تحت ذرائع يتم خلقها وتوريدها إلى العالم بطرق مختلفة، وأكد على أنهم في موقع ويكيليكس يحاولون تسليط الضوء على خفايا الحروب ويريدون التركيز على الحقيقة التي تضيع في أروقة السفارات والوعود الدبلوماسية، وأشار إلى حقيقة أن الدبلوماسية الغربية تتلبّس الآن أقنعة لدرجة أن الإعلام الغربي بدأ يفقد مصداقيته التي حاولت الشعوب الأوروبية عبر نضالها الطويل إنجازها، فالقائمون على الإعلام الحر في أوروبا بدؤوا يتخوفون الآن من تقييده بسن قوانين شتى، لأنهم بدؤوا يشعرون أكثر من أي وقت مضى أن الآلة السياسية طغت على حرية الإعلام عبر توجهه ليكون طواعية لأهدافها سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي، فالإعلام الأوروبي موجه للخارج أو بعبارة أدق موجه للعرب (الأوروبيين ) وإعلام خارجي موجه للعرب في البلاد العربية، هذا بالضرورة أثرّ على طريقة تداول الحقائق وتشويه الحقيقية وما فعلناه في ويكيليكس هو وضع الحقيقة بيد الرأي العام العالمي . وأضاف أنه بنشرنا لآلاف الوثائق السرية حول سنوات الحرب الدائرة في أفغانستان، سنسلط المزيد من الأضواء على العنف المفرط والمعاناة اليومية التي خلفتها الحرب التي تخوضها الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون عند جبال الهندوكوش. وأضاف أسينج أنه يمكن لتلك الوثائق المنشورة أن تحدث تغيراًجذرياً في مواقف الرأي العام في المجتمعات الغربية وأصحاب التأثير السياسي والدبلوماسي فيها من الحرب الأمريكية في أفغانستان. واعتبر أن حجم المعلومات الضخم الذي كشفت عنه الوثائق سيجعل كل ما قيل ونشر حول حرب حلف شمال الأطلسي (الناتو) في أفغانستان بلا قيمة، ويهيل عليه ركام النسيان.
كيف تتمكن المؤسسة من الحصول على الوثائق السرية؟
أكد مؤسس الموقع أن شبكتهم تضم 800 متطوع يعملون بدوام جزئي ومئات الآلاف من المؤيدين، ويعتمدون - كما تسرب بعض الصحف منها النيويورك تايمز- على أجهزة خوادم في العديد من الدول التي توفر قوانينها المزيد من الحماية للتسريبات . وقال: إنه لا يمكنه التصريح للإعلاميين بأية معلومة سوى المعلن عنها أو الذي يتمّ تسريبه للإعلام. ويكفي أن أقول لكم إن ويكيليكس موقعها هو "كل مكان." ويقال في الإعلام إننا نستخدم اتصالات مشفرة، وهناك اشتباه في وجود مراقبة، نحن وفريق العمل الدولي الذي نعمل معه نحاول أن ننسف كل الأفكار التقليدية لنقل الخبر الصحفي، فنحن نستخدم شبكة من الأشخاص العاديين للحصول على الأخبار، وهو ما يطلق عليه خبراء الصحافة اسم "صحافة المواطنة"، ونعني استخدام العديد من الأشخاص لمعرفة الأمور بدلاً من الاعتماد على الصحفي الاستقصائي وحده.
علاقة ويكيليكس بالمؤسسات الإعلامية:
كثير من المختصين يحاولون البحث عن أسس العلاقة التي ربطت بين ويكيليكس والمؤسسات الإعلامية مثل صحف نيويورك تايمز الأمريكية و الغارديان البريطانية ومجلة دير شبيغل التي تنشر معلومات عن الوثائق السرية بالاعتماد على موقع ويكيليكس ، ردّ ذلك بعضهم إلى أنه يمكن أن يكون تعاون إعلامي بين ويكيليكس والمؤسسات الإعلامية الكبرى، والبعض الآخر يرى فيها سياسة إعلامية ذكية اتبعها مؤسسو الموقع لزيادة الإثارة والدعاية للمؤسسة.
ومن جهته أكّد مؤسس الموقع أن حصول المؤسسات الإعلامية العالمية الثلاث على الوثائق يعد أول محاولة من الموقع للتعاون مع وسائل إعلامية كبرى، رغبة منهم في دراسة تأثير هذا التعاون ومحاولة تكراره مستقبلا مع مؤسسات إعلامية دولية أخرى على نطاق واسع. ولكن اشترط القائمون على الموقع ضرورة مراعاة الصحيفتين والمجلة عدم تعريض حياة الجنود الغربيين في أفغانستان للخطر بنشرهم للوثائق، لذلك اقتصرت الغارديان على نشر جزء من الوثائق وليس كل ما حصلت عليه من وثائق، عكس حرصها على عدم تهديد العمليات العسكرية الدائرة عند جبال الهندوكوش.
تهديد لحياة المدنيين:
ذكر دانيال يتس Danial Yates الضابط السابق بوكالة المخابرات البريطانية لصحيفة الغارديان بأن تسريبات الويكيليكس لوثائق عن يوميات الحرب الأفغانية قد يعرض حياة مدنيين أفغان لخطر انتقام طالبان، وهنا يطرح التساؤل نفسه هل ستكون الحقيقة مكلفة ؟ وهل سيأتي نشر الحقيقة على حساب أشخاص مدنيين ؟ قدّم جوليان أسينج شرحاً مفصلاً بأنهم قبل أن يقدموا على نشر أية وثيقة يحاولون جاهدين عدم نشر أسماء أبرياء ويحاولون إخفاء النسخ الأصلية ضمانة لعدم وقوع تلك الوثائق في أيدي أناس لا تقدر المسؤولية، بالتأكيد وثائق الحرب السرية على أفغانستان تحتوي على أسماء أشخاص يتعاونون مع قوات حلف الناتو، ويمكن أن يشكّل هذا تهديداً لهم من قبل طالبان، ولكن لابدّ من نشر الحقيقة حتى تتضح معالم الصورة رغم محاولاتنا التدقيق في أسماء الأشخاص ووظائفهم، ولكن تسعى المؤسسة للكشف عن الوجه الآخر للحرب على الإنسان، وقد تكون الحقيقة مكلفة. ومن مبدأ أخلاقي وقبل نشرنا الوثائق في تموز 2010 حاولنا الاتصال بالبيت الأبيض طالبين منهم أن يحددوا أسماء قد يطالها خطر انتقام طالبان، ولكننا لم نتلق أي رد على ذلك، ونحن ما زال لدينا 15000 وثيقة سرية، يتم التدقيق فيها سطراً سطراً، وسيتم حذف أناس أبرياء قد يتعرضون لخطر انتقام طالبان لاتصالهم مع قوات حلف الناتو.
المخابرات الأمريكية تطارد مؤسس الموقع:
تبرر المخابرات الأمريكية مطاردتها لمؤسسي الموقع بحجة خطورتهم على الأمن القومي الأمريكي، وتعتبر جوليان أسينج Julian Assange مهدداً حقيقياً للأمن القومي الأمريكي ليس بتهمة إرهابية، وإنما بتهمة كشفه للحقائق عن طريق ممارسة العمل الصحفي بشكل مختلف تماماً عن السائد والمألوف، فقد استطاع الحصول بطريقته الخاصة على مجموعة ضخمة من الوثائق التي تثبت تورط الأمريكان في كثير من الجرائم الإنسانية وجرائم الحرب، وقام بنشرها ليفضح كل الطروحات الأمريكية التي تختفي في كل مرة خلف قناع معين .
