الأحد، 16 فبراير 2014

الأسباب الرئيسية للفساد في السلطات القضائية في البلدان النامية

الأسباب الرئيسية للفساد في السلطات القضائية في البلدان النامية

يركز هذا الحقل، المعروف بحقل القانون واقتصاد التنمية، جل اهتمامه على الآثار التي يتركها النظام القانوني والقضائي الصالح على الكفاءة الاقتصادية والتنمية. يشير آدم سميت في محاضراته عن القانون أن العامل الذي أعاق تطور التجارة بشكل كبير كان ضعف النص القانوني وعدم التيقن من النتائج بعد التطبيق ((Smith, 528. إن الممارسات الفاسدة الراسخة، وبخاصة تلك الراسخة في القطاع العام ( أي الفساد النظامي الرسمي)، تعيق التعريف الواضح للقانون وتطبيقه، وبناءً عليه، فكما أشار Smith (1978)، هذا ما أعاق التجارة. ويعتبر المنهج العلمي في تحليل الفساد متطلباً أساسياً في النضال من أجل مكافحة الآفات الاجتماعية. الفساد ليس استثناءً. الفساد المنظم هو الذي يستخدم المكاتب العامة لغايات شخصية راسخة لا تستطيع بدونها المؤسسة أو المنظمة العمل كمورد للبضائع أو الخدمات. وتقل إمكانية اكتشاف الفساد كلما أصبح الفساد منظماً أكثر. وإذن، عندما يصبح الفساد منظماً يصبح تطبيق الإجراءات التقليدية لمعاقبة مرتكبي الأفعال غير المشروعة أقل تأثيراً بينما تصبح الإجراءات الوقائية كالتغير المؤسسي (أي التقليل من التعقيدات الإجرائية في تقديم الخدمات العامة)، زيادة الرواتب وإجراءات أخرى أكثر نجاعة. يخضع أيضاً تطور وتدهور الفساد المنظم إلى قوانين السلوك البشري. لذا علينا أن نعرف القوانين بشكل أفضل قبل تطبيق السياسة العامة. ولتحقيق هذا الهدف علينا: 
وضع سياسة مطالبة (أي إدارات تتركز السلطة التنظيمية فيها في أيدي بعض المسئولين في القطاع العام-  بدون رقابة خارجية – حينها يكون عرضة لسلوك الفساد). 
وضع تفسير منطقي لسياسة المطالبة (أي لماذا يسير التركيز العالي للسلطة الإدارية جنباً إلى جنب مع السلوك الفاسد). 
جمع المعلومات التي تدعم أو تدحض الادعاء
تصميم سياسات عامة استناداً إلى النتائج
وفي هذا السياق، ومن أجل تصميم سياسات عامة لمحاربة الفساد، فانه من الضروري بناء قاعدة بيانات للمعلومات الكمية والكيفية التي لها علاقة بالعناصر التي يعتقد بأنها مرتبطة ببعض أشكال ممارسات الفساد المنظم (الاختلاس، الرشوة، الابتزاز والاحتيال)؛ مثال: يعمل البنك الدولي حالياً على تجميع قاعدة بيانات لأنظمة القضاء في العالم أجمع (Buscaglia and Dakolias 1999) والتي تغطي العوامل المرتبطة بالنجاحات النسبية التي تحققت في الكفاح من أجل إقامة نظام قضائي كفء.
تظهر التجارب الدولية أن  إجراءات بعض السياسات الكلية المرتبطة بانخفاض الفساد مع ما هو في البلدان الممتدة ما بين أوغندا وسنغافورة، وما بين هون كونغ وتشيلي (Kaufmann 1994). وتتضمن هذه الإجراءات تخفيض التعرفات الجمركية والحواجز التجارية الأخرى؛ توحيد سوق الصرف وأسعار الفائدة؛ إلغاء معونات المنشآت؛ تحديد المتطلبات الإجرائية لتنظيم وترخيص المنشآت؛ حواجز أخرى لدخول السوق؛ الخصخصة ورفع الاحتكار عن الأصول الحكومية؛ تعزيز الشفافية في معايير المعاملات البنكية (المصرفية) والمحاسبة والتدقيق؛ تحسين إدارة الضرائب والموازنات.
أما الإصلاحات المؤسساتية التي تعيق ممارسات الفساد فتتضمن إصلاحات الخدمة المدنية، إصلاحات قانونية وقضائية وتقوية وتوسيع الحريات المدنية والسياسية. وأخيراً هناك الإصلاحات التنظيمية الجزئية مثل تحسين الإجراءات الإدارية لتجنب اتخاذ القرارات المبنية على التقدير الشخصي والازدواجية في المهام، بينما يتم إدخال معايير جديدة  لتقييم أداء جميع الموظفين (بناءً على الوقت والإنتاجية)؛ تحديد الرواتب على أساس الأداء؛ خفض درجة السلطة التنظيمية للأفراد داخل المؤسسة؛ والتقليل من التعقيدات الإجرائية؛ وجعل القوانين والأنظمة الداخلية متاحة ومعروفة للمسئولين والمستخدمين (Buscaglia and Gonzalez Asis 1999).

التسلسل الزمني لرسم سياسات مكافحة الفساد

يُنصح باستخدام الخطوات التالية عند تصميم سياسات لمكافحة الفساد:
1. يجب إجراء تحليل تشخيصي للبلد لتحديد، ضمن قائمة أولويات، المناطق الرئيسية التي ينشأ فيها الفساد المنظم؛ يجب أن يجرى هذا التحديد من خلال مسح لمستخدمي الخدمات الحكومية، المشاريع، ودافعي الضرائب ؛ ويجب أن يطبق هذا المسح على جميع المؤسسات الحكومية (مثل الجمارك، السلطة القضائية وكالة الضرائب وغيرها). 
2. بعد تحضير قائمة الأولويات بالمناطق حيث ينشأ الفساد المنظم، يتم تطوير قاعدة بيانات لكل هذه المؤسسات بحيث تشمل إجراءات الفساد الموضوعية وغير الموضوعية (مثل تقارير الفساد، اتهامات الاحتيال والابتزاز والاختلاس والرشوة في المؤسسة ذاتها، والأسعار التي تحددها المؤسسة والمتغيرات الأخرى التي يعتقد بأنها تفسر الفساد. جمع معلومات عن الفترة الزمنية لإجراءات الوقت المتعلقة بتقديم الخدمات الحكومية، نظرة المستفيدين للكفاءة والفعالية والفساد، والوصول للمؤسسة؛ التعقيدات الإجرائية في تقديم الخدمات ...الخ.
3.إجراء تحليل إحصائي يحدد بوضوح الأسباب والعوامل التي تؤدي إلى الفساد في مؤسسة حكومية محددة. تحديد ما إذا كانت أي من العناصر الاقتصادية المؤسساتية أو التنظيمية المذكورة أعلاه لها علاقة بالفساد.
4.عندما تكتمل مراحل التشخيص والتحديد، يجب مشاركة المجتمع المدني في تطبيق ومراقبة سياسات مكافحة الفساد؛ كما يجب تطوير خطة عمل من خلال إجماع بين المجتمع المدني والحكومة على أن تحتوي الخطة على المشاكل، والحلول وبرنامج زمني لتطبيق الحلول والنتائج المتوقعة.

لقد تم تطبيق هذا النهج على المستويين القضائي والبلدي في عدد من البلدان مما أظهر نتائج هامة (Buscaglia and Dakolias 1999). في هذه الحالات تم استخدام الخطوات التالية: أولاً: تم إجراء مسح للمستفيدين الذين تقدموا بطلبات للحصول على تصاريح معينة من حكوماتهم المحلية (مكتب المقاطعة في فنزويلا). تمت مقابلة المستفيدين فوراً بعد الانتهاء من تعبئة الطلب، وطلب منهم ترتيب الكفاءة والفعالية لاستمارة ومستوى ونوعية المعلومات التي يحصلون عليها، والفساد في الإجراءات الإدارية المستخدمة للحصول على رخصة بناء أو صناعة. ثانياً: تم تجميع بيانات كمية وكيفية لتحديد المتغيرات التي أثرت على إجابة المستفيدين على الاستمارة  من خلال تطبيق  التحليل الإحصائي. تمت دراسة نتائج الدراسة التشخيصية في ورشة عمل شارك فيها ممثلون عن المجتمع المدني والحكومة المحلية حيث استطاع  ممثلو المجتمع المدني والحكومة المحلية الموافقة على النتائج أو معارضتها. 