ولكن أكد أسينج أن السبب الحقيقي وراء التخوّف الأمريكي منه ومن موقعه هو الخوف من الحقيقة التي تعكس صورتهم الحقيقية، لأن ما يجعل أمريكا اليوم متواجدة على الساحة العالمية هي حالة الشيزوفرينا، التي يعاني منها أفراد إداراتها، فهم يظهرون صورتهم عكس الحقيقة ويكرهون مواجهة تلك الحقيقة الصعبة، وهم يطاردونني لأنهم يعرفون أنني أحب البحث عن الحقيقة ، لأنشرها.
ردود الفعل الأوروبية:
تراوحت ردود الفعل في الأوساط الدبلوماسية في العالم بين الصدمة والإحراج، إثر قيام موقع "ويكيليكس" بنشر مضمون نحو ربع مليون برقية دبلوماسية أمريكية، كشفت بشكل خاص الخوف الكامن لدى الكثير من الدول إزاء البرنامج النووي الإيراني.
وفي سياق ردود الفعل الأوروبية أعرب وزير الخارجية الإيطالي فرانكو فراتيني عن خشيته أن تكون هذه التسريبات مثل هجمات 11 أيلول بالنسبة للدبلوماسية، وأن تنسف الثقة بين الدول. وفي مقابلة معه ضمن برنامج تلفزيوني قال: " إن تسريبات ويكيليكس تؤثر في صميم العمل الدبلوماسي العالمي لأنها تقوّض الثقة المتبادلة التي هي أساس العلاقات الدولية."
كما نشرت صحيفة "الغارديان" البريطانية آراء مختلفة حول التسريبات بذكرها : "تسرُّب البرقيات الأمريكية يشعل أزمة دبلوماسية عالمية". وكانت الغارديان حصلت على هذه الوثائق من موقع ويكيليكس مثلها مثل أربع من كبار الصحف العالمية الأخرى هي نيويورك تايمز الأمريكية، واللموند الفرنسية، والباييس الإسبانية وديرشيبغل الألمانية.
وبخلاف التسريبات الأولى لويكيليكس حول أفغانستان في تموز 2010 التي لم تتضمن سوى القليل من الأسرار، وحول العراق في تشرين الأول التي ركزت على التجاوزات التي تقوم بها الفصائل المتنازعة في العراق، فإن الوثائق الأخيرة ألقت الضوء بفجاجة على خلفيات الدبلوماسية الأمريكية ووضعت الولايات المتحدة في موقف حرج.
هذا وأدانت بريطانيا من جهتها النشر بقولها: "أي نشر غير مسموح به لمعلومات سرية" معتبرة أن هذا الأمر يمكن " أن يعرّض الأمن القومي للخطر".
وفي فرنسا، أعلن المتحدث باسم الحكومة الفرنسية فرانسوا باروان أنّ باريس "متضامنة تماماً مع الإدارة الأمريكية" ضدّ نشر هذه الوثائق، الذي قد يشكّل حسب قوله "تهديداً للسلطات الديمقراطية".
وفضّلت الأمم المتحدة عدم التعليق على الوثائق التي تشير إلى طلب الجانب الأمريكي جمع معلومات حول كبار موظفيها في العالم، إلا أنّها شددت على ضرورة "احترام الدول الأعضاء" لحصانة موظفيها.
كما ندّدت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون بنشر موقع ويكيليكس لمراسلات سرية بين واشنطن وحلفائها واعتبرته عملاً غير قانوني، وقالت كلينتون: إن التسريبات تشكّل هجوماً ليس فقط على مصالح السياسة الخارجية الأمريكية بل وعلى المجتمع الدولي.
وفي الكيان الإسرائيلي أعلن مسؤول إسرائيلي كبير أنّ "إسرائيل" تشعر بالارتياح بعدما كانت تخشى إحراجاً جدياً بفعل مضمون الوثائق الأمريكية التي نشرها موقع ويكيليكس. وقال مسؤول حكومي كبير رافضاً الكشف عن اسمه، تعليقاًعلى ما نشره الموقع حتى الآن "خرجنا بصورة جيدة".
تداعيات هذه التسريبات على مستقبل العمل الدبلوماسي وسريّة المراسلات الرسمية بين الدول:
أعلن موقع ويكيليكس أنه أراد بنشره لهذه الوثائق تسليط الضوء على "التعارض" بين الموقف الرسمي الأمريكي "وما يقال خلف الأبواب الموصدة"، وقد رسمت تسريبات ويكيليكس صورة لعلاقات وزعامات دول العالم بعيدة عن المجاملات الدبلوماسية المألوفة، دول عربية تحث واشنطن على ضرب إيران، و"إسرائيل" تريد ذلك في أقرب وقت. ديمقراطية روسية تحتضر في ظلّ رئيس دمية يتحكم بها فلاديمير بوتين، ونظرة متوجسة لنيكولا ساركوزي وأخرى تستخف بكفاءة أنجيلا ميركل، وصولاً إلى مواقف غير معروفة عن الصين، معطيات أثارت موجة ردود شكّلت في نظر كثيرين بوادر أزمة دبلوماسية عالمية من نوع جديد، هذه التسريبات ستؤدي بالضرورة إلى إجراءات رسمية وسرية ربما بدأت معظم الدول في البحث عن وسائل خاصة بها حفاظاً على أقصى سريّة ممكنة لوثائقها.
غايات وأهداف خفية من وراء ويكيليكس:
يقع نشر الوثائق الدبلوماسية الأمريكية ضمن عدة سيناريوهات، ويمكن أن يكون ويكيليكس فخاً اقتصادياً للعرب، فبعد كل الملابسات التي أحاطت بموقع ويكيليكس ومؤسسيه من المدافعين عن حقوق الإنسان يبدو أن الأمر برمته عبارة عن فيلم أمريكي طويل من نوع الأكشن، ولكنه بمثابة الفخ أو الطعم الذي يُرمى للمتلهفين إلى الفرقعة الإعلامية، والذين يضعون أنفسهم دون أن يدروا أحياناً كأدوات بيد الآلة الدعائية العالمية، التي تشرف مراكز الأبحاث الأمريكية على صناعتها وترويجها .
وفي قضية ويكيليكس يبدو أن المنطقة العربية قد دهشت وصدقت الكشوفات التي قام بها هذا الشاب الذي سرّب مجموعة من الوثائق لم تستطع أن تدهش الجمهور المعادي لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية، لأن هذا الجمهور يعي جيداً كل التجاوزات الأمريكية بحق البلدان والناس والقيم.