عندما يتفق المجتمع المدني والحكومة على ماهية المشاكل يجري فريق متداخل الحقول بإجراء دراسة فنية تجريبية تسلط الضوء على التقليل من الفساد وزيادة الكفاءة في المجالات التي تمت تغطيتها في الدراسة التشخيصية (مثل: مسألة إصدار التصاريح). هذه الدراسة الفنية التي حددت الآليات للتقليل من الفساد وزيادة الكفاءة والفعالية قد تمت لاحقاً مناقشتها وفهمها كما تم قبولها من قبل أعضاء المجتمع المدني والحكومة المحلية. استطاع المجتمع المدني ابتكار آليات لمراقبة وتنفيذ الإصلاحات آخذة بعين الاعتبار تحديد مواعيد محدد لإنجاز العمل. يجب أن يتم قياس نتائج تطبيق الإصلاحات بعد عدة أشهر من الانتهاء من مرحلة التطبيق وذلك من خلال مسح  أخر للمستفيدين المتقدمين بطلبات للحصول على نفس نوع التصاريح. بعد ذلك تمت مقارنة النتائج الفعلية مع النتائج المتوقعة، التي سبق وان تم تعريفها  كأهداف من قبل مجموعات المجتمع المدني. تظهر هذه التجارب أن شن أي حملة لمناهضة الفساد يجب أن تستند إلى أسس علمية متعددة الحقول راسخة يطبقها الباحثون وأصحاب المهن والمجتمع المدني. وأخيراً فإن سياسة واضحة ومحددة تحديداً جيداً ومتسلسلة الخطوات، كما ذكر سابقاً، هي القادرة على بناء سياسة إجماع راسخة سليمة لمحاربة الفساد المنظم. وهذا لا يتم إلا من خلال منهج متعدد الحقول والمنهجية والبيانات والتحليل العلمي لما يصلح أو لا يصلح.

أدرك العلماء أهمية النظر في أمور تتجاوز تحليل آثار الفساد على النمو الاقتصادي والاستثمار، وقد بين بعضهم الحاجة الملحة لعزل الأعمدة الرئيسية التي تخلق حوافز للفساد (Rose -Ackerman 1997; Langseth and Stolpe, + 2001)). كما حددت الأدبيات بصورة عامة الحالات التي ينشأ فيها الفساد، ولم تكن مترابطة أو متعمقة . ومن ناحية أخرى لم يتم التطرق بعمق إلى العوامل المحفزة للفساد في المحاكم في هذه الأدبيات. ومن ناحية ثانية فإن الحاجة الملحة لعمل سياسة تجريبية قابلة للاختبار مناهضة للفساد في المحاكم ضرورية جداً لدمج الدراسة في الاتجاه السائد في العلوم الاجتماعية.

تم تقديم إطار لهذه الأبحاث التجريبية من قبل Buscaglia (1997a) في الإكوادور وفنزويلا ومن قبل Buscaglia and Dakolias (1999) في الإكوادور وتشيلي، مما يفسر التغيرات السنوية التي جرت على تقارير الفساد في المحاكم الابتدائية التي تناولت القضايا التجارية. يبين  هذا العمل بأن هياكل إدارية محددة وأنماط سلوكية داخل المحاكم في البلدان النامية تجعل ممارسات الفساد المنظم عرضة للانتشار السريع الخارج عن السيطرة. على سبيل المثال، فإن عملهم هذا قد وجد أن المحاكم النموذجية في أمريكا اللاتينية توفر حوافز إدارية داخلية تجاه الفساد. إن تحليلاً قانونياً اقتصادياً حول الفساد يجب أن يكون قادراً على كشف الأسباب التي تجعل استخدام المكاتب العامة للأغراض الشخصية هو القاعدة العامة. نظرياً، تمتلك معظم البلدان النامية قانوناً جنائياً يعاقب على ممارسة الفساد، وأنظمة تدقيق خارجية داخل المحاكم لمراقبة الوضع والسيولة النقدية. حتى لو عملت هاتان الآليتان بشكل دقيق فلن تكون كافية لمكافحة الفساد المنظم وتطبيقاته في القانون؛ لذا فإن أبعاد أخرى بحاجة لمعالجة.

إن أنماطاً محددة في المنظمة الإدارية في المحاكم مقرونة بدرجة عالية من الحذر القانوني والتعقيدات الإجرائية تسمح للقضاة وموظفي المحاكم بانتزاع رسوم إضافية غير مشروعة مقابل الخدمات التي يقدمونها. ويرىBuscaglia (1997a)  أيضاً أن هذه الخصائص التي تنمي ممارسات الفساد بالإضافة إلى النقص في توفير الآليات البديلة لحل النزاعات تعطي النظام الرسمي للمحاكم احتكاراً شبه كامل. بصورة أدق، بحسب رأيBuscaglia (1998)  و  Buscaglia and Dakolias (1999)، فإن ممارسات الفساد تعزز عبر: 1) تركيز الأدوار التنظيمية الداخلية بيد حفنة من صانعي القرار في المحكمة (مثل: القضاة الذين يسيطرون على عدد من الأدوار الإدارية والقضائية ضمن دائرتهم)؛ 2) عدد وكثرة التعقيدات في الخطوات الإجرائية مقرونة بالنقص في شفافية الإجراءات المتبعة في المحاكم؛ 3) شك كبير مرتبط بالمعتقدات السائدة والقوانين والأنظمة (مثل: ازدياد التناقض في تطبيق القانون في المحاكم بسبب قلة توفر قواعد البيانات القانونية وأنظمة المعلومات الدفاعية في المحاكم)؛ 4) قلة المصادر البديلة لحل النزاع؛ 5) وأخيراً، وجود مجموعات الجريمة المنظمة (مثل: كارتل المخدرات).

هذه العناصر الخمسة المرتبطة بالفساد توفر دليلاً واضحاً لصنع السياسات العامة. سنت بعض البلدان النامية مثل تشلي وأوغندا قوانين إجرائية وأدخلت بدائل لحل النزاع شهدت نقصاً في التقارير حول فساد المحاكم.
زيادة على ذلك فإن التجارب الناجحة في سنغافورة وكوستا ريكا قد أثبتت أن الفساد قد قل كنتيجة لإنشاء مكاتب إدارية متخصصة تساند المحاكم في قضايا مرتبطة بإشعارات المحاكم والموازنة وإدارة الموارد، السيولة النقدية.  لهذه المكاتب الإدارية المساندة التي تشاركت فيها عدة محاكم نظام إداري لامركزي لاتخاذ القرار ويجري العمل على تقليص المهام التنظيمية غير المراقبة والمتركزة في أيدي القضاة  (Buscaglia 1997a).


الفساد وأثاره طويلة الأمد على الكفاءة والإنصاف
لاحظ بعض العلماء أن الفساد الرسمي يولد نتائج ايجابية آنية للمواطن أو المنظمة المستعدة والقادرة على دفع الرشوة (Rosenn 1984). مثالاً، فان Rose-Ackerman (1997) تتقبل فكرة " أن رشوة هؤلاء الذين يديرون قوائم طوابير الانتظار قد تكون فعالة لأنها  تعطي المسئولين حوافز للعمل  بشكل أسرع وتقدر الذين يثمنون وقتهم عالياً ". وتضيف أنه في بعض الحالات القصوى يجب أن تجاز الرشاوى غير المشروعة ((Rose-Ackerman 1997. هذا التصريح  يتجاهل الآثار التي يسببها الفساد  الحالي لنظرة الناس حول العدالة الاجتماعية والكفاءة طويلة الأمد. إن آثار الفساد الواسعة الانتشار في النظام الاجتماعي لها نتائج ضارة على الكفاءة على المدى البعيد. ولفهم هذا الواقع فأننا بحاجة إلى تطبيق نظرية اقتصادية أخلاقية لمفهوم تأثير الفساد طويل الأمد على الكفاءة.
إن معدل إدراك الفرد العادي لمدى عدالة النظام الاجتماعي له تأثير واضح على الحوافز التي يحصل عليها نفس الفرد لقيامه بنشاطات إنتاجية معينة (Buscaglia 1997a). بحثت الأدبيات في الكثير من الآثار السلبية التي يتركها الفساد على فعالية توزيع الموارد المتاحة، غير أن المصادر السابقة لم تول اهتماماً للآثار التي يتركها الفساد على إدراك الفرد مدى عدالة النظام الاجتماعي.
 أولاً: فان الأغلبية العظمى من السكان في البلدان النامية لا تستطيع دفع الرشاوى للمسئولين الحكوميين حتى ولو رغبت في ذلك، (Buscaglia 1997a).
 ثانياً: فان إيجاز الرشاوى غير القانونية لن يكون لها  تأثير على السلوك الاجتماعي في مجتمعات لا يحكم القانون الحديث فيها  التفاعل الاجتماعي بل تحكمها مجموعة من القواعد السلوكية العرفية والدينية.
إن الأثر الهام للفساد على الكفاءة المستقبلية هو نتيجة للأثر الذي تتركه الممارسات الرسمية للفساد على إدراك المواطن العادي للعدالة الاجتماعية. ويشيرHomans (1974) أن الوضع النسبي لأي فرد ضمن مجموعة بشرية يحدده مفهوم هذه المجموعة لمدى مساهمة هذا الفرد في المجال الاجتماعي ذات العلاقة. ويضيف Homans أن أي تغيير في الوضع المادي للفرد بدون أي تغير في مفهوم مساهمته الاجتماعية سيواجه بعداوة مفتوحة من قبل الأفراد الآخرين في المجتمع (أي أن الحسد قد يؤدي إلى الانتقام ودمار الثروة الاجتماعية). وبناءً عليه، من وجهة نظر Homans،  في الحالات التي يمارس فيها الفساد،  فأن التغير في الوضع المالي "الغير المبرر اجتماعياً" لأشخاص يقدمون أو يقبلون الرشاوى يعتبر خرقاً لفكرة المواطن العادي عما يشكل التسلسل الهرمي العادل للوضع في المجتمع.
ويمكن تطبيق نظرية الأخلاق ل Homansعن مفهوم آثار الفساد الرسمي المنظم على الكفاءة  مع مرور الوقت. فأعضاء المجتمع الذين لا يريدون أو لا يقبلون تقديم الحوافز غير المشروعة سوف يحرمون من كل خدمات الصالح العام (أي خدمات المحكمة). وفي هذه الحالة حتى لو رفع الفساد الحواجز البيروقراطية عن الذين يريدون أو يقبلون دفع الرشاوى فإن تقديم الخدمات العامة يصبح غير عادل في نظر كل الذين حرموا من هذه الخدمات لأنهم لا يرغبون أو لا يستطيعون أن يكونوا جزأً من صفقة فاسدة. إن الإحساس بعدم الإنصاف له آثار طويلة الأمد على التفاعل الاجتماعي. 