ويبدو أن اللعبة أبعد بكثير من مسألة كشف وثائق تدين أمريكا، فمن الواضح أن هناك اتفاقاً صريحاً أو غير صريح بين الموقع وصاحبه أسينج والولايات المتحدة يهدف إما إلى إعطائه مصداقية عالية ليسرّب بعدها معلومات ضدّ دول معادية لأمريكا، لأن الوثائق التي سربت ضدّ الولايات المتحدة لن يستطيع أحد أن يتخذها ذريعة لضرب الولايات المتحدة كما تفعل حينما تبحث عن ذرائع لضرب أعدائها، أو لهدف اقتصادي مبني على لعبة إعلانية وإعلامية مرتبطة بشركات البرمجة العالمية، حيث يمكن أن يتم تضخيم وتهويل حركة التجسس الإلكتروني، وقد يكون من وراء ذلك كله صفقة رابحة لأصحاب تلك الشركات، الذين يرتبط معظمهم بالسلطة السياسية، وذلك لإنتاج برامج جديدة لحماية منظومة البرامج الإلكترونية، وخاصة ذات لطابع السرّي، وبالتالي يتم تسريب تلك المعلومات على موقع ويكيليكس، وإظهار صاحب الموقع على أنه صاحب المصداقية وأنه شهيد المرحلة لتمرير أي هدف اقتصادي، أو حتى سياسي، ويتلقّف العالم العربي مثل تلك الألعاب، ويقع مباشرة في فخ تصديقها باعتبارنا مجتمعات وأشخاص نعيش حيوات سرّية متعددة.
الخلاصة :
تعتبر ظاهرة ويكيليكس نقطة تحوّل تاريخية في طرائق العمل والاتصال الدبلوماسي، ودرجة السرّية فيه، والقدر المسموح من الحقيقة بالظهور، خاصة في ظل ثورة الاتصال والفيسبوك وتدفق المعلومات على الشبكة العالمية، ولقد مارست صحف ومحطات تلفزيونية عالمية نشر وثائق على جانب كبير من الأهمية، كان آخر ذلك ما نشرته محطة الجزيرة الفضائية عن وثائق المفاوضات الإسرائيلية-الفلسطينية، وما نشرته محطة الجديد التلفزيونية اللبنانية عن وثائق التحقيق في اغتيال الحريري .
ونحن إذ نقدم هذه الدراسة فإنه من السابق لأوانه تقييم ويكليكس في الدوافع والغايات، ومن يقف وراء هذه الظاهرة، ونحن لا نتبنّى إلا الحقائق، وندعو للتدقيق العلمي والحذر الدائم، ولكن الظاهرة في حدّ ذاتها أحدثت تأثيراً في المجال الدبلوماسي والإعلامي، وما زالت تفاعلاتها مستمرة حتى الآن، وكل ما نطلبه هو الشفافية في التعامل خاصة فضح الكيان الصهيوني وممارساته.
مقدمة
دخلت كلمة WikiLeaks قاموس اللغة الإنكليزية في 26 كانون الأول 2010 وتمّ الاعتراف بها ضمن قائمة الأسماء الصحيحة التي شاع استخدامها بدرجة كبيرة، مما أهّلها لتكون واحدة من المصطلحات الإعلامية رسمياً وانضمت إلى عدد من وسائل الإعلام الجديدة وشركات التكنولوجيا الكبرى التي دخلت أسماؤها وأعمالها اللغة منها: "جوجل" و"تويتر" والموقع الاجتماعي فيس بوك."خاصة أنها حققت معايير الانتشار والعمق المطلوبة لتصبح كلمة في حد ذاتها. أظهر بحث المركز العالمي لمراقبة اللغة، أن كلمة ويكيليكس ظهرت لأول مرة في وسائل الإعلام العالمية عام 2006، واستخدمت الكلمة حتى الآن أكثر من 300 مليون مرة، والمعيار الذي يضعه المركز يقضي باستخدام الكلمة على الأقل 25 ألف مرة في وسائل الإعلام التي تستخدم الإنكليزية. WikiLeak وهي كلمة مركبة من كلمة "ويكي" Wiki و تعني الباص المتنقل مثل المكوك من وإلى مكان معين، وكلمة Leaks"ليكس" وتعني بالإنكليزية "التسريبات". وويكيليكس نافذة إلكترونية لنشر وثائق سرية عن فساد الحكومات والشركات المتعددة الأطراف والأنظمة التي تمارسها على حساب الشعوب من أجل إطلاع الرأي العام.
التأسيس:
انطلق الموقع بداية من خلال حوار بين مجموعة من الناشطين على الإنترنت من أنحاء متفرقة من العالم مدفوعين بحرصهم على احترام وحماية حقوق الإنسان ومعاناته، بدءاً من قلة توفر الغذاء والرعاية الصحية والتعليم والقضايا الأساسية الأخرى.
ومن هذا المنطلق، رأى القائمون على الموقع أن أفضل طريقة لوقف هذه الانتهاكات هي كشفها وتسليط الضوء عليها على المستوى الشعبي، فقد قامت فكرة موقع ويكيليكس على مبدأ تحدي محاولات السلطات لكتمان المعلومات، وهي بهذا المفهوم تصبح جهازاً إعلامياً متخصصاً في التسريب. ويعمل الموقع على إتاحة المجال لمالكي المعلومات، وهم في الغالب موظفون حكوميون لهم أجندتهم السياسية أو الأخلاقية، لإيصال المعلومات للموقع دون كشف هويتهم. ويتولى الموقع بعد ذلك التحقق من المعلومات، ويقوم بنشر فحواها وإتاحة الوثائق نفسها على الموقع. وعملياً يؤرخ لتأسيس الموقع في أيلول 2006 حيث بدأ منذ ذلك الحين بالعمل على نشر المعلومات، وخوض الصراعات والمعارك القضائية والسياسية من أجل حماية المبادئ التي قام عليها، وأولها "مصداقية وشفافية المعلومات والوثائق التاريخية وحق الناس في خلق تاريخ جديد. وقد بنى قاعدة بيانات تتضمن أكثر من 1.2 مليون وثيقة، ينشرها بشتى اللغات ومنها اللغة العربية لأنها غالباً ما تكون غير قانونية أو غير أخلاقية. وقد دفعت مثل هذه الأوضاع مجموعة من المتطوعين إلى البحث عن وسيلة للكشف عن هذه الممارسات وإطلاع الرأي العام عليها.
يعتبر جوليان أسينج أحد أهم مؤسسيها، وهو يرى أن الحديث عن الفساد الذي تمارسه الأنظمة بكافة أجهزتها السلطوية لابدّ من كشفه، ويرى أن الصحافة والنشر الإلكتروني، اللذين غيّرا من الطرق التقليدية للصحافة مثل الفيزياء والرياضيات يجب أن يقوما على أسس ومعايير علمية، وأن يقترنا بالوثائق والبراهين، وربما جاء ذلك من خلال دراسته للرياضيات والفيزياء قبل ممارسته العمل الصحفي.
فازت ويكيليكس بعدد من الجوائز أهمها جائزة وسائل الإعلام الجديدة في 2008، وفي حزيران 2009 فازت المؤسسة وجوليان أسينج بجائزة منظمة العفو الدولية للإعلام ( فئة الإعلام الجديد) في المملكة المتحدة لنشره وثائق سرية كينية حول عمليات اغتيال تمت خارج نطاق القضاء أُطلق عليها " صرخة الدم " the Cry Of Blood في تقرير صادر عن المفوضية الدولية لحقوق الإنسان الكينية، وذلك بالكشف عن عمليات قتل قامت بها الشرطة الكينية. وفي أيار 2010 صنّفت نيويورك ديلي نيوز "ويكيليكس " في قائمة المواقع الإلكترونية التي يمكنها تغيير الأخبار .
وفي نيسان 2010 أرسلت "ويكيليكس" شريط فيديو يُصور حادثة قتل عراقيين مدنيين في شوارع العراق على أيدي القوات الأمريكية غير عابئين بهم على موقع الإنترنت يسمى (القتل المضمون) Collateral Murder ، وفي تموز 2010 نشرت ويكيليكس وثائق سرية تحت عنوان " يوميات الحرب السرية على أفغانستان" "Afghan War Diary"، وقد استطاعت تجميع ما يقرب من 76.900 وثيقة عن الحرب في أفغانستان غير متوفرة للرأي العام العالمي.
أسينج مدير مؤسسة ويكيليكس مطارد من قبل الأمريكان، وقد وصف بأنه يشكل خطراً على الأمن القومي الأمريكي، لما يمكن أن يسربه من أخبار عن طريق علاقاته بأمريكان وأفغان والتي يمكن أن تكشف خططاً أمريكية مستقبلية. وقد وصفت الوثائق التي يسربها الموقع عن الحرب في العراق أو أفغانستان بأنها من أكثر وأدق التفاصيل التي تكشف عن حرب أو نزاع مسلح عبر التاريخ.
موقع ويكيليكس نقطة تحوّل:
في كل عصر جديد هناك نقاط تحول أساسية، وتسريبات ويكيليكس 2010 تعتبر نقطة التحوّل الكبرى، التي كسرت هيمنة شبكات الأخبار العالمية وقلبت موازين القوى السياسية لصالح الأغلبية و ضدّ الشبكات الإخبارية العالمية التي كانت تسيطر على تدفق المعلومات وتوجهها حسب مصالحها الشخصية لآلاف السنين. وإذا اعتبرنا أن السيطرة على المعلومات والمعرفة هي القوة التي يمكن التلاعب بها من قبل الفئات المسيطرة، ولأكثر من عقد من الزمان، وجدنا أن وعود شبكة "الأنترنت" لابدّ أن تلعب دورها في تقويض وإضعاف الاستمرار الإيديولوجي للطبقات الحاكمة على المجتمع، مما سيؤدي بالضرورة إلى تحطم علاقات القوى السائدة، التي ظلت حكراً على الطوباويين التكنوقراطيين.
إن النمو المتسارع لأجهزة الاتصالات مهّد الطريق لإعادة تنشيط المنظمات الحرة القديمة وخلق أشكالٍ جديدة من الاتحاد بين الناس. ومع تسريبات الويكيليكس يشهد العالم ولادة مجتمع جديد من أولئك الذين يرغبون في الدفاع عن مستويات معيشتهم مما سيساهم بتغيير مسار السياسة، وخلق ثقافة مجتمعية جديدة لخدمة مصالح واحتياجات الغالبية. على مدى العقد الماضي تمّ تنظيم الكثير من الاحتجاجات والمظاهرات العالمية باستخدام الأنترنت، وقد بلغ هذا التصعيد الجديد في الأشهر الأخيرة من سنة 2010 حده الأقصى منهياً بذلك عصر هيمنة السرية في مجال الدبلوماسية والسياسة والشؤون العسكرية والشركات، مشكلاً يقظة عالمية للطبقات العاملة في أوروبا وأمريكا أمام الأزمات الاقتصادية التي وضعت الأنظمة السياسية شعوبها فيها من خلال سيطرة السياسة على الاقتصاد، ويمكن اعتبار التسريبات الأخيرة بداية أيقظت حس المعرفة والاطلاع على كل ما يدور في الشركات العابرة للقارات، والقواعد العسكرية المنتشرة في بقاع شتى من العالم، وفي سلاسل البنوك العالمية المتوزعة في القارات الخمس، وفي هياكل البنوك الأممية، والبرلمانات والقصور الرئاسية على وجه الأرض، ويمكن اعتبارها أيضاً تغييراً في الطريقة التي سترى بها الشعوب العالم وربما تساعدهم في بناء وحدة جديدة، لأن تلك الوثائق كشفت عن سجلات الولايات المتحدة من المحادثات والأحداث، التي تكشف أحلك الفترات من العمل الدبلوماسي الأمريكي، الذي اتسم بقواعد التعامل المزدوج، والذي غلبت عليه مظاهر التحايل والخداع والخيانة، متخذاً من الإجرام والإرهاب والفساد المستشري أحد أهم أدواته. وهذا يؤكد أن تلك التسريبات دمرت منهج النزاهة والاحترام والمصداقية الذي قام عليه العمل الدبلوماسي بين الدول، والتي وضعت من قبل النخب الحاكمة لعدة قرون.
تسريبات 2010 كانت اختراقاً للسائد والمألوف عبر تبنّيها لفكرة تسريب المعلومات وإذاعتها على الملأ، مما أكسبها بالتالي صفة البطولة التي تلبّستها، وبدت للكثير من الشعوب في أنحاء كثيرة من العالم بمثابة منبر لكل شخص يريد أن يجعل المعلومات السرية متاحة للجميع. وقد حدت تلك التسريبات الشعور الإنساني العالمي لدى كثير من المواطنين في الدول الديمقراطية بأن الحكومات تسيئ استخدام قوانين السرية لإخفاء معلومات لا مبرر لإخفائها، إما لأن الدولة ككل تتآمر على المواطنين، أو لأن بعض المسؤولين يريدون التستر على أخطائهم أو فضائحهم وجرائمهم. ذلك أن الدولة الديمقراطية مطالبة بقدر معقول من الشفافية في قراراتها، وإلا انتفت عنها صفة الديمقراطية وجوهرها القائم على مسؤولية الحكومة أمام الشعب. ولا يعني هذا أن على الحكومة أن تذيع كل أسرارها، ولكن هناك آليات للتعامل حتى مع أدق المعلومات السرية عبر أدوات المساءلة البرلمانية. وفي هذه الحالة يمارس نواب البرلمان ولجانهم المختصة الرقابة على الحكومة نيابة عن الشعب، ويحقّ لهم في بعض الأحيان الاطلاع على الوثائق السرية ومساءلة الوزراء وكبار الموظفين حول ما يريدون التحقق منه.
فوق ذلك يعتبر الإعلام الحرّ أحد أهم أدوات الرقابة والمساءلة في الدولة الديمقراطية، حيث يستخدم المسؤولون الإعلام لشرح سياساتهم وتبريرها، كما يسعى الصحافيون للاستقصاء عن بعض ما يجهد السياسيون لإخفائه، ويفرضون على النخبة السياسية درجة من الشفافية أكبر بكثير مما كانت هذه النخبة تفضله. وعليه فهناك شد وجذب مستمرين بين الحكومة من جهة والصحافة من جهة أخرى، حول حدود وطبيعة ما يجوز وما لا يجوز نشره. الأولون يستخدمون منطق الأمن القومي ومصالح الدولة العليا لحفظ الأسرار، والآخرون يؤكدون على حق الشعب في الاطلاع على أكبر قدر من تصرفات وممارسات الحاكمين باسمه.
وهنا لعبت التسريبات دوراً محورياً في هذا الصراع، فالتسريب يأتي في الأصل من داخل المؤسسة المعنية، حكومية كانت أم غير حكومية، ويستند على مبررات أخلاقية ومبدئية. فالموظف أو المسؤول الذي يتولى تسريب المعلومات ينطلق في الغالب من اكتشافه لممارسة إجرامية أو لا أخلاقية داخل المؤسسة التي يعمل بها، ومن إيمانه بأن المسؤولين تعمّدوا إخفاء هذه المعلومات عن الشعب لغرض غير نبيل، واستغلوا غطاء السرية القانونية لأهداف تخالف القانون روحاً أو نصاً. من هذا القبيل نجد التسريبات المتعلقة بقضية ووترغيت في عهد نيكسون نتيجة لشعور بعض المسؤولين بأن الرئيس نيكسون كان ضليعاً في التستر على محاولة السطو على مقر مؤتمر الحزب الديمقراطي.