يعزز الفساد الرسمي المنظم نظاماً اجتماعياً غير عادل حيث يصبح تخصيص المصادر ضعيف الترابط مع الحقوق والواجبات المقبولة بشكل عام. يشير Buscaglia (1997a) أن تخصيص المصادر كما هو مفهوم يعرقل الحوافز التي تولد الثروة من قبل كل الذين تم استثناؤهم من تقديم الخدمات العامة الأساسية. إن المواطن العادي الذي لا يستطيع الحصول على إحدى هذه الخدمات نظراً لعدم قدرته على دفع الرسوم غير المشروعة، يتوقف عن طلبها من النظام الرسمي (Buscaglia 1997a). في كثير من الأحيان، فإن السعر العالي التي تفرضه النشاطات الفاسدة ضمن القطاع العام يجبر المواطنين على البحث عن آليات مجتمعية بديلة للحصول على هذه الخدمات (أي: آليات بديلة لحل النزاعات مثل المجالس العشائرية).

من ناحية ثانية فان هذه الآليات المجتمعية البديلة ليس لديها القدرة على تشكيل سابقة في بعض النزاعات القانونية (مثل: انتهاك حقوق الإنسان أو بعض القضايا الإدارية) كما يفعل نظام المحاكم. تؤكد وجهة نظر Hernando de Soto حول مؤسسات المجتمع المحلي في اليبرو على أن انخفاض القدرات الإنتاجية يسببها ارتفاع أسعار معاملات الحصول على الخدمات العامة (de Soto 1989)

مبدئيا،ً يعتقد المرء انه بإلغاء الحواجز البيروقراطية فإن دفع الرشاوى يمكنه أيضاً تعزيز الكفاءة الاقتصادية؛ ولكن هذه مغالطة لأن الفساد يمكنه أن يعود بالفائدة على الفرد القادر أو الذي يريد دفع الرشوة. من جهة أخرى (كما أشير أعلاه) فإن البيئة الاجتماعية تتأثر بشكل سلبي بسبب التناقص في الإنتاج الاقتصادي على مرور الزمن وذلك بسبب الاعتقاد السائد بأن توزيع الموارد المتاحة يتحدد بشكل أكبر بسبب الممارسات الفاسدة وأقل بسبب الإنتاجية، وبالتالي، فإن هذا  بطبيعته غير منصف. يخلق هذا الوضع بيئة يحتاج فيها الأفراد للبحث عن طرق غير مشروعة لنقل الثروة واستبعاد زيادة الأنشطة الإنتاجية. وفي هذا الصدد فأن الفساد الحالي يقلل من الإنتاجية المستقبلية ويقلل الكفاءة مع مرور الزمن.