هناك دوافع إشكالية تتعلق بمثل هذه التسريبات، كما حدث فيما يتعلق بدراسة أعدها البنتاغون عن حرب فيتنام، وكشفت أن الحكومة الأمريكية كانت تكذب على الشعب والكونغرس حول حقيقة التدخل الأمريكي هناك. والشيء نفسه يمكن أن يقال عن تسريب موظف بريطاني في عام 1984 لمعلومات تكشف أن الطيران البريطاني كان قد قصف سفينة أرجنتينية أثناء حرب الفولكلاند عام 1982 وهي خارج نطاق الحظر الذي فرضه سلاح الطيران الملكي حول الجزيرة، وعن قيام موظفة أخرى بكشف معلومات عن وصول نشرة نووية أمريكية سراً في بريطانيا في عام 1983. فنحن هنا أمام كشف أسرار عسكرية مما يوقع الفاعل تحت طائلة قوانين التجسس. ولكن هذا الأمر تمّ في إطار وجود رأي عام عريض معارض للحرب في فيتنام، أو لنشر الأسلحة الذرية في أوروبا في قمة الحرب الباردة، أو حرب الفولكلاند.
فعمليات التسريب الآنفة الذكر تستند إلى ضرورة الموازنة بين احترام القانون وحق المواطن في معرفة الحقيقة، وهي المبادئ نفسها التي ينادي بها الإعلاميون عموماً. وفي هذا المجال فإن الموظفين الذين يقومون بتسريب المعلومات يعلنون أنهم على استعداد لتحمل مسؤولية ما يقومون به، بما في ذلك الاعتقال والمحاكمة ودخول السجن والفصل من العمل. ولكنهم بالطبع يجتهدون أول الأمر في إخفاء هويتهم وتجنّب المساءلة. وبالمقابل فإن وسائل الإعلام التي تقوم بنشر المعلومات المسربة لا تتعرض للمساءلة إن ثبتت صحة المعلومات التي تنشر، إلا إذا أثبتت الحكومة أن تلك المعلومات تضر بالأمن القومي. وغالباً ما تتجنّب السلطات ملاحقة الإعلام والمسربين معاً إذا كانت المواد محرجة للغاية، كما حدث عندما سرّب بعض موظفي البرلمان البريطاني تفاصيل مصروفات النواب. فقد تعرّض البرلمانيون لهجمة إعلامية كانت من الشراسة بحيث أن محاولاتهم لفتح تحقيق في هوية من كشف المعلومات ومساعيهم لمنع نشرها بدت مخجلة إلى حدٍّ كبير، وعوملت من قبل الرأي العام على أنها من باب التمادي في الإثم، فتخلوا عنها بسرعة. ومن جانبهم فإن الإعلاميين يجتهدون في إخفاء وحماية مصادرهم، ويعتبرون هذا من حقوقهم غير القابلة للمساومة.
ولكي تكون لهذه التسريبات قيمة فلا بدّ أن تكون انتقائية، إذ لا فائدة تُرجى من تسريب كل شيء. فالحكومات، مثل الأسرة، لا يمكن أن تعيش في بيت من زجاج، لأن هناك وظائف لا بدّ أن تتم في الخفاء. ويستند التفسير الرسمي لضرورة حفظ الأسرار الرسمية بموجبات الأمن الوطني وضمان خصوصية المعاملات، لأن البديل هو انهيار الدولة وفشلها في أداء مهامها وانكشافها أمام الأعداء والمتربصين. وأما في حالة تسريبات ويكيليكس المتعلقة بالحرب على العراق وأفغانستان فيمكن تصنيفها ضمن مقولة (التفسير التآمري) الذي يرى في الدولة الرأسمالية حلقة تآمرية تقضي ليلها ونهارها في خداع الشعب والعالم وتسويق الأوهام للعوام. ويعتبر أبرز المروجين لهذه الرؤية البروفيسور نعوم تشومسكي في كتابه المشهور "صناعة الإجماع" (1988) الذي اتهم فيه الإعلام بالتواطؤ مع النخب السياسية والاقتصادية في تضليل الرأي العام بصورة منهجية وإخفاء الحقائق عنه من أجل الدفاع عن مصالح النخبة الرأسمالية. وكثير من الكتّاب اعتمدوا في كتاباتهم على وثائق سرية كما حدث مع نعوم تشومسكي في مقالة بالاعتماد على "وثيقة سريّة للغاية " يعود تاريخها إلى سنة 1979، وتمّ العثور عليها سنة 1986 عن طريق الصدفة, و تحمل عنوانا مثيراً "الأسلحة الصّامتة لخوض حرب هادئة", وهي عبارة عن كتيّب أو دليل للتحكّم في البشر وتدجين المجتمعات والسيطرة على المقدّرات, ويرجّح المختصّون على أنّها تعود إلى بعض دوائر النفوذ العالمي التي تجمع عادة كبار الساسة والرأسماليين والخبراء في مختلف المجالات.
كان للمقال وقتها أثر كبير لما فيه من فضح لخطط مفزعة يمكن تلمّس تطبيقاتها العينيّة بوضوح في السياسة الدولية, وحتّى المحليّة, وفي الخيارات الاقتصادية والتعليميّة أيضاً وبأن تلك الدول تحاول توجيه سلوك الناس والسيطرة على أفعالهم وتفكيرهم في مختلف بلدان العالم، عبر تحويل انتباه الرأي العام عن القضايا الهامة، والتغيرات التي تقررها النخب السياسية والاقتصادية، مع إغراق النّاس بوابل متواصل من وسائل الترفيه, مقابل شحّ المعلومات وندرتها. وهي استراتيجية ضرورية أيضاً لمنع العامة من الوصول إلى المعرفة الأساسية في مجالات العلوم والاقتصاد وعلم النفس وعلم الأعصاب، وعلم التحكم الآلي. حيث يحاول المتحكمون بالسياسة العالمية حسب الوثيقة "حافظوا على اهتمام الرأي العام بعيداً عن المشكلات الاجتماعية الحقيقية، اجعلوه مفتوناً بمسائل لا أهمية حقيقية لها. أبقوا الجمهور مشغولاً، مشغولاً، مشغولاً، لا وقت لديه للتفكير، وعليه العودة إلى المزرعة مع غيره من الحيوانات" .
ولا شك أن الدولة الحديثة ذات طبيعة تآمرية في جوهرها، خاصة فيما يتعلق بتعاملها مع الخارج. فالمجتمع الدولي ما يزال يسود فيه قانون الغاب رغم وجود المنظمات الأممية والمواثيق الدولية. وفي هذه الأدغال يسود منطق القوة، والمعلومات هي أكبر مصدر للقوة. ولهذا يُعتبر التجسس أحد أهم وسائل الدولة الحديثة، وبالقدر نفسه فإن الدولة القومية تتعامل بقسوة مع جواسيس الأعداء ومع المتهمين بالخيانة والتواطؤ مع العدو. ولكن الإشكال ينبع من أن الدولة الديمقراطية الحديثة مطالبة بالشفافية واحترام القانون في التعامل مع مواطنيها، وهناك إغراء للتلاعب بهذا الدور المزدوج لإخفاء معلومات قد تكون محرجة للحكومة والمسؤولين بدعوى حماية الأمن القومي، وهو تكتيك يلجأ إليه السياسيون والمسؤولون بكثرة، مما يستوجب يقظة الإعلام ووسائل الرقابة الأخرى لكشف مثل هذه الخدع.
يقدم نعوم تشومسكي في كتابه الجديد "السيطرة على الإعلام"، رؤية نقدية للدور السياسي للإعلام الأمريكي في التحكم في الرأي العام، ومسؤولية شركات العلاقات العامة التي تتعاقد معها الإدارات الأمريكية في بناء تصورات متحيزة حول كثير من القضايا والشؤون العامة التي تهمّ الإنسان الأمريكي في مجال سياسات الحكومة الداخلية والخارجية.
وإذا كان عدد من الكتاب والباحثين قد تناول قبل تشومسكي الدور الخطير للإعلام الأمريكي في تعليب الرأي العام وفق معطيات معينة تساهم في توجيهه بما يخدم الإدارات الأمريكية ويساعدها على تنفيذ سياساتها، فإن الجديد في كتاب تشومسكي الذي يثري به القارئ هو تحليل الفلسفة السياسية التي يستند عليها عدد من المثقفين والسياسيين الأمريكيين في تبرير دور الإعلام والدعاية في تحديد دور الجماهير في السياق الذي يتوافق مع توجهات الإدارات الأمريكية. كما أن تشومكي – في هذا الكتاب – يعود بنا في التاريخ ليبين لنا أن دور الإعلام الأمريكي في اختلاق الحقائق وتزييف التاريخ والتحيز السياسي الفاضح ليس وليد سياسة المحافظين الجدد – وإن كانوا قد أبدعوا في هذا المجال – وإنما يعود إلى عقود طويلة سابقة.
وفيما يتعلق بتسريبات ويكيليكس الأخيرة، فإن هناك عوامل عدة أعطتها وضعاً خاصاً بين التسريبات الإعلامية. فهي من جهة تسريبات بالجملة، يصعب تبريرها بحجة واحدة تغلب الدافع الأخلاقي، وهذا بدوره يعكس تطور أوضاع تداول المعلومات وتخزينها. ففي الماضي كان الحصول على وثيقة واحدة يفرض على طلابها أمثال جيمس بوند اجتراح المعجزات للدخول إلى عرين الأسد من رئاسة أجهزة مخابرات العدو أو مقر الخارجية. أما الآن فإن نقرة على فأرة الكمبيوتر يمكن أن تؤمن لك كل وثائق وكالة المخابرات الأمريكية وأنت جالس في عقر دارك، إن كانت لديك المفاتيح. وهناك أخيراً مسألة أن المنظمة التي تولّت التسريبات هي منظمة أجنبية، مما قد يوقعها تحت طائلة تهمة التجسس، بخلاف ما لو كانت المنظمة وطنية، عندها قد تتعرض لاتهامات أخرى.
الدولة الحديثة هي بلا شك في أحد جوانبها، حلقة تآمرية، ولكن هناك تباين حول الجهات التي تتآمر ضدها الدولة. فالدولة الديمقراطية تتآمر أكثر ضدّ الخارج وتكون أقل تآمراً على شعبها، بينما الحال هو العكس في الدول الدكتاتورية التي تتآمر أكثر على شعبها، غالباً بتواطؤ من الخارج. وهناك أوجه تشابه مهمة بين الدولة وعصابات المافيا، بحسب رأي عالم السياسة الأمريكي الشهير تشارلز تيلي. فكلاهما يتاجر بالحماية، ويزجي بضاعة لن تكون الحاجة ماسة إليها لولا ما يتسبّب هو فيه من مشكلات. وحين يعلن أحدهم الحرب على عصابة مافيا، فإنه لا بدّ أن يكون غاية في الحذر. يرى الكتّاب والمحللون أن تسريب وثائق "ويكيليكس" هو "انهيار للنظام المعلوماتي لدولة كبيرة هي الولايات المتحدة"، لم نشهد مثله، وأن الوثائق كشفت عن حجم الكذب والنفاق، لكن الحكومات التي أقلقتها التسريبات ستباشر من الآن عملها لتضمن ألا يتسرب المزيد من الوثائق والأسرار المحرجة،. وبالتأكيد سيؤدي هذا العمل إلى الشك في الدبلوماسية وهو أمر خطير، لأن نشر الشك في وظيفة الدبلوماسية كآلية للتواصل السياسي في العالم أمر شديد الخطورة والحساسية، وهو ما قال عنه وزير الخارجية السويدي كارل بيلدت في تعليقه على نشر الموقع للوثائق الأمريكية: "إنه يضعف الدبلوماسية".
ويكليكس أداة لكشف الحقيقة:
أكد مؤسس موقع ويكليكس في جلسة برلمانية علنية في مبنى البرلمان الأوروبي في بروكسل في 21 حزيران 2010 بأن الهدف الحقيقي وراء نشر مؤسسته للوثائق السرية بالدرجة الأولى هو هدف إنساني يبين أن الشعوب الأوروبية كشعب غربي لهم مواقف ضدّ الحرب الأمريكية على أية بقعة من العالم، وهذا ما عكسه موقعهم من خلال عملهم في الإعلام والاستفادة القصوى من التكنولوجيا المتاحة حالياً، هذه التكنولوجيا التي يمكنها الآن فضح الممارسات العدوانية للأنظمة ضدّ الشعوب الآمنة تحت ذرائع يتم خلقها وتوريدها إلى العالم بطرق مختلفة، وأكد على أنهم في موقع ويكيليكس يحاولون تسليط الضوء على خفايا الحروب ويريدون التركيز على الحقيقة التي تضيع في أروقة السفارات والوعود الدبلوماسية، وأشار إلى حقيقة أن الدبلوماسية الغربية تتلبّس الآن أقنعة لدرجة أن الإعلام الغربي بدأ يفقد مصداقيته التي حاولت الشعوب الأوروبية عبر نضالها الطويل إنجازها، فالقائمون على الإعلام الحر في أوروبا بدؤوا يتخوفون الآن من تقييده بسن قوانين شتى، لأنهم بدؤوا يشعرون أكثر من أي وقت مضى أن الآلة السياسية طغت على حرية الإعلام عبر توجهه ليكون طواعية لأهدافها سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي، فالإعلام الأوروبي موجه للخارج أو بعبارة أدق موجه للعرب (الأوروبيين ) وإعلام خارجي موجه للعرب في البلاد العربية، هذا بالضرورة أثرّ على طريقة تداول الحقائق وتشويه الحقيقية وما فعلناه في ويكيليكس هو وضع الحقيقة بيد الرأي العام العالمي . وأضاف أنه بنشرنا لآلاف الوثائق السرية حول سنوات الحرب الدائرة في أفغانستان، سنسلط المزيد من الأضواء على العنف المفرط والمعاناة اليومية التي خلفتها الحرب التي تخوضها الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون عند جبال الهندوكوش. وأضاف أسينج أنه يمكن لتلك الوثائق المنشورة أن تحدث تغيراًجذرياً في مواقف الرأي العام في المجتمعات الغربية وأصحاب التأثير السياسي والدبلوماسي فيها من الحرب الأمريكية في أفغانستان. واعتبر أن حجم المعلومات الضخم الذي كشفت عنه الوثائق سيجعل كل ما قيل ونشر حول حرب حلف شمال الأطلسي (الناتو) في أفغانستان بلا قيمة، ويهيل عليه ركام النسيان.