الفساد والجمود المؤسسي
عند تصميم السياسات لمناهضة الفساد في المجالين القانوني والقضائي يجب أن نأخذ بعين الاعتبار ليس فقط التكاليف والمنافع للمجتمع المتمثل في القضاء على الفساد بشكل عام بل المنافع الفردية الحالية والمستقبلية والتكاليف كما يراها المسؤولون في القطاع العام الذين ستتناقص أجورهم غير المشروعة نتيجة للسياسات العامة المناهضة للفساد. تناقش الدراسات السابقة أن سن القوانين نابعة من طبيعة طول أمد فوائد الإصلاح في أذهان المصلحين، مثل تعزيز فرص العمل والاعتبار المهني (Buscaglia, Dakolias, and Ratliff 1995). هذه المنافع لا يمكن جنيها على المدى القصير من قبل المصلحون المحتملون داخل الحكومة. فالتباين مابين الطبيعة الفوائد طويلة الأمد والطبيعة قصيرة الأمد لتكاليف الإصلاح الأساسية تؤدي إلى انخفاض ملموس في الدخل غير المشروع للمسئولين في الدولة. إن هذا التباين مابين التكاليف قصيرة الأمد والمنافع طويلة الأمد تقف عائقاً أمام المبادرات المتعلقة بسياسات الإصلاح في القطاع العام. إذن فإن تسلسل الإصلاح يجب أن يضمن الفوائد للمصلحين من اجل تعويض خسارة الأجور غير المشروعة من قبل موظفو القطاع العام المسئولين عن تطبيق الإصلاح. بدورها، فإن مقترحات الإصلاح المنتجة لفوائد طويلة الأمد لأعضاء أنظمة المحاكم بحاجة إلى تطبيق في مراحل لاحقة من عملية الإصلاح Buscaglia, Ratliff, and Dakolias 1996) ).

على سبيل المثال، تجادل الدراسات القضائية السابقة في أمريكا اللاتينية بأن الجمود المؤسسي في سن القوانين نابع من منافع الإصلاح على المدى البعيد مثل زيادة الاستقرار الوظيفي واستقلالية القضاء والاعتبار المهني. التناقض بين الطبيعة طويلة الأمد لهذه الفوائد والطبيعة قصيرة الأمد للتكاليف الأساسية  للإصلاح القضائي للمصلحين (على سبيل المثال ، الرشاوى والإغراءات الصريحة غير الرسمية الأخرى المقدمة إلى موظفي المحاكم). إن هذا التباين بين تكاليف قصيرة الأمد وفوائد طويلة الأمد تعرقل الإصلاحات القضائية وتقف سداً منيعاً في وجهها وتفسر سبب عرقلة وتأخر إصلاحات المحاكم التي عادة ما تعود بالنفع على جميع فئات المجتمع
(Buscaglia, Dakolias, and Ratliff 1995). 

وفي هذا السياق، فإن إصلاحات المحاكم التي تعزز التوافق والشفافية والمساءلة أثناء عملية تطبيق القوانين ستقلل بالضرورة قدرة موظفي المحاكم للبحث عن مصادر دخل إضافية من خلال الرشاوى. إذن، فإن تسلسل الإصلاح يجب أن يضمن فوائد قصيرة الأمد  للإصلاحيين من اجل تعويض خسارة الأجور غير المشروعة التي سبق وحصل عليها موظفو القطاع العام المسؤولون عن تطبيق التغيرات. لذا فإن الإصلاح المبدئي يجب أن يركز على منافع قصيرة الأمد للموظفين في القطاع العام. بدورها، فإن مقترحات الإصلاح التي تنتج فوائد طويلة الأمد بحاجة إلى تطبيق في مراحل لاحقة من عملية الإصلاح.