كيف تتمكن المؤسسة من الحصول على الوثائق السرية؟
أكد مؤسس الموقع أن شبكتهم تضم 800 متطوع يعملون بدوام جزئي ومئات الآلاف من المؤيدين، ويعتمدون - كما تسرب بعض الصحف منها النيويورك تايمز- على أجهزة خوادم في العديد من الدول التي توفر قوانينها المزيد من الحماية للتسريبات . وقال: إنه لا يمكنه التصريح للإعلاميين بأية معلومة سوى المعلن عنها أو الذي يتمّ تسريبه للإعلام. ويكفي أن أقول لكم إن ويكيليكس موقعها هو "كل مكان." ويقال في الإعلام إننا نستخدم اتصالات مشفرة، وهناك اشتباه في وجود مراقبة، نحن وفريق العمل الدولي الذي نعمل معه نحاول أن ننسف كل الأفكار التقليدية لنقل الخبر الصحفي، فنحن نستخدم شبكة من الأشخاص العاديين للحصول على الأخبار، وهو ما يطلق عليه خبراء الصحافة اسم "صحافة المواطنة"، ونعني استخدام العديد من الأشخاص لمعرفة الأمور بدلاً من الاعتماد على الصحفي الاستقصائي وحده.
علاقة ويكيليكس بالمؤسسات الإعلامية:
كثير من المختصين يحاولون البحث عن أسس العلاقة التي ربطت بين ويكيليكس والمؤسسات الإعلامية مثل صحف نيويورك تايمز الأمريكية و الغارديان البريطانية ومجلة دير شبيغل التي تنشر معلومات عن الوثائق السرية بالاعتماد على موقع ويكيليكس ، ردّ ذلك بعضهم إلى أنه يمكن أن يكون تعاون إعلامي بين ويكيليكس والمؤسسات الإعلامية الكبرى، والبعض الآخر يرى فيها سياسة إعلامية ذكية اتبعها مؤسسو الموقع لزيادة الإثارة والدعاية للمؤسسة.
ومن جهته أكّد مؤسس الموقع أن حصول المؤسسات الإعلامية العالمية الثلاث على الوثائق يعد أول محاولة من الموقع للتعاون مع وسائل إعلامية كبرى، رغبة منهم في دراسة تأثير هذا التعاون ومحاولة تكراره مستقبلا مع مؤسسات إعلامية دولية أخرى على نطاق واسع. ولكن اشترط القائمون على الموقع ضرورة مراعاة الصحيفتين والمجلة عدم تعريض حياة الجنود الغربيين في أفغانستان للخطر بنشرهم للوثائق، لذلك اقتصرت الغارديان على نشر جزء من الوثائق وليس كل ما حصلت عليه من وثائق، عكس حرصها على عدم تهديد العمليات العسكرية الدائرة عند جبال الهندوكوش.
تهديد لحياة المدنيين:
ذكر دانيال يتس Danial Yates الضابط السابق بوكالة المخابرات البريطانية لصحيفة الغارديان بأن تسريبات الويكيليكس لوثائق عن يوميات الحرب الأفغانية قد يعرض حياة مدنيين أفغان لخطر انتقام طالبان، وهنا يطرح التساؤل نفسه هل ستكون الحقيقة مكلفة ؟ وهل سيأتي نشر الحقيقة على حساب أشخاص مدنيين ؟ قدّم جوليان أسينج شرحاً مفصلاً بأنهم قبل أن يقدموا على نشر أية وثيقة يحاولون جاهدين عدم نشر أسماء أبرياء ويحاولون إخفاء النسخ الأصلية ضمانة لعدم وقوع تلك الوثائق في أيدي أناس لا تقدر المسؤولية، بالتأكيد وثائق الحرب السرية على أفغانستان تحتوي على أسماء أشخاص يتعاونون مع قوات حلف الناتو، ويمكن أن يشكّل هذا تهديداً لهم من قبل طالبان، ولكن لابدّ من نشر الحقيقة حتى تتضح معالم الصورة رغم محاولاتنا التدقيق في أسماء الأشخاص ووظائفهم، ولكن تسعى المؤسسة للكشف عن الوجه الآخر للحرب على الإنسان، وقد تكون الحقيقة مكلفة. ومن مبدأ أخلاقي وقبل نشرنا الوثائق في تموز 2010 حاولنا الاتصال بالبيت الأبيض طالبين منهم أن يحددوا أسماء قد يطالها خطر انتقام طالبان، ولكننا لم نتلق أي رد على ذلك، ونحن ما زال لدينا 15000 وثيقة سرية، يتم التدقيق فيها سطراً سطراً، وسيتم حذف أناس أبرياء قد يتعرضون لخطر انتقام طالبان لاتصالهم مع قوات حلف الناتو.
المخابرات الأمريكية تطارد مؤسس الموقع:
تبرر المخابرات الأمريكية مطاردتها لمؤسسي الموقع بحجة خطورتهم على الأمن القومي الأمريكي، وتعتبر جوليان أسينج Julian Assange مهدداً حقيقياً للأمن القومي الأمريكي ليس بتهمة إرهابية، وإنما بتهمة كشفه للحقائق عن طريق ممارسة العمل الصحفي بشكل مختلف تماماً عن السائد والمألوف، فقد استطاع الحصول بطريقته الخاصة على مجموعة ضخمة من الوثائق التي تثبت تورط الأمريكان في كثير من الجرائم الإنسانية وجرائم الحرب، وقام بنشرها ليفضح كل الطروحات الأمريكية التي تختفي في كل مرة خلف قناع معين .
ولكن أكد أسينج أن السبب الحقيقي وراء التخوّف الأمريكي منه ومن موقعه هو الخوف من الحقيقة التي تعكس صورتهم الحقيقية، لأن ما يجعل أمريكا اليوم متواجدة على الساحة العالمية هي حالة الشيزوفرينا، التي يعاني منها أفراد إداراتها، فهم يظهرون صورتهم عكس الحقيقة ويكرهون مواجهة تلك الحقيقة الصعبة، وهم يطاردونني لأنهم يعرفون أنني أحب البحث عن الحقيقة ، لأنشرها.
ردود الفعل الأوروبية:
تراوحت ردود الفعل في الأوساط الدبلوماسية في العالم بين الصدمة والإحراج، إثر قيام موقع "ويكيليكس" بنشر مضمون نحو ربع مليون برقية دبلوماسية أمريكية، كشفت بشكل خاص الخوف الكامن لدى الكثير من الدول إزاء البرنامج النووي الإيراني.
وفي سياق ردود الفعل الأوروبية أعرب وزير الخارجية الإيطالي فرانكو فراتيني عن خشيته أن تكون هذه التسريبات مثل هجمات 11 أيلول بالنسبة للدبلوماسية، وأن تنسف الثقة بين الدول. وفي مقابلة معه ضمن برنامج تلفزيوني قال: " إن تسريبات ويكيليكس تؤثر في صميم العمل الدبلوماسي العالمي لأنها تقوّض الثقة المتبادلة التي هي أساس العلاقات الدولية."
كما نشرت صحيفة "الغارديان" البريطانية آراء مختلفة حول التسريبات بذكرها : "تسرُّب البرقيات الأمريكية يشعل أزمة دبلوماسية عالمية". وكانت الغارديان حصلت على هذه الوثائق من موقع ويكيليكس مثلها مثل أربع من كبار الصحف العالمية الأخرى هي نيويورك تايمز الأمريكية، واللموند الفرنسية، والباييس الإسبانية وديرشيبغل الألمانية.