هناك قوى إضافية أخرى تعزز مبادرات مكافحة الفساد. يُلاحظ عادة أن الفترة التي تحصل فيها أزمات في المؤسسات تتزامن مع توافق الرأي العام بين الموظفين العموميين من أجل إجراء إصلاح في القطاع العام. على سبيل المثال، في النظام القضائي، تبدأ أزمة القطاع العام عندما تزيد التراكمات والمدفوعات من تكلفة وصول الجمهور إلى النظام. عندما تزداد التكاليف يحد الناس من استخدامهم لخدمات المحاكم إلى حد تقل فيه قدرة القضاة وموظفي المحاكم على تبرير مواقعهم وانتزاع الأموال غير المشروعة من الجمهور العام. عندها تزداد مطالبة المسئولين بإجراء إصلاحات في المحاكم من أجل المحافظة على وظائفهم وسط احتجاج الجمهور Buscaglia, Dakolias, and Ratliff) ,1996, 35). عندها أيضاً فإن الوكالة العامة سترغب في إجراء إصلاحات أعمق طالما ستتضمن مقترحات لإصلاح مصادر الفوائد قصيرة الأمد مثل رواتب أعلى، استقلالية المؤسسات وزيادة الموازنات.

إذن فإنه من غير المفاجئ أن هذه البلدان النامية قد أجرت إصلاحات قضائية بعد أن تعرضت هذه البلدان لأزمة شديدة في نظام المحاكم والتي تضمنت كوستا ريكا، تشيلي،الأكوادور، هنغاريا، وسنغافورة (Buscaglia and Dakolias 1999). في كل بلد من هذه البلدان الخمس فوائد إضافية قصيرة المدى قد كفلت الدعم السياسي لعدد من القضاة الرئيسيين الذين ابدوا استعداداً لمناقشة مقترحات الإصلاح القضائي فقط بعد أن هددت الأزمة العميقة وظائفهم
 (Buscaglia and Ratliff 1997). وقد تضمنت هذه الفوائد رزمة سخية لتقاعد مبكر، ترقيات للقضاة والكادر المساند، أبنية جديدة، وموازنات موسعة.

بالرغم من ذلك، ومن أجل ضمان إصلاحات دائمة مناهضة للفساد، فإن الفوائد قصيرة المدى يجب أن تمر من خلال آليات مؤسساتية قادرة على المحافظة على ديمومة الإصلاح. أفضل سيناريو مؤسسي هو السيناريو الذي تكون فيه إصلاحات القطاع العام نتاج إجماع يشمل السلطة التشريعية والسلطة  القضائية ونقابة المحامين والمجتمع المدني. مع ذلك، لنضع في اعتبارنا أن الهيئات التشريعية تعارض في بعض الأحيان إعادة هيكلة المحاكم بشكل خاص وبشكل عام المؤسسات العامة التي يتقاضى منها بعض المشرعين أجوراً غير مشروعة.

لقد استعرضت هذه الورقة الأدبيات الحديثة ذات العلاقة بالآثار الاقتصادية للفساد الراسخ في القطاع العام بشكل عام ونظام المحاكم في البلدان النامية بشكل خاص. تشدد الدراسة على الحاجة لتطوير تفسيرات علمية للفساد تحتوي على مؤشرات موضوعية واضحة المعالم لنشاطات الفساد. وفي نفس، السياق تقترح الورقة بأن الآثار التنظيمية والقضائية والقانونية المشتركة مع المتغيرات الاقتصادية قادرة على تفسير تكرار حدوث الفساد في المحاكم في البلدان النامية

إضافة إلى ذلك، تصف الورقة كيف تؤثر اعتبارات العدالة لدى الأفراد على الكفاءة طويلة الأمد. ويمكن لعلماء النفس الاجتماعي إلقاء مزيدٍ من الضوء في الدراسات المستقبلية على ربط أثار الفساد بالإنصاف والكفاءة. وأخيراً، من اجل أن نفهم ونحيد الجمود المؤسسي خلال الإصلاحات من اجل مكافحة الفساد، يجب على كل الدراسات المستقبلية أن تدمج هوية كل التكاليف والفوائد المرتبطة بكل الذين يصلحون مؤسسات القطاع العام والمسئولين فيها عن تطبيق السياسات الجديدة لمكافحة الفساد.

والسؤال الذي يطرح نفسه عند تطوير أي نهج لرسم السياسة العامة لمكافحة الفساد هو كيف نصنع سياسات عامة قائمة على أسس علمية سليمة تكون مقبولة ومتبناة من قبل المجتمع المدني والقطاع العام على حد سواء؟ الجواب على هذا السؤال شرط ضروري من اجل تطوير اجتماع حول سياسة عامة دولية (ما زالت مغيبة) من اجل مكافحة الفساد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Ads Inside Post