وبخلاف التسريبات الأولى لويكيليكس حول أفغانستان في تموز 2010 التي لم تتضمن سوى القليل من الأسرار، وحول العراق في تشرين الأول التي ركزت على التجاوزات التي تقوم بها الفصائل المتنازعة في العراق، فإن الوثائق الأخيرة ألقت الضوء بفجاجة على خلفيات الدبلوماسية الأمريكية ووضعت الولايات المتحدة في موقف حرج.
هذا وأدانت بريطانيا من جهتها النشر بقولها: "أي نشر غير مسموح به لمعلومات سرية" معتبرة أن هذا الأمر يمكن " أن يعرّض الأمن القومي للخطر".
وفي فرنسا، أعلن المتحدث باسم الحكومة الفرنسية فرانسوا باروان أنّ باريس "متضامنة تماماً مع الإدارة الأمريكية" ضدّ نشر هذه الوثائق، الذي قد يشكّل حسب قوله "تهديداً للسلطات الديمقراطية".
وفضّلت الأمم المتحدة عدم التعليق على الوثائق التي تشير إلى طلب الجانب الأمريكي جمع معلومات حول كبار موظفيها في العالم، إلا أنّها شددت على ضرورة "احترام الدول الأعضاء" لحصانة موظفيها.
كما ندّدت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون بنشر موقع ويكيليكس لمراسلات سرية بين واشنطن وحلفائها واعتبرته عملاً غير قانوني، وقالت كلينتون: إن التسريبات تشكّل هجوماً ليس فقط على مصالح السياسة الخارجية الأمريكية بل وعلى المجتمع الدولي.
وفي الكيان الإسرائيلي أعلن مسؤول إسرائيلي كبير أنّ "إسرائيل" تشعر بالارتياح بعدما كانت تخشى إحراجاً جدياً بفعل مضمون الوثائق الأمريكية التي نشرها موقع ويكيليكس. وقال مسؤول حكومي كبير رافضاً الكشف عن اسمه، تعليقاًعلى ما نشره الموقع حتى الآن "خرجنا بصورة جيدة".
تداعيات هذه التسريبات على مستقبل العمل الدبلوماسي وسريّة المراسلات الرسمية بين الدول:
أعلن موقع ويكيليكس أنه أراد بنشره لهذه الوثائق تسليط الضوء على "التعارض" بين الموقف الرسمي الأمريكي "وما يقال خلف الأبواب الموصدة"، وقد رسمت تسريبات ويكيليكس صورة لعلاقات وزعامات دول العالم بعيدة عن المجاملات الدبلوماسية المألوفة، دول عربية تحث واشنطن على ضرب إيران، و"إسرائيل" تريد ذلك في أقرب وقت. ديمقراطية روسية تحتضر في ظلّ رئيس دمية يتحكم بها فلاديمير بوتين، ونظرة متوجسة لنيكولا ساركوزي وأخرى تستخف بكفاءة أنجيلا ميركل، وصولاً إلى مواقف غير معروفة عن الصين، معطيات أثارت موجة ردود شكّلت في نظر كثيرين بوادر أزمة دبلوماسية عالمية من نوع جديد، هذه التسريبات ستؤدي بالضرورة إلى إجراءات رسمية وسرية ربما بدأت معظم الدول في البحث عن وسائل خاصة بها حفاظاً على أقصى سريّة ممكنة لوثائقها.
غايات وأهداف خفية من وراء ويكيليكس:
يقع نشر الوثائق الدبلوماسية الأمريكية ضمن عدة سيناريوهات، ويمكن أن يكون ويكيليكس فخاً اقتصادياً للعرب، فبعد كل الملابسات التي أحاطت بموقع ويكيليكس ومؤسسيه من المدافعين عن حقوق الإنسان يبدو أن الأمر برمته عبارة عن فيلم أمريكي طويل من نوع الأكشن، ولكنه بمثابة الفخ أو الطعم الذي يُرمى للمتلهفين إلى الفرقعة الإعلامية، والذين يضعون أنفسهم دون أن يدروا أحياناً كأدوات بيد الآلة الدعائية العالمية، التي تشرف مراكز الأبحاث الأمريكية على صناعتها وترويجها .
وفي قضية ويكيليكس يبدو أن المنطقة العربية قد دهشت وصدقت الكشوفات التي قام بها هذا الشاب الذي سرّب مجموعة من الوثائق لم تستطع أن تدهش الجمهور المعادي لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية، لأن هذا الجمهور يعي جيداً كل التجاوزات الأمريكية بحق البلدان والناس والقيم.
ويبدو أن اللعبة أبعد بكثير من مسألة كشف وثائق تدين أمريكا، فمن الواضح أن هناك اتفاقاً صريحاً أو غير صريح بين الموقع وصاحبه أسينج والولايات المتحدة يهدف إما إلى إعطائه مصداقية عالية ليسرّب بعدها معلومات ضدّ دول معادية لأمريكا، لأن الوثائق التي سربت ضدّ الولايات المتحدة لن يستطيع أحد أن يتخذها ذريعة لضرب الولايات المتحدة كما تفعل حينما تبحث عن ذرائع لضرب أعدائها، أو لهدف اقتصادي مبني على لعبة إعلانية وإعلامية مرتبطة بشركات البرمجة العالمية، حيث يمكن أن يتم تضخيم وتهويل حركة التجسس الإلكتروني، وقد يكون من وراء ذلك كله صفقة رابحة لأصحاب تلك الشركات، الذين يرتبط معظمهم بالسلطة السياسية، وذلك لإنتاج برامج جديدة لحماية منظومة البرامج الإلكترونية، وخاصة ذات لطابع السرّي، وبالتالي يتم تسريب تلك المعلومات على موقع ويكيليكس، وإظهار صاحب الموقع على أنه صاحب المصداقية وأنه شهيد المرحلة لتمرير أي هدف اقتصادي، أو حتى سياسي، ويتلقّف العالم العربي مثل تلك الألعاب، ويقع مباشرة في فخ تصديقها باعتبارنا مجتمعات وأشخاص نعيش حيوات سرّية متعددة.
الخلاصة :
تعتبر ظاهرة ويكيليكس نقطة تحوّل تاريخية في طرائق العمل والاتصال الدبلوماسي، ودرجة السرّية فيه، والقدر المسموح من الحقيقة بالظهور، خاصة في ظل ثورة الاتصال والفيسبوك وتدفق المعلومات على الشبكة العالمية، ولقد مارست صحف ومحطات تلفزيونية عالمية نشر وثائق على جانب كبير من الأهمية، كان آخر ذلك ما نشرته محطة الجزيرة الفضائية عن وثائق المفاوضات الإسرائيلية-الفلسطينية، وما نشرته محطة الجديد التلفزيونية اللبنانية عن وثائق التحقيق في اغتيال الحريري .
ونحن إذ نقدم هذه الدراسة فإنه من السابق لأوانه تقييم ويكليكس في الدوافع والغايات، ومن يقف وراء هذه الظاهرة، ونحن لا نتبنّى إلا الحقائق، وندعو للتدقيق العلمي والحذر الدائم، ولكن الظاهرة في حدّ ذاتها أحدثت تأثيراً في المجال الدبلوماسي والإعلامي، وما زالت تفاعلاتها مستمرة حتى الآن، وكل ما نطلبه هو الشفافية في التعامل خاصة فضح الكيان الصهيوني وممارساته.